الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من هو أرمى البشر. و"كان" على هذا زائدة، وأقول: جعل "من" على هذه الرواية نكرة موصوفة أولى من جعلها موصولة، وقبله:
مالك عندي غير سوطٍ وحجر
…
وغير كبداء شديدة الوتر
لك: ظرف مستقر، وغير: فاعله، وعندي: متعلق بـ"لك"، وكبداء: بفتح الكاف وسكون الموحدة، وهي القوس التي يملأ الكف مقبضها، وجادت: أحسنت وروي بدله: "ترمي"، وقوله: بكفي، متعلق بمحذوف على أنه حال، وهو مثنى كف، حذفت نونه للإضافة.
وهذا الرجز مع شهرته في كتب النحو لم يعرف قائله، والله أعلم.
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الرابع والستون بعد المائتين:
(264)
أتانا فلم نعدل سواه بغيره
…
نبيٌّ بدا في ظلمة اللَّيل هاديا
على أنه من أبيات المعاني، قال العلم السخاوي في "سفر السعادة": لسنا نعني بأبيات المعاني ما لم نعلم ما فيه من الغريب، وإنما يعنون ما أشكل ظاهره، وكان باطنه مخالفًا لظاهره، وإن لم يكن فيه غريب، أو كان غريبه معلومًا، كما أنشدني شيخي الإمام تاج الدين:
وأنثى وما كانت من الجنِّ أمُّها
…
ولا الإنس قد لاعبتها ومعي ذهني
فأولجت فيها قدر شبرٍ موفَّرٍ
…
فصاحت لا والله ما عرفت تزني
فلمَّا دنت إهراقة الماء أنصت
…
لأعزله عنها وفي النَّفس أن أثني
يصف البكرة التي يستقي عليها الماء. ومن أبيات المعني:
ذر الآكلين الماء يومًا فما أرى
…
ينالون خيرًا بعد أكلهم الماء
هؤلاء [قوم] كانوا يبيعون الماء، فهذا نوع من أبيات المعاني.
وقال شيخنا الخفاجي في "شرح درة الغواص": أبيات المعاني عند الأدباء أبيات فيها خفاء لفظًا أو معنى، كاللغز يسأل عن ذلك، وقوله لفظًا كان ينبغي تركه، فإن البيت الذي فيه كلمة غريبة وحشيّة يقتضي أن يكون من أبيات المعاني، ولم نرهم أدرجوه في أبيات المعاني. وقال الدماميني: أبيات المعاني التي يسأل عن معناها لإشكاله، وعبَّر في بيت أبي نواس بأنه من التراكيب، أي: بحسب الإعراب، وإشكاله باعتبار أمر لفظي متعلق بالتراكيب لا بالمعنى، انتهى.
وقوله: التي يسأل عن معناها لإشكاله، يدخل فيه قول الفرزدق:
وما مثله في النَّاس إلَّا مملَّكًا
…
أبو أمِّه حيٌّ أبوه يقاربه
وقد أدخلوه في كتب أبيات المعاني، منهم المجاشعي وغيره، وتعقبه ابن وحيي بأن قوله: لا بالمعنى، كلام لم يصدر عن تأمل، كيف ومعنى بيت أبي نواس أكثر إشكالًا وأشد إعضالًا من معنى بيت حسّان؟ ! هذا كلامه، وهذا مكابرة فإن بيت أبي نواس لا خفاء في معناه أصلًا.
واعلم أن العلماء قد ألفوا كتبًا كثيرة في أبيات المعاني كالأخفش المجاشعي والأشنانداني، وابن السكيت، وابن قتيبة وغيرهم، وجميعها عندي ولله الحمد، وقد أورد السخاوي جملة منها في "سفر السعادة".
