الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي رواية: «لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْش الآخرة، فَأَصْلحِ الأَنْصَارِ وَالْمهَاجِرَة» (1).
وفي رواية: أَنهم يَقولونَ:
"نَحْن الَّذِينَ بَايَعوا محَمَّدا
…
عَلَى الإِسْلَامِ مَا تقِينَا أَبَدا"
34 -
باب حَفْر الْخنْدَقِ
[حديث لولا أنت ما اهتدينا]
46 -
[2836] حَدَّثَنَا أَبو الولِيدِ: حَدَّثَنَا شعْبَة، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْت الْبَرَاءَ (3) رضي الله عنه يَقول: كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَنْقل وَيَقول: «لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا» (4).
وفي رواية: «رَأَيت رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأَحْزَابِ يَنْقل التّرابَ - وَقَدْ وَارَى التّراب بَياضَ بَطْنِه - وَهوَ يَقول:
"
لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا
…
وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صلَّيْنَا
فأَنزِلِ السَّكينَة عَلَيْنَا
…
وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا
إنَّ الألَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا
…
إِذَا أَرَادَوْا فِتْنَة أَبيْنَا
» (5).
(1) من الطرف رقم 3795، والطرف رقم 4099.
(2)
من الطرف رقم 4100.
(3)
تقدمت ترجمته في الحديث رقم 30.
(4)
[الحديث 2836] أطرافه في: كتاب الجهاد والسير، باب حفر الخندق، 3/ 280، برقم 2837. وكتاب الجهاد والسير، باب الرجز في الحرب ورفع الصوت في حفر الخندق، 4/ 32، برقم 3034. وكتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، 5/ 56، برقم 4104 و 5/ 57، برقم 4106. وكتاب القدر، باب وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، 7/ 274، برقم 6620. وكتاب التمني، باب قول الرجل: لولا الله ما اهتدينا، 8/ 166، برقم 7236. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب وهي الخندق، 3/ 1430، برقم 1803.
(5)
من الطرف رقم 2837.
وفي رواية: «رَأَيْت رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهو يَنْقل التّرَابَ حَتَّى وَارَى التّرَاب شَغرَ صَدْرِه، - وَكَانَ رَجلا كَثِيرَ الشَّعْرِ - وَهوَ يَرْتَجِز بِرَجَزِ عَبْد الله [بن رواحة]:
اللَّهمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا
…
وَلا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فأَنْزِلَنْ سَكِينَة عَلَيْنَا
…
وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا
إنَّ الأَعْدَاء قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا
…
إِذَا أَرَادوا فِتْنَة أَبيْنَا
يَرْفَع بِهَا صوْتَه» (1).
وفي رواية: «يَرْفَع بِهَا صَوْتَه ": " أَبَيْنَا أَبَيْنَا» (2).
«ثمَّ يَمدّ صَوْتَه بِآخِرِها» (3).
* وفي رواية: «رَأَيْت النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الخَنْدَقِ يَنْقل مَعَنَا التّرَابَ وَهوَ يَقول:
والله لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا
…
ولَا صمْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فأَنْزِلَنْ سَكِينَة عَلَيْنَا
…
وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا
والمشْرِكونَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا
…
إِذَا أَرَادوا فِتْنَة أَبيْنَا» (4).
* وفي رواية: «كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَنْقل التّرَابَ يَوْم الخَنْدَقِ حَتَّى أغْمَرَ بَطْنه أَو اغْبَرَّ بَطْنه» (5).
* شرح غريب الحديثين: * " غداة باردة " غَدَا يَغْدو غدوّا، والغدْوَة: ما بين صلاة الغداة [الفجر] وطلوع الشمس (6).
(1) من الطرف رقم 3034.
(2)
من الطرف رقم 4104.
(3)
من الطرف رقم 4106.
(4)
من الطرف رقم 6620.
(5)
من الطرف 4104.
(6)
النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الغين مع الدال، مادة " غدا " 3/ 346.
* " النصب ": التعب (1).
* " متونهم " المتن من كل شيء: ما صلب ظهره، والجمع متون، وهو من الظهر: ما اكتنف أعلى الصلب من العصب واللحم، وهما متنان. والصلب: عظم من مغرس العنق إلى عَجْب الذنب (2).
* " بإهالة سنخة " الإِهالة: كل شيء من الأدهان مما يؤتدم به، والودك، والسنخة: المتغيرة الريح، والمقصود: الدهن المتغير (3).
* " بشعة في الحلق " البشع: الكريه الطعم والرائحة (4).
