الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
39 -
باب التّحّنطِ عنْدَ الْقتَال
[حديث ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله]
51 -
[2845] حَدَّثَنَا عبد الله بْن عَبْدِ الْوَهَّابِ: حَدَّثَنَا خَالِد بْن الحَارِثِ: حَدَّثَنَا ابْن عَوْنٍ، عَن موسَى بْنِ أنس قَالَ: وَذَكَرَ يَوْمَ الْيَمَامَة قَالَ: «أَتَى أنس بن مَالِكٍ (1) ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ (2) وَقَدْ حَسَرَ عَنْ فَخِذَيْه وَهوَ يَتَحَنَّط فَقَالَ: يَا عَمِّ، مَا يَحْبسكَ أَن لَّا تَجيءَ؟ قَالَ: الآن يَا ابْنَ أَخِي، وَجَعَلَ يَتَحَنَّط - يَعْنِي مِنَ الحنوطِ - ثمَّ جَاءَ فَجَلَسَ، فَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ انْكِشَافا مِنَ النَّاسِ فَقَالَ: هَكَذا عَنْ وجوهِنَا حَتَّى نضَارِبَ القَوْمَ، مَا هكَذا كنَّا نَفعْل مَعَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم، بِئْسَ مَا عوَّدْتمْ أَقْرَانَكمْ» رَواه حَمَّاد، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنس.
* شرح غريب الحديث: * " حسر عن فخذيه " أي كشف (3).
* " ما يحبسك " أي يؤخرك (4).
(1) تقدمت ترجمته، في الحديث رقم 14.
(2)
ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، أبو عبد الرحمن وقيل: أبو محمد الخزرجي الأنصاري، خطيب الأنصار، وخطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من نجباء الصحابة رضي الله عنهم، وكان جهير الصوت خطيبا بليغا، شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا وما بعدها، وبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وأخبره أنه من أهلها، واستشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، سنة إحدى عشرة [واليمامة: سميت باسم جارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، فاليمامة بلاد سميت باسم هذه المرأة، ووقعت فيها هذه المعركة، وقتل من المسلمين ستمائة وقيل خمسمائة وقيل أربعمائة وخمسون من حملة القرآن، منهم ثابت بن قيس] وكان عليه درع نفيسة عند استشهاده فمر به رجل فأخذها فبينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه فقال: إني أوصيك بوصية فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه إني لما قتلت أخذ درعي فلان ومنزله في أقصى الناس وعند خبائه فرس يستن وقد كفى على الدرع برمة وفوق البرمة رحل فأتِ خالدا فمره فليأخذها، وليقل لأبى بكر الصديق رضي الله عنهم إن علي من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيقي حر، فأتى الرجل خالدا فبعث إلى الدرع فأتي بها على ما وصف، وأخبر أبا بكر رضي الله عنه برؤياه فأجاز وصيته، قال النووي " قالوا ولا نعلم أحدا أوصى بعد موته فأجيزت وصيته غير ثابت رضي الله عنه " انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر، المطبوع بهامش الإِصابة 1/ 192، وتهذيب الأسماء واللغات، 1/ 139، وسير أعلام النبلاء للذهبي 1/ 308، والبداية والنهاية لابن كثير، 6/ 325، وشرح الكرماني على صحيح البخاري 12/ 133، والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 1/ 195، وعمدة القاري للعيني 14/ 139.
(3)
انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 448، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب الحاء مع السين، مادة " حسر " 1/ 383.
(4)
انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 214.
* " يتحنط " يستعمل الحنوط، وهو ما يحنَّط به الموتى خاصة من الطيب، والكافور، وإنما كان يتحنط حرصا على الموت، وعزما عليه، واستعدادا له، وتوطين النفس عليه بالصبر على القتال؛ لما رأى من انكشاف الناس (1).
* " انكشافا من الناس " الانكشاف: الفِرار أو الهزيمة (2).
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 -
من موضوعات الدعوة: الحث والتحريض على الجهاد.
2 -
من صفات الداعية: التلطف ولين الكلام مع الكبير والصغير.
3 -
من صفات الداعية: الاستعداد للقاء الله عز وجل.
4 -
من صفات الداعية: صحة اليقين وقوته.
5 -
من صفات الداعية: الشجاعة والثبات.