والإشكال في البيت نشأ من توهم اتحاد مرجع الضميرين، وزال باختلاف المرجع، وهذا جواب أبي الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي الأخفش في كتاب "أبيات المعاني" قال فيه: وقال حسّان بن ثابت، وهو يعني النبي، صلى الله عليه وسلم:
أتانا فلم نعدل سواه بغيره
…
نبيٌّ أتى من عند ذي العرش هاد يا
وذلك أن سوى النبي صلى الله عليه وسلم هو غيره، فقال: لم نعدل سواه بغير سواه، فغير السوى هو النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. وتبعه أبو على الفارسي في "الحجة" قال: يقول: لم نعدل سوى النبي، صلى الله عليه وسلم، بغير سواه وغير سواه هو هو. انتهى. وأنشد البيت كما أنشده الأخفش منسوبًا لحسان، وأجاب ابن دريد بأنَّ سوى الشيء نفسه وعينه لا بمعنى غير، قال الإمام العسكري في كتاب "التصحيف": قال أبو بكر، يعني ابن دريد: والسوى: الرجل نفسه، يقال: هذا سوى فلان، أي: فلان نفسه، وأنشد بيت حسّان:
أتانا ولم نعدل سواه بغيره
…
نبيٌّ بدا في ظلمة اللَّيل هاديا
وأنشد أيضًا بيت الخطيئة:
أبى لك أقوامٌ أبى لك مجدهم
…
سوى المجد فانظر صاغرًا آمن تفاخره
سوى المجد، أي: المجد نفسه، [وسوى- بفتح السين- يعني غير]، والسُّوى: العدل، من قوله تعالى:{مكانًا سوى} [طه/ 58] وأنشد:
وكان أبانا حين حلَّ ببلدةٍ
…
سوى بين قيسٍ قيس عيلان والفزر
وقد جاء في اللغة "سواء" ممدود في هذا المعنى، ومما يشكل في هذا الباب قول الآخر:
وكنت إذا مولاك خاف ظلامةً
…
أتاك فلم يعدل سواك بناصر
يسأل فيقال: كيف قال: أتاك، ثم قال: لم يعدل سواك بناصرٍ، وسواه غيره؟
فالجواب: لم يعدل سواك بك، أنك ناصره، كما تقول: ما أعدل سواك بأخ كريم، وأنت تخاطب رجلًا، أي: أنت الأخ الكريم. وقال بعضهم في قول حسّان:
أتانا فلم نعدل سواه بغيره
…
نبيٌّ بدا في ظلمة اللَّيل هاديا
فيقال: كيف قال: لم نعدل سواه بغيره، وسواه غيره، فكأنه قال: لم نعدل غيره يغيره، فما هذا من مدح النبي صلى الله عليه وسلم، والإخبار بطاعته؟ فالجواب: إنه أراد: إنا لم نعدل سواه بغير سواه، لأنَّ الهاء التي في "غيره" مردودة على سواه، فكأنه قال: لم نعدل سواه بغير السوى، وغير السوى هو النبي صلى الله عليه وسلم، فالمعنى: لم نعدل سواه به، ويقال للعدل: سواء وسوى بالكسر، وسوى بالضم، قال زهير:
أروني خطَّةً لا ضم فيها
…
يسوِّي بيننا فيها السَّواء
فإن ترك السَّواء فليس بيني
…
وبينكم بني حصنٍ سواء
يريد بالسواء العدل، كذلك يقول أهل اللغة وهو الحق، وهو من استواء الشيء. انتهى كلام العسكري. وقد أورد ابن السكيت كلمة سوى في كتاب "الأضداد" فقال: وقال غير الأصمعي: سواء الشيء غيره، وسواء الشيء نفسه، قال الأعشى:
تزاور عن جوِّ اليمامة ناقتي
…
وما عدلت عن أهلها بسوائكا
أراد: وما عدلت عن أهلها بك، حكى هذا الحرف أبو عبيد انتهى.
ونقل السيوطي عن ابن مالك أنه خرجه في شرح منظومته المسماة "تحفة المودود في المقصور والممدود" بقوله: سوى الشيء: نفس الشيء، ذكره الأزهري، ومنه
قول الشاعر:
كأنها نائحةٌ تفجَّع
…
تبكي لميتٍ وسواها الموجع
ومنه قول حسّان:
أتانا فلم نعدل سواه بغيره
انتهى. وقد علمت أن هذا التخريج لابد دريد، وابن مالك تابع، لكن قوله: ذكره الأزهري، قد راجعت "تهذيبه" فلم أر فيه: سوى الشيء نفس الشيء، ولا هذا المعنى بلفظ آخر البتة. وهذا المعنى ثابت في كتب اللغة، لكني ما أدري من أين نقله، والله أعلم. وممَّن ذكره بهذا المعنى ابن السيّد البطليوسي فيما كتبه على "كامل المبرد" عند قوله:
بكي لميتٍ وسواها الموجع
وسواها ههنا: نفسها، مثل قول الآخر في النبي صلى الله عليه وسلم:
أتانا فلم نعدل سواه بغيره
…
شهابٌ لنا في ظلمة اللَّيل ساطع
وقال ابن الأعرابي: سواه: قصده. انتهى. أقول: قاله ابن الأعرابي في "نوادره" فقال بعد ما أنشد البيت كما أنشده ابن السيّد: أي لم نعدل قصده قصده، يعني النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. ولا يخفى أنه لابدَّ من تقدير مضاف في الثاني، ليصح المعادلة، أي: لم نعدل قصده بقصد غيره، وفي هذا أيضًا مرجع الضميرين واحد، والقصد هنا: المعتدل من الأمور الذي ر يميل إلى أحد طرفي التفريط والإفراط وفي الحديث: "القصد القصد تبلغوا" أي: عليكم بالقصد من الأمور في القول
والفعل، وهو أوسط بين الطرفين، ومنه الحديث الآخر:"عليكم هديًا قاصدًا" أي: طريقًا معتدلًا لا يسرف في الإنفاق ولا يفتر. وعلى تخريج ابن الأعرابي قد خرج الدماميني البيت بطريق البحث، فقال: ويظهر لي وجه آخر حسن في الجواب مع القول باتحاد المعاني، وهو أن يقال: المراد بالسوي العدل والإنصاف، لا معنى "غير"، وهو أمر ثابت في اللغة، صرح به الجوهري وغيره، المعنى: لم نعدل عدله بعدل غيره، ولا غبار عليه. انتهى.
