الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
80 -
باب المِجَنِّ ومَن يتَتَرَّس بترس صاحبه
[حديث كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله]
77 -
[2904] حَدَّثَنَا عَليّ بْن عبد الله: حَدَّثَنَا سفْيَان، عَنْ عَمرو، عَن الزهري، عَنْ مَالِكِ بْن أَوسِ بْنِ الحَدثَانِ (1) عَنْ عمَر (2) رضي الله عنه قَالَ:«كَانَتْ أَمْوال بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ الله عَلَى رَسولِهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَمْ يوجِفِ المسْلِمونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَاب، فَكَانَتْ لِرَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّة، وَكَانَ ينْفِق عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثمَّ يَجْعَل ما بقِيَ فِي السِّلاحِ وَالْكرَاعِ عدَّة فِي سَبِيلِ اللهِ» (3).
وفي رواية: حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن محَمّدٍ الفَرَوِيّ: حَدَّثَنَا مَالِك بْن أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مَالِك بْنِ أَوْسِ بْنِ الحَدَثانِ - وَكَانَ محَمَّد بْن جبَيْرٍ ذَكَرَ لِي ذِكْرا مِنْ حَدِيثِهِ ذَلِكَ، فَانْطَلَقْت حَتَّى أَدْخلَ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ فَسَأَلته عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ- فَقَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا جَالِس فِي أَهْلِي حِينَ مَتَعَ النَّهار، إِذَا رَسول عمَرَ بْنِ الخَطَّاب يَأْتِينِي فَقَالَ: أَجِبْ أَمِيرَ الْمؤمِنِينَ، فَانْطَلَقْت مَعَه حَتَّى أَدخلَ عَلَى عمَرَ، فَإِذَا هوَ جَالِس عَلَى رمَالِ سَرِيرٍ لَيْسَ بَيْنَه وَبَيْنَه فِراش، متكئ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ. فَسَلَّمْت عَلَيْهِ ثمَّ جَلَسْت، فَقَالَ: يَا مَالِك، إِنَّه قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ قَوْمِكَ أَهْل أَبْيَاتٍ، وَقَدْ أَمَرْت فِيهِمْ بِرَضْخٍ، فَاقْبِضه، فَاقْسِمْه بَيْنَهمْ، فَقلْت:
(1) مالك بن أوس بن الحدثان، بن الحارث بن عوف، النصري الحجازي المدني، يقال: أدرك حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وجمهور العلماء على أنه تابعي، وحدث عن عمر، وعلي، وعثمان، وطلحة، رضي الله عنهم، وحدث عن غيرهم. وشهد الجابية وفتح بيت المقدس مع عمر. وقيل: قد ركب الخيل في الجاهلية، وكان مشهورا بالبلاغة والفصاحة وهو قليل الحديث. مات سنة اثنتين وتسعين، وقيل: سنة إحدى وتسعين. قال الإمام الذهبي: لعله عاش مائة سنة. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 2/ 79، وسير أعلام النبلاء للذهبي 4/ 171، وتهذيب التهذيب لابن حجر، 10/ 9.
(2)
تقدمت ترجمته في الحديث رقم 64.
(3)
[الحديث 2904] أطرافه في: كتاب فرض الخمس، باب فرض الخمس، 4/ 53، برقم 3094. وكتاب المغازي، باب حديث بني النضير، 5/ 28، برقم 4033. وكتاب تفسير القرآن، سورة الحشر 59، باب " ما أفاء الله على رسوله "، 6/ 69، برقم 4885. وكتاب النفقات، باب حبس (نفقة) الرجل قوت سنة على أهله، وكيف نفقات العيال؟، 6/ 233، برقم 5357 و 5358. وكتاب الفرائض، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:" لا نورث ما تركنا صدقة "، 8/ 4، برقم 6728. وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق، 8/ 185، برقم 7305. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب حكم الفيء، 3/ 1376، برقم 1757.
