الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنشد بعده، وهو الإنشاد العاشر بعد الثلاثمائة:
(310)
عد النَّفس نعمى بعد بؤساك ذاكرًا
…
كذا وكذا لطفًا به نسي الجهد
على أنَّ كذا لا تستعمل غالبًا إلَّا معطوفًا عليها. قال ابن مالك في "شرح التسهيل": وأمّا كذا ففيها ما في كائن من التركيب الموجب للحكاية، وفيه زيادة مانعة من الإضافة، وذلك أن عجزها اسم لم يكن له قبل التركيب نصيب في الإضافة، فأبقي على ما
كان
عليه .. إلى أن قال: وأما كذا فلم يجئ مميِّزها إلَّا منصوبًا كقوله: عد النفس نعمى .. البيت، وقال أيضًا: واستعمال كذا دون تكرار قليل، وكذا استعماله مكرّرًا بلا عطف. انتهى المقصود من كلامه.
"كأنَّ"
أنشد فيه، وهو الإنشاد الحادي عشر بعد الثلاثمائة:
(311)
فأصبح بطن مكَّة مقشعرًا
…
كأنَّ الأرض ليس بها هشام
على أنَّ "كأنَّ" فيه عند الكوفيين للتحقيق. وقال المبرّد في "الكامل": يقول: هو وإن كان مات فهو مدفون في الأرض، فقد كان يجب من أجله أن لا ينالها جدب. انتهى. وكتب ابن السيد البطليوسي في "حاشيته" عليه: هذا التفسير على قول من جعل "كأنَّ" في هذا البيت بمعنى التعجّب، فكأنه يعجب من إجداب الأرض، وهشام مدفون فيها وإنما كان ينبغي أن لا تجدب لكونه فيها. وقوم يجعلونها بمعنى الشك، ومعناه: إنَّ الأرض أجدبت حتى ظنَّ وتوهم أنَّ هشامًا ليس مدفونًا فيها. وذهب إلى أنَّ كأنَّ ههنا للتحقيق، أي: إنَّ الأرض أجدبت وهشام ليس فيها، أي: ليس على ظهرها، وإليه ذهب السيرافي. انتهى. وقال ناظر الجيش:
زعم بعضهم أنَّ كانَّ قد تكون للتحقيق دون تشبيه، واستشهد على ذلك بقول الشّاعر: وأصبح بطن مكة .. البيت، وبقول الآخر:
كأنَّني حين أمسي لا تكلِّمني
…
ذو نعمةٍ يبتغي ما ليس موجودًا
والصحيح أن كأن لا يفارقها التشبيه، ويخرج البيت الأوَّل على أنَّ هشامًا وإن مات فهو باقٍ ببقاء من يخلفه سائرًا بسيرته. وأجود من هذا أن تجعل الكاف من كأنَّ في هذا الموضع كاف التعليل المرادفة لَّلام. كأنَّه قال:
وأصبح بطن مكَّة مقشعرًا
…
لأنَّ الأرض ليس بها هشام
وعلى هذا حمل قوله تعالى: {وي كأنه لا يفلح الكافرون} [القصص/ 82]، فقيل: معناه أعجب لأنه لا يفلح الكافرون. وأكثر ما ترد الكاف بهذا المعنى مقرونة كقوله تعالى: {واذكروه كما هداكم} [البقرة/ 198]، وأمّا البيت الثاني فلا حجّة فيه، لأنَّ التشبيه فيه يتبين بأدنى تأمل، ثمَّ قال: ويمكن حمل كأنَّ فيه للتشبيه حقيقة دون احتياج إلى ذلك التأويل، وذلك أنَّ الشاعر كان لا يعترف بفقد هشام؛ لأنه لا يرضى أن يحدث نفسه بفقده لكونه عزيزًا عنده، فهو عنده في حكم الموجود، وإذا كان في حكم الموجود، وجب عنده أن لا تقشعرَّ الأرض. فلما اقشعرَّت قال: كأنَّ الأرض ليس بها هشام. وهذا معنى صحيح، وهو أمر يرجع إلى تجاهل العارف.
والبيت من شعر للحارث بن أميّة الصغرى بدون فاء رثى بها هشام بن المغيرة وهي:
أصبح بطن مكَّة مقشعرًا
…
كأنَّ الأرض ليس بها هشام
يروح كأنّه أشلاء سوطٍ
…
وفوق جفانه شحمٌ ركام
وللكبراء أكلٌ كيف شاؤوا
…
وللولدان لقمٌ واقتسام
فبكيه ضباع ولا تملِّي
…
ثمال النَّاس إن قحط الغمام
وإنَّ بني المغيرة من قريشٍ
…
هم الرَّأس المقدَّم والسَّنام
وهشام هو أبو عثمان بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخذوم، قال الزبير بن بكار في كتاب "أنساب قريش": وكان هشام بن المغيرة سيّدًا مطاعًا، وله يقول أبو بكر بن الأسود بن شعوب يؤبِّنه:
ذريني أصطبح يا بكر إني
…
رأيت الموت نقَّب عن هشام
تخيره ولم يعدل سواه
…
ونعم المرء بالبلد التِّهام
وله يقول الحارث بن أميّة الصغري يؤبّنه، وهو المديح بعد الموت:
ألا هلك الفيَّاض والحامل الثِّقلا
…
ومن لا يضمنُّ عن عشيرته فضلًا
ألا لست كالهلكي فتبكي بكاءَهم
…
ولكن أرى الهلَّاك في جنبه وغلا
من أبيات. وقال أيضًا يبكيه:
أصبح بطن مكَّة مقشعرًّا
…
.. الأبيات المتقدمة.
