الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الثاني والعشرون بعد الثلاثمائة:
(322)
وكل رفيقي كل رحل وإن هما
…
تعاطى القنا قوماهما أخوان
على أن كلًا هنا لإضافتها إلى المثنى رجع ضمير الشيء إليه، لأنه بحسب ما يضاف إليه.
قال المصنف: هذا البيت من المشكلات لفظًا، وإعرابًا ومعنى. أقول: هذا على حدّ قولهم: "زناه فحدّه" وإنما استشكله لأنه ظنّ "قومًا" مفردًا منونًا، وليس ذلك، وإنما "قوماهما" مثنى قوم مضاف إلى ضمير الرفيقين، وسقطت نونه للإضافة ومنن قال إنه مثنى ابن عصفور في "شرح الجمل" وتبعه في "شرح الجمل" أيضًا أبو بكر محمد بن احمد الأنصاري الإشبيلي الشهير بالخفاف، قال: واسم الجمع نحو: قوم ورهط. وجمع التكثير لا يثنيان إلَاّ في ضرورة أو في نادر كلام، فمثال ما جاء من تثنية اسم الجمع في ضرورة الشعر قوله:
وكلّ رفيقي كلّ رحل وإن هما .. البيت
ومما جاء من تثنية جمع التكثير قوله:
تبقلت من أوّل التّبقّل
…
بين رماحي مالك ونهشل
انتهى. وقال أبو حيّان في "شرح التسهيل": وأمّا اسم الجمع فإنهم نصوا على أنه لا يجوز تثنيته إلّا في ضرورة شعر، نحو قوله:
وكلّ رفيقي كل رحل وإن هما .. البيت
وقال الدماميني: أطال المصنف في تقرير ما يزيل الإشكال الذي ادعاه، وكله مبني على ثبوت تنوين قومًا من جهة الرواية، ولعلها ليست كذلك، وإنما هي قوماهما، تثنية قوم، والمثنى مضاف إلى ضمير الرفيقين، ولا إشكال حينئذ، لا لفظًا ولا إعرابًا ولا معنى، إذ المعنى على هذا التقدير: إن كل رفيقين في السفر أخوان، وإن تعادى قوماهما، وتعاطوا المطاعنة بالقنا.
وقد رأيت في نسخة من "ديوان الفرودق" هذا البيت مضبوط الميم من "قوماهما" بفتحة واحدة، وملكت هذه النسخة في جلدين، وضبط هذا البيت هو الذي كان باعثًا على شرائها، ولله الحمد والمنّة. انتهى. ثمَّ أقول: إنَّ المصنف ليس أبا عذرة هذا التحريف الباعث على الإشكال وهذه التوجيهات، وإنما هذا جميعه لأبي علي الفارسي، فأخذه المصنف من كلامه، وقصّر في عزوه إليه، فإنه لو عزاه إليه لسلم من هذه السبّة، ولكنه استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم، فنقله من طرسه، واستخلصه لنفسه، وأنا أنقل لك كلام أبي علي برمته، قال في "المسائل البغداديات": مسألة: ينشد للفرزدق هذا البيت، وهو:
وكل رفيقي كل رحل وإن هما
…
تعاطى القنا قوماهما أخوان
وفي هذا البيت غير شيء من العربيّة، فمنه قال: تعاطى، وقد تقدمه اثنان، ولم يقل: تعاطيا، فإن قلت: إنه حذف لام الفعل من تعاطى لالتقاء الساكنين، ولم يرده إلى أصله للضرورة، فيقول: تعاطيا، فهو قول، وهذه الضرورة عكس ما في قول امرئ القيس: لها متنتان خظاتا ..
