الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على أنَّ خبر "لا" هذه قد يذكر فلا يحذف، كما هنا، وهو قليل. وتعزّ: فعل أمر، من العزاء، وهو الصّبر. والوزر: الملجأ.
والبيت مشهور في كتب النحو، ولم أقف على قائله، والله أعلم.
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الثالث والتسعون بعد الثلاثمائة:
(393)
نصرتك إذ لا صاحبٌ غير خاذلٍ
…
فبوِّئت حصنًا بالكماة حصينًا
على أنَّ "لا" هنا لا يتعين أن تكون عاملة، بل هي مهملة عمل "ليس" لجواز أن تكون "غير" منصوبة على الاستثناء، ويكون الخبر محذوفًا، تقديره لك، وهذا رد على شراح "التسهيل" في زعمهم أنها عاملة، والخاذل: من خذله؛ إذا لم يعنه، ولم ينصره. وبوئت، بالبناء للمفعول والخطاب؛ أي: أسكنت مثله، من المباءة بالفتح والمدّ، وهو المسكن. يقال: بوَّأه الله منزلًا؛ أي: أسكنه إيَّاه، والباء: متعلّقة بما بعدها، وهو حصين.
وهذا البيت أيضًا لم أقف على قائله مع شهرته في كتب النحو، والله أعلم.
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الرّابع والتسعون بعد الثلاثمائة:
(394)
وحلَّت سوادا القلب لا أنا باغيًا
…
سواها ولا في حبِّها متراخيا
على أنها عاملة في المعرفة عند ابن جني، وابن الشّجري، قال ابن الشّجري: كتب إليَّ رجل من أماثل كتَّاب العجم يسأل عن هذا البيت: أصحيح إعرابه أم فاسد؟ وذكر أنه لشاعر أصفهاني من أهل هذا العصر، وهو:
يؤلِّل عصلًا لا بناهنَّ هينةً
…
ضعافًا ولا أطرافهنَّ نوابيا
رفع بناهن بـ "لا" ونصب هينة بأنه خبرها، وإنما فعل ذلك لنصب القافية؛ لأنه
لما أعمل "لا" الأولى هذا العمل أعمل "لا" الثانية عمل الأولى. ولحّنه في هذا نحويّ من أهل أصفهان؛ لأنه جعل اسم "لا" معرفة وقال: إنّ من شبّه "لا" بليس من العرب رفعوا بها النَّكرة دون المعرفة، فأجبت عن هذ بأني وجدت قومًا النحويين معتمدين على أنَّ "لا" المشبَّهة بليس إنما ترفع النَّكرات خاصَّة، وعلَّلوا هذا بأنَّ "لا" ضعيفة في باب العمل، لأنها إنَّما تعمل بحكم الشّبه لا بحكم الأصل في العمل، والنّكرة ضعيفة جدًا، فلذلك لم يعمل العامل الضَّعيف إلَاّ في النكرات، كقولك: عشرون رجلًا، ولي مثله فرسًا، وزيد أحسنهم أدبًا، فلمّا كانت "لا" أضعف العوامل، والنَّكرة أضعف المعمولات، خصّوا الأضعف بالأضعف. وجاء في شعر أبي الطَّيب إعمال "لا" في المعرفة في قوله:
إذا الجود لم يرزق خلاصًا من الأذى .. البيت.
