الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكوفة، فلمّا عرَّسوا من آخر الليل عند "الغريين" وعلى بعير لهم شاة مسلوخة كان اجتزرها، ثمَّ أعجله المسير فسار بها، فجاء الذئب فحركها وهي مربوطة على بعير، فذعرت الإبل وجفلت منه، وثار الفرزدق فأبصر الذئب ينهسها، فقطع رجل الشاة فرمى بها إلى الذئب، فأخذها وتنحى، ثمَّ عاد فقطع اليد فرمى بها إليه، فلما أصبح القوم خبّرهم الفرزدق بما كان، وقال فيه:
وأطلس عسال وما كان صاحبًا
…
دعوت بناري موهنًا فأتاني
فلما دنا قلت ادن دونك إنني
…
وإياك في زادي لمشتركان
فبت أسوي الزاد بيني وبينه
…
على ضوء نار مرة ودخان
فقلت له لما تكشر ضاحكًا
…
وقائم سيفي من يدي بمكان
تعش فإن واثقتني لا تخونني
…
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
وأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما
…
أخيَّين كانا أرضعا بلبان
ولو غيرنا نبهت تلتمس القرى
…
أتاك بسهم أو شباة سنان
وكل رفيقي كل رحل وإن هما .. البيت
قال شارح ديوانه: الأطلس: الذئب في لونه طلسة، وهي سواد إلى الكدرة، والعسّال: الذي يعسل في مشيه، وهو اهتزازه وتثنيّه، والاسم منه العسلان، يريد أنه نزل فغشى الذئب ناره فقراه، قال أبو جعفر: الذي أعرف أنه قرى الذئب الفرزدق، ومضرّس بن ربعيّ، وعبد الله بن الزّبير الأسدي، وعبد بجيلة. انتهى. وموهنًا، بفتح الميم وكسر الهاء: الساعة التي تكون بعد نصف الليل. وترجمة الفرزدق تقدَّمت في الإنشاد الثاني من أوَّل الكتاب.
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الثالث والعشرون بعد الثلاثمائة:
(323)
لها متنان خظاتا
هو بعض بيت من قصيدة لامرئ القيس، وهو:
لها متنان خظاتا كما
…
أكبّ على ساعديه النَّمر
قال ابن جني في "سرّ الصناعة": قال الكسائي: أراد: خظتا، فلمّا حرَّك التاء ردّ الألف التي هي بدل من لام الفعل، لأنها إنما كانت حذفت لسكونها وسكون التّاء فلما حرّك التاء ردّها فقال: خظاتا، ويلزمه على هذا أن يقول في قضتا، وغزتا: قضاتا وغزاتا؛ لأنَّ له أن يقول: إنَّ الشّاعر لمّا اضطرَّ أجرى الحركة المعارضة مجرى الحركة اللزامة في نحو: قولا ومبيعا وخافا. وذهب الفراء إلى أنه أراد خظاتان، فحذف النون كما قال أبو داود الإيادي:
ومتنان خظاتان
…
كزحلوف من الهضب
وقول الكسائيّ عندي أقيس من قول الفرّاء، لأن حذف نون التثنية شيء غير معروف. انتهى. وكذا قال ابن عصفور في كتاب "الضرائر" والمتن: الظهر، وكذلك المتنة، قال ابن فارس المتنان: مكتنفا الصّلب من العصب واللحم، وخظايا: بالخاء والظّاء المعجمتين، يقال: خظا لحمه يخظو خظوَّا، من باب سما يسمو: إذا اكتنز وصلب، ويأتي خظا وصفًا أيضًا بمعنى مكتنز، يقال: لحم خظا، ولحمة خظاة، كما تقدَّم في بيت أبي داود.
وقال ابن قتيبة في كتاب "أبيات المعاني" يقال: لحمه خظا بظا، إذا كان كثير اللحم صلبه، وهو خاظي البضيع، إذا كان كثير اللحم مكتنزة. وقوله: لها متنان خظاتا، فيه قولان، أحدهما: أنه أراد خظاتان، كما قال أبو داود، فحذف نون المثنى. والآخر: أن أراد خظتا، أي: ارتفعنا، فاضطر فزاد ألفًا،
يقال: متن خظا، ومتنة خظاة. وقوله:"كما أكبّ على ساعديه النمر" أراد: كأنَّ فوق متنها نمرًا باركًا لكثرة لحم المتن. انتهى.