لأنّ هذا البيت اللَاّم في موضع وجب حذفها مثل: رمتا؛ لأنّ الحركة للتاء في رمتا غير لازمة، والفرزدق حذفه في موضع وجب إثباته، لأنك تقول: تعاطيا وتراميا، وإن قلت: تعاطى: تفاعل؛ والألف لام الفعل ليست بضمير، وفي الفعل ضمير واحد، لأنّ "هما" وإن كان في اللفظ مثنى، فهو في المعنى كناية عن كثرة، وليس المراد بالتثنية ههنا اثنين فيحمل الكلام عليها، لكنه في المعنى يرجع إلى كلّ، فحملت الضمير على كلّ، فهو قول، ويقوي هذا {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات/ 9]، ألا ترى أنّ الطائفتين لما كانتا في المعنى جمعًا، لم يرجع الضمير إليها مثنى، لكنّه جمع على المعنى، فكذلك "تعاطى" أفرد على المعنى إذ كان لكلّ، ثمّ حمل بعد الكلام على المعنى، فقال: هما أخوان، فالقول في "هما" أنه مبتدأ في موضع خبر المبتدأ الأول،
وهو كل، وثناه وإن كان في المعنى جمعًا للدلالة المتقدمة، إذ المراد بهذه التثنية الجمع، ألا ترى أنّ قوله: كل رفيقي كل رحل، جمع، ونظيره قوله "بينهما" بعد {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} فإن قال قائل: إن "هما" يرجع إلى رفيقين على قياس قولهم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة/ 234] فهو عندنا مخطئ؛ لأنّ الاسم الأوّل يبقى معلقًا بغير شيء، وهذا القول ينتفض في قول من يقول به؛ لأنه عندهم يرتفع بالثاني أو بالراجع إليه، فإذا لم يكن له ثان، كان إيّاه في المعنى، ولم يعدل إليه شيء وجب أن لا يجوز ارتفاعه عندهم. فأمّا قوله:
لو أن عصم عمايتين ويذبل
…
سمعا حديثك أبدا الأوعالا
في الكلام محمول على: لو أنّ عصم عمايتين، وعصم يذبل، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وليس بمحمول على عمايتين، ألا ترى أنّ عمايتين لا يسمعان، وقوله: سمعا في هذا البيت مثل "بينهما" في قوله عز وجل: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} والجملة التي هي "هما أخوان" رفع خبر لكلّ، ولا أستحسن أن يكون "هما" فصلًا لو كان المبتدأ والخبر معرفتين، لأّني وجدت علامة ضمير الاثنين يعنى به الجمع في البيت والآية، وفي قول الآخر:
إن المنية والحتوف كلاهما
…
يوفي المخارم يرقبان سوادي
وقوله تعالى: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء/ 30]، ونحو هذا، ولم أجد الاثنين المظهرين يعني بهما الجمع، والكثرة مكثرة علامة الضمير، فإن كان كذلك جعلت "هما" مبتدأ، وجعلت "أخوان" خبره،
وحملته على لفظ "هما" دون معناه، ولو جعلت "هما" فصلًا، وكان الاسمان معرفتين وما قرب منهما، وجعلت "أخوان" خبر كلّ، لم يمتنع لأنَّ الاثنين المظهرين قد عني بهما الكثرة أيضًا، ألا ترى أنَّ في نفس هذا البيت: وكلّ رفيقي كلّ رجل، ليس الرفيقان باثنين فقط، وإنما يراد بهما الكثرة، فكذلك يراد بأخوان الكثرة، إلاّ أنّ قوله: وكلّ رفيقي، في الحمل على الجمع، أحسن من حمل أخوان على الجمع؛ لأنّ المعنى في قوله: وكل رفيقي كل رحل، كلّ الرفقاء، إذا كانوا رفيقين رفيقين فهما أخوان، وإن تعاطى كلّ واحد مغالبة الآخر؛ لاجتماعهما في السفرة والصحبة. فقول الأوّل في هذا هو الوجه، ومثل هذا قولهم: هذان خير اثنين في النّاس، وهذان أفضل اثنين في العلماء، فيدلك على الاثنين في قولنا: هذان خير اثنين في الناس، والرفيقين في هذا البيت، ما يذهب إليه سيبويه من أنّ المعمى: إذا كان الناس اثنين اثنين، فهذا أفضلهم. وإضافة رفيقين في هذا البيت إلى كل رحل، لو كان المراد بهما اثنين فقط، لكانت هذه الإضافة مستحيلة؛ لأنّ رفيقين اثنين لا يكونان لكل رحل، ففي هذا البيت دليل على أن رفيقين يراد بهما الكثرة. وفيه أنه حملهما على معنى كلّ، وفيه الوجهان اللّذان حملناهما في تعاطى.