* " الألَى " بوزن العلَى، فهو جمع لا واحد له من لفظه، واحِده: الذي (5) وجمعه: الذين (6).
* " أغمر بطنه ": وارى التراب جلده وستره (7).
* الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها:
1 -
الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل.
2 -
من موضوعات الدعوة: الحث على أخذ الحذر والأهبة لصد أعداء الإِسلام.
3 -
من صفات الداعية: الصبر وتحمل المشاق.
4 -
من سنن الله عز وجل: الابتلاء والامتحان.
(1) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 102، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب النون مع الصاد، مادة " نصب " 5/ 62.
(2)
انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي ص 251، والقاموس المحيط، للفيروز آبادي، باب النون فصل الميم، ص 1591.
(3)
انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي ص 251 - 552، ولسان العرب، لابن منظور باب اللام فصل الهمزة، 11/ 32.
(4)
تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي ص 252.
(5)
مختار الصحاح، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مادة " أول " ص 14.
(6)
انظر: فتح الباري لابن حجر 13/ 223، وعمدة القاري للعيني 25/ 7.
(7)
النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الغين مع الميم، مادة " غمر " 3/ 384.
5 -
من صفات الداعية: الزهد.
6 -
من أساليب الدعوة: إنشاد الشعر الممدوح والرجز.
7 -
من وسائل الدعوة: تسلية المدعوين وتنشيطهم.
8 -
من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء.
9 -
من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
10 -
من أساليب الدعوة: رفع الصوت في الخطب والمواعظ.
11 -
من أساليب الدعوة: الترغيب.
12 -
من صفات الداعية: التواضع.
13 -
من صفات الداعية: إعانة المدعوين.
14 -
من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم.
15 -
من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار.
16 -
من صفات الداعية: إثبات النعم لله والثناء عليه بها.
17 -
من صفات الداعية: الاستفادة مما عند الآخرين.
18 -
من صفات الداعية: الدقة في نقل الحديث.
19 -
أهمية استجابة المدعو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل: دل الحديثان على أن الأخذ بالأسباب، لا ينافي التوكل على الله عز وجل؛ ولهذا عمل النبي صلى الله عليه وسلم بفعل الأسباب وهو إمام المتوكلين، فحفر الخندق، وحمل التراب، وأمر أصحابه بذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بالأسباب ويأمر بفعلها، ويستعين بالله عز وجل، وبعد الفراغ من الأسباب لا يعتمد عليها بلَ يعتمد بقلبه على الله عز وجل، (1) وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول:" لابد من الأخذ بالأسباب، ومن هذه الأسباب حفر الخندق؛ لأنه يعطل الأعداء عن اجتياح المدينة "(2).
(1) انظر: بهجة النفوس شرح مختصر صحيح البخاري، لعبد الله بن أبي جمرة 3/ 113.
(2)
سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه للحديثين: رقم 2834، و 2836 من صحيح البخاري.
وهذا يبين للداعية أهمية الأخذ بالأسباب النافعة في الدعوة إلى الله عز وجل (1).
ثانيا: من موضوعات الدعوة: الحث علي أخذ الحذر والأهبة لصد أعداء الإسلام: ظهر في هذين الحديثين أهمية الحث على التحصن من العدو وأخذ الحذر، والأهبة؛ ولهذا عمل النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه مع أصحابه وحفروا الخندق، وتأهبوا لقتال عدوّهم وصده، وأخذوا الحذر منه. قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71](2).
وهذا يبين للداعية أهمية الحث على أخذ الحذر من أعداء الإِسلام، والإِعداد وأخذ الأهبة لصدهم عن ديار المسلمين.
ثالثا: من صفات الداعية: الصبر وتحمل المشاق: دل الحديثان على صبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم على مشاق الدعوة، والاستعداد لقتال أعداء الإِسلام؛ ولهذا صبروا على الجوع، والتعب في حفر الخندق، ونقل التراب على ظهورهم. وسوف يجازيهم الله على عملهم بأن يثيبهم بغير حساب قال الله سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10](3).
فينبغي الصبر والمصابرة على مشاق الدعوة والجهاد في سبيل الله عز وجل، (4) قال اللِّه عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200](5).
رابعا: من سنن الله عز وجل: الابتلاء والامتحان: الله عز وجل يبتلي ويختبر عباده بالسراء والضراء، وبالخير والشر، فهذا رسول
(1) انظر: الحديث رقم 30، الدرس الخامس، وفتح الباري لابن حجر، 6/ 46، 7/ 392.
(2)
سورة النساء، الآية:71.
(3)
سورة الزمر، الآية:10.