ورأيت قولًا ثالثًا نسبة جماعة إلى المبرد، ولا أجزم بصدقه، وهو أن يكون خظاتا مثنى حذفت نونه للإضافة إلى "كما" بضم الكاف، على أنه ضمير تثنية وقع مضافًا إليه، وهذا خلاف الرواية، فإنها بفتح الكاف، وهي حرف تشبيه، وما مصدريّة.
قال ياقوت الحموي في ترجمة أبي العباس أحمد بن يحيى النحوي الشهير بثعلب من كتاب "معجم الأدباء" قال أبو العباس: دخلت على محمّد بن عبد الله بن طاهر، فإذا عنده المبرد وجماعته من أصحابه وكتابه، وكان محمّد بن عيسى وصفني له، فلما قعدت قال لي محمد بن عبد الله: ما تقول في قول امرئ القيس:
لها متنان خظاتا كما .. البيت؟
فقلت: أمّا غريب البيت، فإنه يقال: لحم خظا بظا: إذا كان صلبًا مكتنزًا، ووصف فرسًا. وقوله: أكبّ على ساعديه النمر، أي: في صلابة ساعد النمر إذا اعتمد على يده، والمتن: الطريقة الممتدة من عن يمين الصلب وشماله. وما فيه من العربية أنه خظتا، فلما تحركت التاء أعاد الألف من أجل الحركة والفتحة. قال: فأقبل بوجهه على محمد بن يزيد، فقال له: أعزَّك الله، إنما أراد في خظاتا الإضافة، أضاف خظاتا إلى كما. قال [ثعلب]: فقلت له: ما قال هذا أحد! قال محمد بن يزيد: بلى سيبويه يقوله، [فقال ثعلب]: فقلت لمحمد بن عبد الله: لا والله ما قال هذا سيبويه، وهذا كتابه فليحضر. ثم أقبلت على محمد بن عبد الله وقلت: ما حاجتنا إلى كتاب سيبويه؟ أيقال: مررت بالزيدين ظريفي عمرو، فيضاف نعت الشيء إلى غيره؟ فقال محمّد لصحة طبعه: لا والله ما يقال هذا، ونظر إلى محمد بن يزيد، فأمسك ولم يقل شيئًا، وقمت ونهض المجلس. قال عبد الله الفقير: لا أدري لم
لا يجز هذا، وما أظن أحدًا ينكر قول القائل: رأيت الفرسين مركوبي زيد، ولا: الغلامين عبدي عمرو، ولا: الثوبين درّاعتي زيد، مثله: مررت بالزيدين ظريفي عمرو، فيكون مضافًا إلى عمرو، وهو صفة لزيد، وهذا ظاهر لكل متأمل. هذا آخر كلام ياقوت.
وكذا نقل هذه الحكاية أبو الحسن علي بن محمّد الملقب علم الديّن السخاوي في كتاب "سفر السّعادة" ولم يعقبها بما أعقبه ياقوت من صحة الوصف في المثال. ونقلها السيوطي أيضًا في "الأشباه والنظائر" عن "طبقات [النحويين] " لأبي بكر الزيدي عن أبي عمر الزاهد غلام ثعلب وفي آخرها: قال الزبيدي: القول ما قال المبرد، وإنما سكت لما رأى من بله القوم، وقلة معرفتهم، وقوله: مررت بالزيدين ظريفي عمرو، جائز جدًا. انتهى. وأقول: صحة هذا المثال ونحوه لا شبهة فيه، لكن الكلام في بيت امرئ القيس كان ينبغي الاستناد فيه إلى الرواية، ولم نر من قال إنه روي بضم الكاف، والله أعلم. على أنَّ معنى الإضافة ركيك، سواء فتحت الكاف أو ضممتها، فليتأمل.
والبيت من قصيدة له يأتي مطلعها في بحث "لا" وبيت آخر منها يأتي في الباب الرابع، وبيت آخر في وصف فرسه من جملة أبيات فيها في آخر الباب الرّابع إن شاء الله نشرحها هناك مع البيت الشاهد هنا. وضمير "لها" راجع للفرس. وترجمة امرئ القيس تقدمت في الإنشاد الرابع. وكون هذه القصيدة لامرئ القيس هو الصحيح عند المفضل وأبي عمرو الشيباني وغيرهما. وزعم أبو عمرو بن العلاء والأصمعي وأبو حاتم أنها لرجل من النمر بن قاسط، يقال له ربيعة بن جشم النمري، والله أعلم.