بقي تخريج رابع أورده أبو حيَّان في "تذكرته" قال: وقد جاءت "غير" زائدة، أنشد بعضهم لحسان:
أتانا فلم نعدل سواه بغيره
…
نبيٌّ أتى من عند ذي العرش هاديا
وقيل: تجل إحدى الكلمتين من سوى ومن غير زائدة. انتهى. وقد وافقه بطريق البحث أيضًا ابن وحيي، قال: ولو حمل على إقحام لفظة سوى، حتى يكون التقدير: أتانا نبي فلم نعدله بغيره. أو على إقحام لفظ غير حتى يكون مآله: أتانا نبي فلم نعدل سواه به، لظهر المعنى بلا ريب. وإقحام الأسماء، ولا سيما المبهمات، كثيرة مثل قوله تعالى:{ليس كمثله شيءٌ} [الشورى/ 11]. وقوله: "ثمَّ اسم السلام"، وقولهم: مثلك لا يبخل، وغيرك لا يجود. انتهى. وهذا مذهب لا يتمشى على قول البصريين. وقوله:"أتانا فلم نعدل سواه بغيره"، قال الأزهري في التهذيب: قال الكسائي: عدلت الشيء بالشيء أعدله عدولًا: إذا ساويته به.
وقد جاء هذا البيت بألفاظ مختلفة كما رأيت وهو منسوب إلى حسَّان بن ثابت، ولم أره في شعره، وقد رأيته في كتب السّير، لكن ليس في الجمع بين سوى وغير، وإنما الرواية كذا:
أطعناه لم نعدله فينا بغيره
…
شهابًا لنا في ظلمة اللَّيل هاديا
وهو آخر أبيات ستة، قيل: إنها لعبد الله بن رواحة، وقيل: لكعب بن مالك وهي:
وعدنا أبا سفيان بدرًا فلم نجد
…
لميعاده صدقًا وما كان وافيا
فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا
…
لأبت ذميمًا وافتقدت المواليا
تركنا به أوصال عتبة وابنه
…
وعمرًا أبا جهلٍ تركناه ثاويا
عصيتم رسول الله أفٍّ لدينكم
…
وأمركم السَّيء الذي كان غاويا
فإني وإن عنَّفتموني لقائلٌ
…
فدىً لرسول الله أهلي وماليا
أطعناه لم نعدله فينا بغيره
…
......... البيت
قال ابن هشام في "السيرة" والكلاعي في "سيرته" أيضًا واللفظ له: قال ابن إسحاق: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، المدينة من غزوة ذات الرقاع، أقام بها بقية جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجبًا، ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان حتى نزله، فأقام عليه ثماني ليالٍ ينتظره، وخرج أبو سفيان في أهل مكة، ثم بدا له في الرجوع، فقال: يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلَّا عام خصيب، فإنَّ عامكم هذا عام جدب فارجعوا، فرجع النَّاس، فقال عبد الله بن رواحة في ذلك، ويقال: إنها لكعب بن مالك:
وعدنا أبا سفيان بدرًا فلم نجد ..
إلى آخر الأبيات الذي ذكرناها. وقال ابن هشام: أنشدنيها أبو زيد لكعب بن مالك، وهذه غزوة بدر الآخرة في شعبان سنة أربع من الهجرة، ولم يكتب السهيلي في "الروض الأنف" على هذه الأبيات شيئًا، ووقع في رواية الكلاعي:"أطعنا ولم نعد له فينا بغيره" بواو العطف، وقال الشّامي في "سيرته" بعد هذه الأبيات: افتقدت: فقدت، والموالي هنا القرابة، والثاوي: المقيم، والسيء: أراد السَّيّئ، فخفف، كهين وميت. لم نعدله: لم نسوّه. انتهى. وعبد الله بن رواحة تقدمت ترجمته، في الإنشاد السابع والخمسين بعد المائة مع ترجمة كعب بن مالك.