6 -
من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
7 -
تأديب المدعو بالكلمة القوية عند الحاجة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحث والتحريض على الجهاد. دل هذا الحديث على الحث والتحريض والحض على الجهاد، وتوبيخ من يتكاسل عنه بالكلام المناسب؛ ولهذا قال أنس رضي الله عنه لقيس بن ثابت:«يا عمّ ما يحبسك أن لَّا تجيء؟ " فقال له: " الآن يا ابن أخي» وهذا فيه تحريض على الجهاد؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه التداعي إلى الحرب والتحريض عليها "(3).
(1) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 448، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع النون، مادة " حنط " 1/ 450.
(2)
تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 448.
(3)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6/ 52، وانظر: عمدة القاري 14/ 140.
وهذا يبين أهمية التحريض على الجهاد كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65](1) قال الإِمام القرطبي رحمه الله: " أي حثهم وحضهم "(2).
ثانيا: من صفات الداعية: التلطف ولين الكلام مع الكبير والصغير: دل على ذلك قول أنس رضي الله عنه لثابت بن قيس رضي الله عنه: «يا عمِّ ما يحبسك أن لا تجيء» فقوله: " يا عمِّ " قال ابن حجر رحمه الله: " إنما دعاه بذلك: لأنه كان أسنَّ منه؛ ولأنه من قبيلة الخزرج "(3) وقد رد عليه ثابت رضي الله عنه بقوله: «الآن يا ابن أخي» .
وهذا فيه تلطف وإكرام وإجلال، والعرب تتوسع في هذه الكلمات: تلطفا وتوددا، وتعبيرا عن إنزال المخاطب منزلة الابن أو ابن الأخ، أو العم، أو الأب (4).
وهذا يوضح للداعية مكانة التلطف والتودد وتأثيره في القلوب قال الله سبحانه وتعالى لموسى وهارون حينما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44](5) وهذا يؤكد العناية بهذه الصفة الحميدة. (6).
ثالثا: من صفات الداعية الاستعداد للقاء الله عز وجل: من الأمور المهمة أن يكون المسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل على استعداد تام للموت، وذلك بالتوبة من الذنوب، وإصلاح العمل، والقيام بالواجبات، والابتعاد عن المحرمات، وقد دل هذا الحديث على العناية بالاستعداد للموت والتأهب له وذلك بفعل ثابت بن قيس بتحنطه قبل القتال رضي الله عنه استعدادا للقاء الله، ورغبة في الانتقال من هذه الدنيا على أحسن حال (7) وهذا
(1) سورة الأنفال، الآية:65.
(2)
الجامع لأحكام القرآن 8/ 46.
(3)
فتح الباري 6/ 52، وانظر: عمدة القاري 14/ 139.
(4)
انظر: منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري، لحمزة محمد قاسم 4/ 98.
(5)
سورة طه، الآية:44.
(6)
انظر: الحديث رقم 10، الدرس الثالث.
(7)
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير 1/ 450.
يؤكد العناية بذلك عناية خاصة فائقة؛ لأن الإِنسان لا يدري متى يدركه الأجل، والله المستعان (1).
رابعا: من صفات الداعية: صحة اليقين وقوته: من الصفات العظيمة التي ينبغي أن يتصف بها الداعية: صحة اليقين وقوته؛ ولهذا تحنَّط ثابت بن قيس رضي الله عنه استعدادا للشهادة في سبيل الله تعالى، وثقة بالله عز وجل أن يثيبه، وهذا يدل على قوة يقينه ورغبته فيما عند الله عز وجل موقنا بذلك؛ لعلمه بأن الله عز وجل لا يخلف وعده؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" وفيه قوة ثابت بن قيس، وصحة يقينه ونيته "(2).
فينبغي للداعية أن يحسن ظنه بالله ويوقن إيقانا صادقاَ بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا (3).
خامسا: من صفات الداعية: الشجاعة والثبات: دل الحديث على أن الشجاعة والثبات من أعظم الصفات التي ينبغي للداعية أن يتصف بها، وقد ظهرت هذه الصفة في فعل ثابت بن قيس رضي الله عنه، وإقدامه إلى المعركة بقوة ونشاط وعزيمة صادقة؛ ولهذه الشجاعة قال لأصحابه؛ " هكذا عن وجوهنا حتى نضارب القوم، ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " والمعنى: افسحوا لي حتى أقاتل (4) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه الإِشارة إلى ما كان الصحابة عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الشجاعة والثبات في الحرب "(5).