(4)
انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 27، الدرس الأول، ورقم 28، الدرس السادس.
(5)
سورة آل عمران، الآية:200.
الله صلى الله عليه وسلم أفضل البشر، وهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم أفضل الناس بعد الأنبياء: يصيبهم ما أصابهم من الجوع، والمشقة، والخوف أثناء حفر الخندق، فصبروا على ذلك ابتغاء وجه الله عز وجل (1).
وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " وهذه من مناقب الصحابة وصبرهم على الجهاد، وهذا من ابتلاء الله لأوليائه "(2) وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم عصب بطنه بحجر من الجوع أثناء حفر الخندق، وبقي هو ومن معه في الحفر ثلاثة أيام لا يذوقون طعاما (3).
فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يسأل الله العافية، وإذا أصابه ابتلاء واختبار صبر، واحتسب الثواب من الله عز وجل.
خامسا: من صفات الداعية: الزهد: دل الحديثان على زهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الدنيا، وإيثارهم ما عند الله عز وجل على ملذاتها؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة» فالعيش الباقي والدائم المعتبر والمستمر والمطلوب، هو عيش الآخرة، وأما عيش الدنيا فإنه متاع زائل (4).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي هذين الحديثين إشارة إلى تحقير عيش الدنيا لما يعرض له من التكدير وسرعة الفناء "(5).
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين حفظه الله: " العيشة الهنيئة الراضية هي عيش الآخرة، وأما الدنيا فإنها مهما طاب عيشها فمآلها إلى الفناء، وإذا لم يصحبها عمل صالح فإنها خسارة "(6).
(1) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 16، الدرس الخامس.
(2)
سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لهذين الحديثين: رقم 2834، 2836، من صحيح البخاري.
(3)
انظر: البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، 5/ 55، برقم 4101 عن جابر رضي الله عنه.
(4)
انظر: شرح صحيح مسلم للنووي 12/ 414، وإكمال إكمال المعلم: شرح صحح مسلم، للأبي 6/ 462، وفيض القدير شرح الجامع الصغير، لعبد الرؤوف المناوي 2/ 600، وإرشاد الساري للقسطلاني 5/ 62.
(5)
فتح الباري 11/ 231.
(6)
شرح رياض الصالحين 6/ 18.
قال الله عز وجل {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185](1) وقال عز وجل: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16 - 17](2). وهذا يبين للداعية أهمية الزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله عز وجل؛ لأنه هو الباقي الذي لا يفنى ولا يموت أهله (3).
سادسا: من أساليب الدعوة: إنشاد الشعر الممدوح والرجز: لا شك أن إنشاد الشعر المحمود، والرجز الممدوح من أساليب الدعوة إلى الله تعالى؛ ولهذا فعله عليه الصلاة والسلام في حفر الخندق مع أصحابه، وهذا الرجز منسوب إلى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، قال العلامة العيني رحمه الله:" وفيه استعمال الرجز والشعر إذا كانت فيه إقامة النفوس، وإثارة الأنفة ودفع المَعَرَّة "(4).
وهذا يبيِّن أهمية استخدام هذا الأسلوب عند الحاجة إليه مع الالتزام بالمحمود منه واجتناب المذموم (5).
سابعا: من وسائل الدعوة: تسلية المدعوين وتنشيطهم: إن من الوسائل التي تنشط المدعو وتزيد في عزيمته ما يستعمله الداعية من الوسائل المباحة أو المشروعة، ومن هذه الوسائل إنشاد الشعر المباح والرجز الممدوح، وقد دل فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في هذين الحديثين على ذلك. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" وفيه أن في إنشاد الشعر تنشيطا في العمل، وبذلك جرت عادتهم في الحرب وأكثر ما يستعملون في ذلك الرجز " فتح (6) وقال رحمه الله: " الرجز من بحور الشعر على الصحيح وجرت عادة
(1) سورة آل عمران، الآية:185.
(2)
سورة الأعلى، الآيتان: 16 - 17.
(3)
انظر: الحديث رقم 2، الدرس الأول، ورقم 15، الدرس الأول.
(4)
عمدة القاري 14/ 131، وانظر: إرشاد الساري للقسطلاني 5/ 62.
(5)
انظر: الحديث رقم 27، الدرس الثالث.
(6)
الباري، 7/ 395، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 413.
العرب باستعماله في الحرب، ليزيد في النشاط ويبعث الهمم " (1) وهذا يوضح للداعية أن الشعر المحمود والرجز الممدوح من الوسائل النافعة مع بعض المدعوين.