ووجدت أبا الفتح عثمان بن جني، غير منكر في ذلك في تفسيره لشعر المتنبي، ولكنه قال بعد إيراد البيت: شبّه "لا" بليس، فنصب بها الخبر. وأقول: إنَّ مجيء مرفوع "لا" منكورًا في الشّعر القديم هو الأعرف، إلَاّ أنَّ خبرها كأنَّهم ألزموه الحذف، وذلك في قول سعد بن مالك بن ضبيعة:
من صدَّ عن نيرانها
…
فأنا ابن قيسٍ لا براح
أراد: لا براح لي، أو عندي. وفي قول رؤبة:
والله لولا أن تخشَّ الطُّبَّخ
…
بي الجحيم حين لا مستصرخ
أراد: لا مستصرخ لي. ومرَّ بي بيت للنّابغة الجعدي، فيه مرفوع "لا" معرفة وهو:
وحلَّت سواد القلب لا أنا مبتغٍ
…
سواها ولا عن حبِّها متراخيًا
وقبله:
دنت فعل ذي حبٍّ فلمّا تبعتها
…
تولَّت وردَّت حاجتي في فؤاديا
وبعده:
وقد طال عهدي بالشَّباب وظلِّه
…
ولا قيت أيامًا تشيب النَّواصيا
وإنما ذكرت هذين البيتين مستدلًا بهما على نصب القافية، لئلا يتوهّم متوهّمٌ أنَّ البيت فرد مصنوع، لأنَّ إسكان الياء في قوله: متراخيًا ممكن مع تصحيح الوزن، على أن يكون البيت من الطّويل الثالث، مثل قوله:
أقيموا بني النُّعمان عنّا صدوركم
…
وإلَاّ تقيموا صاغرين الرّؤوسا
وإذا صحَّ نصب قافية البيت، فلا تخلو "لا" الأولى أن تكون معملة أو ملغاة، فإنْ كانت معملة فمبتغ خبرها، وكان حقّه أن ينصب، ولكنه أسكن الياء في موضع النّصب، كما أسكنها الآخر في قوله:
كفى بالنَّأي من أسماء كاف
وكان حقّه كافيًا؛ لأنّه حال بمنزلة المنصوب في قوله تعالى: {وكفى بالله نصيرًا} [النساء/ 45]. ومثله في إسكان الياء في موضع النّصب قول الفرزدق:
يقلِّب رأسًا لم يكن رأس سيِّدٍ
…
وعينًا له حولاء بادٍ عيوبها
كان حقّه: باديًا، إتباعًا لقوله:[عينًا، ولا يجوز أن يكون عيوبها مبتدأ وخبره باد، لأنه لو أراد ذلك لزمه أن يقول: بادية، ألا ترى أنّك لو قدمت العيوب لم يصح أن تقول: عيوبها بادٍ؟ كما لا تقول: الرجال جالس: وإذا كان كذلك فالنصب في قوله]: متراخيًا، بالعطف على مبتغ؛ لأنه منصوب الموضع،
فكأنه قال: لا أنا مبتغيًا سواها، ولا متراخيًا عن حبّها. فإن جعلت"لا" الأولى ملغاة، كان قوله:"أنا مبتغ" مبتدأ وخبرًا، ولزمك أن تعمل الثّانية، ويكون اسمها محذوفًا تقديره: ولا أنا عن حبّها متراخيًا، وحسن حذفته لتقدّم ذكره، فإن قيل: فهل يجوز أن يكون متراخيًا حالًا، والعامل فيه الظّرف الذي هو عن، كما يعمل الظّرف في الحال إذا قلنا: زيد في الدَّار جالسًا؟ قيل: لا يجوز ذلك؛ لأنَّ عن ظرف ناقص، وإنما يعمل في الحال الظّرف التَّام، ألا ترى قولك: زيد في الدَّار، كلام مفيد، ولو قلت: زيد عنك راحلًا لم يجز، لأنّك لو أسقطت راحلًا فقلت: زيد عنك، ولم يكن كلامًا مفيدًا، فإذن لا يصحّ إلاُّ أن ترفع راحلًا، وتعلّق الجار به. ووجدت بعد انقضاء هذه الأمالي في كتاب عتيق يتضمن المختار من شعر الجعدي:"لا أنا باغيًا سواها" فهذه الرّواية تكفيك تكلّف الكلام على مبتغٍ.
فأمّا قوله: " يؤلّل عصلًا" فمعنى يؤلّل: يحدِّد أنيابًا عصلًا، والعصل: شدُّة النّاب مع اعوجاج فيه، وهو ناب أعصل. والبنى: جمع بنية، يريد أصول الأنياب، وهينة: مخفف هينّة، كقولهم في ميّت ميت، والنّوابي من قولهم: نبا السيف ينبو: إذا ضربت به فرجع إليك، ولم يعمل في الضّريبة. وقول رؤبة: تحشّ الطُّبَّخ، يقال: حششت النّار أحشُّها: إذا أذكيتها، والطَّبخ: جمع طابخ، شبّه ملائكة النّار بالطَّبَّاخين. وقوله: حين لا مستصرخ، أي: حين لا أحد هناك يستصرخ كما يوجد في الدنّيا. إلى هنا كلام ابن الشّجري. وقد أول ابن مالك في "شرح الكافية" قال: ويمكن عندي أن يجعل "أنا" مرفوع فعل مضمر ناصب "باغيًا" على الحال، تقديره: لا أرى باغيًا، فلمّا أضمر الفعل برز الضَّمير وانفصل، ويجوز أن يجعل "أنا" مبتدأ، والفعل المقدَّر بعده خبرًا ناصبًا باغيًا على الحال، ويكون هذا من باب الاستغناء بالمعمول عن العامل لدلالته عليه، ونظائره كثيرة منها قولهم: حكمك مسمّطًا، أي: حكمك لك مسمّطًا، أي: مثبتًا، فجعل مسمّطًا،