فأمّا قوله: قومًا، فيحتمل ثلاثة أوجه، أحدهما: أن يكون بدلًا من القنا؛ لأنّ قومهما من سببها وما يتعلق بها، ويحتمل أن يكون مفعولًا له، وكأنه قال: وإن هما تعاطيا القنا للمقاومة، أي: لمقاومة كلّ واحد منهما صاحبه ومغالبته. ويحتمل أن يكون مصدرًا من باب (صنع الله) و (وعد الله) لأنّ تعاطي القنا يدل على مقاومة، فيحمل قومًا على هذا، كما حملت (وعد الله) على ما تقدم في الكلام مما فيه وعد، وينشد، ونراه الرّواية:
وكلّ رفيقي كلّ رحل وإن هما
…
تعاطى القنا قوماهما أخوان
على أنّ "قوماهما" يرتفع بالابتداء. هذا آخر كلام أبي علي برمته. وقد اعترف في آخر كلامه بأنّ الرواية: "قوماهما" على أنه مثنى قوم مضاف إلى ضمير الرفيقين، وكأنه إنما ذكر الوجه الأول، وهو تنوين قومًا، إمّا لأنه رواية ضعيفة عنده، وإمّا ليجعله من مسائل التمرين في الإعراب، ليظهر قوة استحضاره للقواعد ووجوه
التخريجات، وقد نصّ عليه ابن بري في "شرح أبيات الإيضاح" للفارسي عند شرح قول الشاعر:
هما إبلان فيهما ما علمتم
قال: ومثل ذلك، أي: مثل إبلان، قول بعض العرب:"وأصلح بين القومين" وقال الرزدق:
وكل رفيقي كلّ رحل وإن هما .. البيت
والمصنف لشدَّة شغفه بالغرائب لخصّ كلامه منه، ولم يلحظ آخر كلامه.
وقول المصنف "قوله: كل رحل، كل هذه زائد" هذا من زيادته على أبي علي، وأقول: حكمه بزيادة "كلّ" مبنيّ على تفسير الرحل بالسفر، وليس كذلك، بل المراد إمّا ما قاله الصّاغاني من أنَّ الرحل للبعير أصغر من القتب، وهو من مراكب الرجال دون النساء، وإمّا ما قاله صاحب "المصباح" من أنَّ رحل الشخص: مأواه في الحضر، ثمَّ أطلق على أمتعة المسافر؛ لأنها هناك مأواه. انتهى. والبدوي لا يكون مأواه في الحضر إلَّا إذا كان مسافرًا؛ لأنَّ دار إقامته البادية. وقد ردَّ الدماميني على المصنف بحمل الرحل على هذا، فقال: لا نسلم زيادتها، فإنَّ العموم الرحل مراد، كما أنه كذلك في الرفيقين، أي: أنَّ كل رفيقين لكل رحل هذا شأنهما، ولو كانت الثانية زائدة لم يحصل العموم في الرحل وهو مطلوب. انتهى. ولم يصب الشمني كالمصنف بقوله: لو لم تكن زائدة لكانت للعموم، وقد أضيف الرفيقان إليها، فيعتذر رفقتهما بعمومها، فيصير المعنى: كل مترافقين في كلّ فرد من أفراد السّفر هما أخوان، وليس ذلك لعدم تناوله المترافقين في سفر واحد أو أكثر، بل ليس بمفيد لعدم تحقيق المترافقين في جميع الأسفار هذا كلامه.
والبيت من قصيدة للفرزدق، قال الحرماني: كانت الفرزدق خرج في نفر من