ثامنا: من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء: لا ريب أن الدعاء للمدعو من الأساليب النافعة التي تجذب قلوب المدعوين؛ وقد دعا صلى الله عليه وسلم للصحابة في هذين الحديثين بأدعية مباركة منوعة منها: " اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة " وقال: ". . . فبارك في الأنصار والمهاجرة " وقال: " فأكرم الأنصار والمهاجرة "" فأصلح الأنصار والمهاجرة " دعوات مباركات أحب إلى المهاجرين والأنصار من الدنيا وما فيها (2).
تاسعا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: دل الحديثان على أهمية القدوة الحسنة في الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا عمل النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة بنفسه، فحفر معهم الخندق، وذاق ألم الجوع والتعب معهم، فقَوِي حماسهم ونشطت نفوسهم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" في مباشرته صلى الله عليه وسلم الحفر بنفسه تحريض للمسلمين على العمل ليتأسوا به في ذلك "(3) فينبغي للداعية أن يكون قدوة حسنة للمدعوين (4).
عاشرا: من أساليب الدعوة: رفع الصوت في الخطب والمواعظ: إن من أساليب الدعوة التي تزيد في نشاط المدعو رفع الصوت بالخطب والمواعظ؛ ولهذا رفع صوته صلى الله عليه وسلم في الحديث الثاني من هذين الحديثين حيث
(1) فتح الباري، 6/ 161.
(2)
انظر: الحديث رقم 21، الدرس الخامس.
(3)
فتح الباري 6/ 46.
(4)
انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث، ورقم 9، الدرس الثالث عشر.
قال: «إذا أرادوا فتنة أبينا» قال الراوي: " يرفع بها صوته " وفي رواية: " يمد صوته بآخرها " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه جواز رفع الصوت في عمل الطاعة لينشِّط نفسه وغيره "(1).
* وقد كان هديه صلى الله عليه وسلم رفع الصوت في الخطب؛ ليستفيد الناس منها؛ ولينتبهوا ولا يصيبهم الكسل والنعاس (2) فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتدَّ غضبه، حتى كأنه منذر جيش» (3). فينبغي للداعية أن يكون نشيطا برفع صوته على حسب الحاجة وحسب ما يناسب المدعو، والزمان، والمكان.
الحادي عشر: من أساليب الدعوة: الترغيب: إن أسلوب الترغيب من أنفع الأساليب في ترغيب المدعوين في الخير والعمل به، وقد ظهر في هذين الحديثين في قوله صلى الله عليه وسلم:" اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة " فَنشَّط هذا الأسلوب الصحابة رضي الله عنهم، وشوَّقهم في العمل، ورغّبهم في عيش الآخرة؛ لأنه الذي يدوم ويبقى؛ ولهذا النشاط والرغبة قالوا:" نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا ".
فينبغي العناية بهذا الأسلوب؛ لما فيه من النفع للمدعوين (4).
الثاني عشر: من صفات الداعية: التواضع: إن من أعظم الصفات الحميدة التواضع، وقد دل هذان الحديثان على هذه الصفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل البشر، وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم ومع ذلك يحفر مع أصحابه الخندق، ويواري التراب بطنه، ويربط الحجر على بطنه من الجوع، ويقدَّم بين يديه في هذا المكان الطعام الذي له ريح منتن كما قال الراوي:
(1) فتح الباري 6/ 161.
(2)
انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم 1/ 425.
(3)
أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، 2/ 592، برقم 867.
(4)
انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر.
" يؤتون بملء كفَّي من الشعير فيصنع لهم بإهالة سنِخة، وتوضع بين يدي القوم، والقوم جياع وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن "؛ قال الإِمام ابن أبي جمرة رحمه الله: " فيه دليل على تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه؛ إذْ أنه في الفضل حيث هو، ومع ذلك الفضل العظيم كان ينقل التراب مع أصحابه، كأنه واحد منهم "(1). فينبغي للداعية أن يكون متواضعا لله عز وجل مع المدعوين وغيرهم.
الثالث عشر: من صفات الداعية: إعانة المدعوين: إن من الصفات التي ينبغي أن يلتزم بها الداعية: إعانة المدعوين، ومشاركتهم في عمل الخير؛ لأن أفضل الناس محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كان يعين أصحابه ويشاركهم في أعمال الجهاد وغيره، ويشاركهم في حفر الخندق كما في هذين الحديثين؛ قال الإِمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله في فوائد الحديث الثاني:" فيه دليل على أن الإِمام ينزل للخدمة مع أصحابه، إذا كانوا في أمور الحرب وإعانتهم فيما نحن بسبيله "(2).
