الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين النحويين في أنّ الجرّ بعد الفاء بـ"ربَّ" مضمرة، لا بالفاء، قال وقد أجرت العرب الفاء مجرى الواو، فحذفت بعدها ربّ، ثم قال أبو حيان: وقوله: ولا بالواو، خلافًا للمبرّد؛ قال المبرد: الواو بمنزلة "ربّ" والخفض بها، ولا ينكر أن يكون للحرف الواحد معان كثيرة، ويدلّ على أنها ليست للعطف مجيئها في أول القصيدة، نحو قوله:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
وافق المبرد بعض الكوفيين، وردّ ذلك إلى آخر كلامه ولم ينتبه الدماميني ولا غيره إلى هذا السّهو، مع أنه مغرم بالتعقب لكلامه. وقد تقدَّم شرح هذا البيت في الإنشاد العاشر بعد المائتين.
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الخامس والستون بعد المائتين:
(265)
بين الدَّخول فحومل
هو قطعة من مطلع معلقة امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل
…
بسقط اللِّوى بين الدَّخول فحومل
على أن الجرمي قال: إنَّ فاء العطف لا تفيد الترتيب في البقاع ولا في الأمطار بدليل هذا البيت، وهذا على تقدير صحة رواية الفاء، وهذا أحد أجوبة ثلاثة، ثانيها: أنّ الفاء بمعنى الواو، وثالثها: أنّ التقدير بين أماكن الدخول، فأماكن حومل. وقد أنكرها الأصمعي قال في كتاب "التصحيف": تكلم الناس في قوله: "بين الدَّخول فحومل" قال أبو إسحاق الزيادي: الرواية: "بين الدخول
وحومل" ولا يكون فحومل، لأنك لا تقول: رأيتك بين زيد فعمرو، وهذا سمعه الزيادي من الأصمعي، فسألت ابن دريد عن الرواية، فحكى ما قال الأصمعي ولم يزد عليه، فسألت أبا بكر محمّد بن علي بن إسماعيل، فقلت: قال الأصمعي: لا يجوز أن تقول: رأيته بين زيد فعمرو، وكان ينكر "بين الدخول فحومل" فأملى عليَّ الجواب فقال: إنَّ لكل حرف من حروف العطف معنى؛ فالواو تجمع بين الشيئين، نحو: قام زيد وعمرو، فجائز أن يكونا كلاهما قاما في حالة واحدة، وأن يكون قام الأول بعد الثاني، وبالعكس، والفاء إنما هي دالَّة على أنّ الثاني بعد الأوّل، ولا مهلة بينهما. فقال الأصمعي، وكان ضعيفًا في النحو، غير أنه كان ذا فطنة: أطبقت الرواة على "بين الدخول وحومل". ولا يجوز فحومل، لأنه ليس يقصد بيان أن يكون الشيئان أحدهما بعد الآخر، ثم يكون الشيء بينهما، إنّما يريد أنهما لا يجتمعان، وهو بينهما، كما تقول: زيد بين الكوفة والبصرة، ولا تقول: فالبصرة، فقد أجاد فطنة. انتهى. واستدلّ الجرمي لقوله ببيت امرئ القيس، وبقول الحارث بن حلِّزة:
أوقدتها بين العقيق فشخصين
…
بعودٍ كما يلوح الضياء
وبقول النَّابغة الذبياني:
عفا ذو حسى من فرتنا فالفوارع
…
فجنبا أريك فالنِّلاع الدَّوافع
وبقول العرب: مطرنا ما بين زبالة فالثعلبية. ومعلوم أنَّ هذه الأماكن لم تعف على ترتيب، إذ الوقوف على أن يكون الآخر من الأماكن قد عفا عند انقضاء عفاء الأول من غير مهلة بينهما متعذر، وكذا قولهم: نزل المطر مكان كذا فمكان كذا، إنما نزل المطر بهذه الأماكن في حين واحد، والجواب عن ذلك أن يجعل الترتيب في
مثل هذا بالنظر إلى الذكر، وذلك أنّ القائل: عفا موضع كذا فموضع كذا، لا يحضره أسماء الأماكن في حين الإخبار دفعة واحدة، فيبقى في حال الإخبار متذكرًا لها متتبعًا، فما سبق إلى ذكره أتى به أولًا، وما تأخر في ذكره عطفه بالفاء، وكذلك قول العرب: مطرنا مكان كذا فمكان كذا، والعرب لا تقصر الترتيب بالفاء على الزمان، ألا ترى أنَّك تقول: أعلى النّاس منزلة في الدنيا الأمير فالوزير؛ ومعناه أنه يليه في المنزلة لا في الزمان، وكلّ واحد من الدخول والعقيق وزبالة، وما عطف عليها، مكان وقرية يشتمل على أمكنة، فاكتفى ببين، كأنه قيل، بين أماكن الدخول، وكذا باقيها، ألا ترى إلى قوله:
ربَّما ضربةٍ بسيفٍ صقيلٍ
…
بين بصري وطعنةٍ نجلاء
يريد: بين جهات بصرى، فاكتفى بالمفرد إذ كان مشتملًا على أمكنة، والفرق بين العطف بالفاء والواو في هذه المسألة ونحوها: أنك إذا عطفت بالفاء أردت أنَّ المطر انتظم الأماكن التي بين زبالة والثعلبية، يقروها شيئًا فشيئًا بلا فرجة، من جهة أنّ الفاء تعطي أنّ الثاني عقب الأول بلا مهلة، وإذا عطفت بالواو، أردت أنّ المطر وقع بين زبالة والثعلبية، ولم ترد أنه اتصل في الأماكن التي بينها من أولها إلى آخرها. كذا قال ابن جني في "سر الصناعة": وذهب بعضهم إلى أنّ الفاء لا ترتب مطلقًا، وإنما هي بمعنى الواو، ويدل على فساده أنّ العرب تقول: اختصم زيد وعمرو، ولا تقول: فعمرو، ولو كانت الفاء بمنزلة الواو في جميع الأماكن، لجاز مجيئها. ومن أجاب بأنّ الفاء هنا بمعنى "إلى" لا يتم كلامه إلَّا بتقدير مضاف، تقديره: بين أماكن الدخول، كما قاله المصنف، وحينئذ لا حاجة إلى جعل الفاء بمعنى إلى؛ لأن الإشكال يتم دفعه بتقدير "أماكن" ليحصل المتعدد الذي تضاف إليه "بين"