يَا أَمِيرَ الْمؤمِنِينَ، لَوْ أَمَرْتَ لَه غَيْري؟ قَالَ: فَاقْبِضْه أَيّهَا المَرْء، فَبَيْنَمَا أنا جَالِس عِنْدَه أتاه حَاجِبه يَرْفَأ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عثْمَانَ وَعبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ والزّبَيْرِ، وَسْعدِ بْنِ أَبِي وقَاصٍ يَسْتأْذنونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهمْ، فَدَخَلوا، فَسَلَّموا وَجَلَسوا. ثمَّ جَلَسَ يَرْفأ يَسِيرا، ثمَّ قَالَ: هَلْ لَكَ فِي عَليٍّ (1) وعبَّاس (2)؟ قَالَ: نَعم، فَأَذنَ لَهمَا، فَدَخَلا، فَسَلَّمَا فَجَلَسَا فَقَالَ عَباس: يَا أَمِيرَ الْمؤمِنِينَ، اقْضِ بَينِي وَبَيْن هَذَا - وَهمَا يَخْتَصِمَانِ فِيمَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَالِ بَنِي النَّضِيرِ- فَقَالَ الرَّهْط - عثْمَان وَأَصْحَابه- يَا أَمِيرَ الْمؤمِنِينَ اقْضِ بَيْنَهمَا وَأَرِحْ أَحَدَهمَا مِنَ الآخَرِ. فَقَال عمَر: تَيْدَكمْ؛ أنشدكمْ باللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقوم السَّمَاء وَالأَرْض، هَلْ تَعْلَمونَ أَن رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ:" لَا نورَث، مَا تَرَكْنَا صَدَقة؟ " يريد رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَه؛ قَالَ الرَّهْط: قَدْ قَالَ ذَلِكَ. فَأَقْبَلَ عمَر عَلَى عَلِيٍّ وَعَبّاسٍ فَقَالَ: أَنشدكمَا اللهَ أَتَعْلَمَانِ أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَا: قَدْ قَالَ ذَلِكَ؛ قَال عمَر: فَإِنِّي أحدِّثكمْ عَنْ هَذَا الأَمْر: إِنَّ اللهَ قَدْ خَصَّ رَسولَه صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْفَيءِ بشَيْءٍ لَمْ يعْطهِ أَحَدا غَيْرَه. ثمَّ قَرَأَ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} [الحشر: 6] إلى قوله: {قَدِيرٌ} [الحشر: 6] فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَة لِرَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والله مَا احْتازَهَا دونَكمْ، وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكمْ، قَدْ أَعْطَاكموه وَبَثَّهَا فِيكمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَال، فَكَانَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ينفِق عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ، ثمَّ يَأْخذ مَا تقِيَ فَيَجْعَله مَجْعَلَ مَالِ اللهِ. فَعَمِلَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ حَيَاتَه. أَنشدكمْ بِاللهِ، هَلْ تَعْلَمونَ ذَلِكَ؟ قَالوا: نَعَمْ. ثمَّ قَالَ لِعَليٍّ وَعَبَّاسٍ: أَنْشدكمَا اللهَ هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ؛ قَالَ عمَر: ثمَّ تَوَفَّى الله نَبيَّه صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبو بَكْرٍ: أَنَا وَليّ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَبَضَهَا أَبو بَكْرٍ فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، والله يَعْلم إِنَّه فِيهَا لَصَادِق بَارّ رَاشد تَابع لِلْحَقِ. ثمَّ تَوَفَّى الله أَبَا بَكْرٍ، فَكنْت أنا وَلِيَّ أَبِي بَكْرٍ، فَقَبَضْتهَا سَنَتَين مِن إِمَارَتي أَعْمَل فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا عَمِلَ فِيهَا أَبو بَكْرٍ،
(1) ترجم له في الحديث رقم 78.
(2)
ترجم له في الحديث رقم 105.
وَالله يَعْلَم إِنِّي فِيهَا لَصَادِق بَارّ رَاشد تَابع لِلْحَقِ. ثم جِئْتمَانِي تكَلِّمَانِي، وَكَلِمَتكمَا وَاحِدَة وَأمركمَا وَاحِد، جِئْتَنِي يَا عَبَّاس تَسْألنِي نَصِيبَكَ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ، وَجَاءَنِي هَذَا- يرِيد عَليّا - يرِيد نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا. فَقلْت لَكمَا: إِنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: " لَا نورَث، مَا تَرَكْنَا صَدَقَة ". فَلَمَّا بَدَا لِي أَنْ أَدْفَعَه إِليْكمَا قلْت: إِنْ شِئتمَا دَفَعْتهَا إِليْكمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكمَا عَهْدَ اللهِ ومِيثَاقَه لتَعْمَلَانِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبو بَكْرٍ، وبِمَا عَمِلت فِيهَا منْذ وَليْتهَا. فَقلْتمَا: ادْفعهَا إِلَيْنَا، فَبِذَلِكَ دَفَعْتهَا إِلَيْكمَا. فَأَنشدكمْ بِاللهِ هَلْ دَفَعْتها إِلَيْهمَا بِذَلِكَ؟ قَالَ الرَّهْط: نَعَمْ. ثمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبّاسٍ فَقَالَ: أَنشدكمَا بِاللهِ هَلْ دَفَعْتها إِلَيْكمَا بِذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ، قَالَ: فَتَلْتَمسَانِ مِنِّي قَضاء غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَوَاللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقوم السَّمَاء وَالأَرْض، لَا أَقْضي فِيهَا قَضاء غَيْرَ ذَلِكَ؛ فإِنْ عَجَزْتمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ، فإِنِّي أَكْفِيكمَاهَا» (1).