فينبغي أن يكون الداعية متصفا بالشجاعة العقلية والقلبية والأدبية (6).
(1) انظر: الحديث رقم 1، الدرس الثالث.
(2)
فتح الباري 6/ 52، وانظر: عمدة القاري للعيني 14/ 140.
(3)
انظر: الحديث رقم 28، الدرس الرابع.
(4)
انظر: فتح الباري لابن حجر، 6/ 52.
(5)
المرجع السابق 6/ 52، وانظر: عمدة القاري للعيني 14/ 140.
(6)
انظر: الحديث رقم 35، الدرس الخامس.
سادسا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: ظهر في هذا الحديث أن القدوة الحسنة من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا قال ثابت بن قيس رضي الله عنه: " ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " والمعنى أن الصف في القتال لا ينصرف عن موضعه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بل يثبتون في قتالهم ولا يتقهقرون (1) فقد اقتدى رضي الله عنه بفعله هو وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عهده، وأرشد المجاهدين بهذه الكلمة إلى ما كان عليه الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم من الثبات في قتال عدوهم (2). وهذا يبين أهمية هذه الوسيلة في الدعوة إلى الله وأن الداعية ينبغي بل يلزمه أن يكون قدوة صالحة حسنة لغيره (3).
سابعا: تأديب المدعو بالكلمة القوية عند الحاجة: لا ريب أن المدعوين يختلفون على حسب أحوالهم، وعقولهم، والداعية يخاطبهم مراعيا في ذلك ما ينفعهم على حسب أحوالهم؛ لأنه كالطبيب الحاذق الذي يقدم الدواء على حسب الداء، ومن هذا الدواء والعلاج تأديب بعض المدعوين بالكلام القوي، والزجر عما يضرهم، وقد ظهر هذا التأديب في كلام ثابت بن قيس رضي الله عنه في هذا الحديث لأصحابه بقوله:" بئس ما عودتم أقرانكم " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وأراد ثابت بن قيس بقوله هذا توبيخ المنهزمين! أي عودتم نظراءكم في القوة من عدوكم الفرار منهم حتى طمعوا فيكم "(4) وهذا يبين أهمية تأديب المدعو بالكلام إذا ظهرت المصلحة وانتفت المفسدة؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم الكلمة القوية عند الحاجة إليها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه، وقال:«يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده» (5).
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6/ 52، وعمدة القاري للعيني 14/ 140، ومنار القاري في شرح مختصر صحيح البخاري، لحمزة محمد قاسم 4/ 98.
(2)
انظر: فتح الباري لابن حجر، 6/ 52، وعمدة القاري للعيني، 14/ 140.
(3)
انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث.
(4)
فتح الباري 6/ 52، وانظر: عمدة القاري للعيني، 14/ 140.
(5)
صحيح مسلم، كتاب اللباس، باب تحريم خاتم الذهب على الرجال، 3/ 1655، برقم 2090.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا، فقال:«ما هذا يا صاحب الطعام؟ " قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: " أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشّ فليس مني» (1) واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة ابن اللتبية فجاء بالمال فدفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «هذا مالكم وهذه هدية أهديت لي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك فتنظر أيهدى إليك أم لا» ؟ " (2).
فينبغي للداعية جلب المصالح ودفع المفاسد؛ فإن تعارضت المصالح والمفاسد دفعت أعظم المفسدتين أو الضررين باحتمال أيسرهما، وجلبت أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، ودفع المفاسد مقدم على جلب المصالح (3).
(1) صحيح مسلم، كتاب الإِيمان، باب قوله صلى الله عليه وسلم " من غشنا فليس منا " 1/ 99 برقم 102.
(2)
متفق عليه: البخاري، 7/ 278، برقم 6636، ومسلم، 3/ 1463، برقم 1832، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 4، آخر الدرس الرابع، ص 69.
(3)
انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 3/ 194، وإعلام الموقعين لابن القيم، 3/ 15 - 17، وفتح الباري لابن حجر، 1/ 325.