وضباعة التي ذكر: زوجته القشيرية. ولما قال الحارث بن أمية لهشام بن المغيرة: ألا لست كالهلكي .. البيت، أغرت به بنو عبد مناف حكيم بن أمية بن حارثة بن أوقص السُّلمي حليف بني عبد شمس، وكانوا استعملوا على سفهائهم، ففرّ منه الحارث وقال:
أمرر بالأباطح كلَّ يومٍ
…
مخافة أن يشرِّدني حكيم
فهدم حكيم داره، وأعطاه بنو هشام داره التي بجيادٍ.
وقال بحير بن عبد الله القشيري يرثى هشامًا في رواية معمر بن المثنّى:
دعيني اصطبح يا بكر إني
…
رأيت الموت نقَّب عن هشام
فودَّ بنو المغيرة لو فدوه
…
بألف مقاتلٍ وبألف رام
وودَّ بنو المغيرة لو فدوه
…
بألف من رجال أو سوام
فبكّيه ضباع ولا تملّي
…
هشامًا إنّه غيث الأنام
ووجدتها له بخط الضحاك بن عثمان، يختلفان في اللفظ، وزاد فيها:"على أثر تهام"
وكنت إذا ألاقيه كأني
…
على حرمٍ وفي شهرٍ حرام
والرواية الأولى عندنا أثبت. وقال عبد الله بن ثور البكائي يرثيه:
هريقي من دموعهما سجاما
…
ضباع وجاوبي نوحًا قياما
على خير البريَّة لن تريه
…
ولن تلقي مواهبه العظاما
وأوحش بطن مكَّة بعد أنسٍ
…
ومجد كان فيها قد أقاما
من أبيات. وعن عكرمة المخزومي:
…
كان فارسي قريش في الجاهلية هشامُ ابن المغيرة والوليد بن عبده، وكان يقال لهشام بن المغيرة: فارس البطحاء، وكان فرسانهم في الجاهلية بعدهما عمرو بن عبد العامري، وضرار بن الخطاب الفهري المحاربي، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، وعكرمة بن أبي جهل المخزومي. وعن ابن شهاب أن قريشًا كانت تعد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمن الفيل، كانوا يعلمون بين الفيل وبين الفجار أربعين سنة، وكانوا يعدون بين الفجار وبين وفاة هشام بن المغيرة وبين بنيان الكعبة تسع سنين، وكانوا يعدون من بنيان الكعبة وبين أن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سنة، منها خمس سنين قبل أن ينزل عليه، ثمَّ كان العدد بعد. وابنه الحارث بن هشام بن المغيرة كان
شريف مذكورًا، وشهد بدرًا مع المشركين وفرّ، وشهد أيضًا أحدًا معهم، وبقي متمسكًا بالشرك حتى أسلم يوم فتح مكة، وله ابن يسمّى عثمان، وبه يكنى، وأمه بنت عثمان بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وليس لعثمان عقب، ولما نزل هشام بن المغيرة بحرّان وبها أسماء بنت مخرمة النهشلي –نهشل دارم، قد هلك عنها، وكانت امرأة لبيبة حسناء- تزوجها فولدت له عمرًا الذي كنّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل والحارث بن هشام المذكور. انتهى كلامه.
وقال المبرد في "الكامل" وكان هشام بن المغيرة أجلٍّ قريش حلمًا وجودًا، وقريش كانت تؤرخ بموته، كما تؤرخ بعام الفيل وبملك فلان، قال الشاعر:
زمان تناعى النّاس موت هشام
ومن أجله قول القائل:
فأصبح بطن مكَّة مقشعرًا
…
.. البيت
وقال الآخر:
ذريني أصطبح يا سلم إنِّي
…
رأيت الموت نقَّب عن هشام
نقب، أي: طوف حتى أصاب هشامًا .. قال تعالى: {فنقبوا في البلاد} [ق/ 36]، أي: طوَفوا، ومثله قول امرئ القيس:
وقد نقبَّت في الآفاق حتى
…
رضيت من الغنيمة بالإياب
انتهى. وقوله: يروح كأنه أشلاء سوط، السوط معروف، وهو يفتل وينسج من طاقات، وأشلاؤه: طاقاته، يريد أنه نحيف من قلة الأكل مع كثرة طعامه، والعرب تتمدح بقلة الأكل والنحافة، والأشلاء: جمع شلو –بالكسر- وهو العضو، والجفاف: جمع جفنة –بالفتح- وهي القصعة الكبيرة، والركام –بالضم-: المتراكم بعضه على بعض، وثمال منصوب على المدح، وهو الغياث