الرابع عشر: من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم: دل الحديث الثاني من هذين الحديثين على أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم أسلوب القسم في قوله صلى الله عليه وسلم:
«
والله لولا الله ما اهتدينا
…
ولا تصدقنا ولا صلينا
»
فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب عند الحاجة إليه؛ لأنه يثبت المعاني في القلوب ويحملها على التصديق (3).
الخامس عشر: من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار: ظهر في الحديث الثاني من هذين الحديثين أسلوب التوكيد بتكرير الكلمة في قوله صلى الله عليه وسلم: " أبينا أبينا " ولا شك أن هذا الأسلوب مهم في تثبيت المعاني
(1) بهجة النفوس، 3/ 112، وانظر: الحديث رقم 33، الدرس العاشر، ورقم 62، الدرس الثالث.
(2)
المرجع السابق، 3/ 112.
(3)
انظر: الحديث رقم 10، الدرس الخامس.
في القلوب، وحملها على التصديق؛ قال العلامة الملا علي القاري رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم:" أبينا أبينا "" مكرر للتأكيد والتلذذ، والتسميع لغيره من المسلمين والكافرين "(1).
فينبغي العناية بأسلوب التأكيد بالتكرار؛ لما له من الأهمية في الدعوة إلى الله عز وجل (2).
السادس عشر: من صفات الداعية: إثبات النعم لله والثناء عليه بها: دل حديث البراء رضي الله عنه على أن من الصفات الحميدة إثبات النعم لله عز وجل والتحدث بها والثناء على الله عز وجل بذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:
«
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
…
ولا تصدقنا ولا صلينا
»
قال الإِمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله: " فيه دليل على أن أفعال الخير تنسب إلى الله وإن كان العبد هو المتسبب فيها؛ لأن المولى جل جلاله هو المنعم بها "(3).
فينبغي للداعية أن ينسب جميع النعم لله تعالى، ويشكره عليها، ويتحدث بها؛ قال الله عز وجل:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11](4) وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53](5) وقال عز وجل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7](6).
السابع عشر: من صفات الداعية: الاستفادة مما عند الآخرين: إن من صفات الداعية الاستفادة مما عند الآخرين، مما يجلب المنفعة ويحقق المصلحة؛ لحماية الدين والذود عن حياضه، وتبليغه للناس؛ وقد
(1) مرقاة المفاتيح، للملأ علي القاري 8/ 545.
(2)
انظر: الحديث رقم 4، الدرس الخامس، ورقم 7، الدرس الثاني عشر.
(3)
بهجة النفوس شرح مختصر صحيح البخاري، 3/ 113.
(4)
سورة الضحى، الآية:11.
(5)
سورة النحل، الآية:53.
(6)
سورة إبراهيم، الآية:7.
دل مفهوم الحديثين على ذلك، فقد ذكر كثير من العلماء أن سبب حفر الخندق مشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق؛ لأن سلمان قال:" إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا " فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق حول المدينة (1) وهذا وغيره يوضح للداعية أنه لا حرج من الاستفادة مما عند الآخرين إذا كان فيه نفع للإِسلام والمسلمين، وليس فيه مخالفة للشرع.
الثامن عشر: من صفات الداعية: الدقة في نقل الحديث: دل حديث البراء رضي الله عنه أن من الصفات التي ينبغي أن يعتني بها الداعية عناية خاصة: الدقة والصحة فيما يقول وينقل للناس؛ ولهذا جاء في هذا الحديث أن الراوي قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى اغمرَّ بطنه، أو اغبرَّ بطنه " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " شك الراوي "(2) وهذا يدل على عناية السلف بضبط الحديث، وبيانه للناس على الوجه الأكمل (3).
التاسع عشر: أهمية استجابة المدعو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم: ظهر في هذين الحديثين أنه ينبغي للمدعو أن يستجيب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ويتحمل المشاق في سبيل العمل بهذا الدين، وقبول الدعوة: استجابة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24](4) وقد ظهر ذلك في هذين الحديثين؛ لقول الصحابة رضي الله عنهم:
نحن الذين بايعوا محمدا
…
على الجهاد ما بقينا أبدا
فينبغي لكل عبد من عباد الله أن يستجيب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
(1) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي، 3/ 643، والبداية والنهاية لابن كثير 4/ 95، وزاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، 3/ 271، وفتح الباري لابن حجر العسقلاني، 7/ 393.
(2)
فتح الباري، 7/ 401.
(3)
انظر: الحديث رقم 20 و 21، الدرس العاشر.
(4)
سورة الأنفال، الآية:24.