وفي رواية: «اتَّئِدوا أَنشدكمْ بِاللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقوم السَّمَاء وَالأَرْض. .» (2).
وفي رواية: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يَبيع نَخْلَ بَنِي النَّضيرِ، ويَحْبس لأَهْلِهِ قوتَ سَنَتِهِمْ» (3).
* شرح غريب الحديث: * " أفاء الله على رسوله " الفيء: هو ما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد. وأصل الفيء: الرجوع من جهة إلى جهة، أو من مفارقة إلى موافقة (4).
* " يوجف " الإِيجاف سرعة السير، يقال: أوجف دابته يوجفها إيجافا،
(1) الطرف رقم 3094.
(2)
من الطرف رقم: 4033.
(3)
الطرف رقم: 5357.
(4)
انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 43، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الفاء مع الياء، مادة:" فيأ " 3/ 482.
إذا حثها، ويقال: أوجف في الشيء: اجتهد وأسرع (1).
* " الكراع " اسم يجمع أنواع الخيل (2).
* " متع النهار " أي طال وامتدَّ وتعالى (3).
* " رمَالِ سرير " الرّمال: ما رمل: أي نسِجَ من حصير وغيره، يقال: رمل الحصير وأرمله فهو مرمول، ومرْمَل، كأنه أراد أنه لم يكن تحته فراش، ولا حائل دون الحصير (4). * " من أدَم " جمع أَدِيم: وهو الجلد (5).
* " برضخ " الرضخ: العطية القليلة (6).
* " يرفأ " يقال: رفوت الرجل ورفأته: إذا سكنته، ويقال: يرفؤه: يسكنه ويلين له القول، ويترضاه (7).
* " تيدكم ": أي على رسلكم، وهو التّؤَدة، كأنه قال: الزمو تؤَدَتكم، وكذلك قوله:" اتئدوا " أمر بالتؤدة والتأني (8).
* " أنشدكم بالله " أي أسألكم بالله (9).
(1) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 44، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع الجيم، مادة:" وجف " 5/ 157.
(2)
تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 44.
(3)
النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الميم مع التاء، مادة:" متع " 4/ 293، وانظر: مشارق الأنوار للقاضي عياض، حرف الميم مع التاء، 1/ 372.
(4)
النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الميم مادة:" رمل " 2/ 265، وانظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 42.
(5)
تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 537، وانظر: مشارق الأنوار للقاضي عياض، حرف الهمزة مع الدال، 1/ 24.
(6)
النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الضاء، مادة:" رضخ " 2/ 228، وانظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 43.
(7)
انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 430، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الفاء، مادة:" رفأ " 2/ 241.
(8)
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب التاء مع الهمزة، مادة:" تئد " 1/ 178.
(9)
انظر: المرجع السابق، باب النون مع الشين، مادة:" نشد " 5/ 52، وتقدم في شرح غريب الحديث رقم 16، ص 147.
* " ما احتازها دونكم " أي ما امتلكها ولا ضمها إلى نفسه (1).
* " بثها فيكم " أي أشاعها ونشرها (2).
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 -
من موضوعات الدعوة: إعداد العدد للجهاد في سبيل الله عز وجل.
2 -
الادخار لا ينافي التوكل على الله عز وجل.
3 -
من صفات الداعية: الزهد.
4 -
أهمية الحرص على طلب الحديث وتحصيله من مصادره الأصلية.
5 -
من وسائل الدعوة: أن يتولى أمر كل قبيلة كبيرهم الصالح.
6 -
أهمية الشفاعة الحسنة في الدعوة إلى الله عز وجل.
7 -
من أساليب الدعوة: الحوار.
8 -
من أساليب الدعوة: استشهاد من حضر لتقوى الحجة.
9 -
أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة.
10 -
من صفات الداعية: عدم الحرص على الإِمارة والعلوِّ في الأرض والجاه.
11 -
أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية.
12 -
من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
13 -
من أساليب الدعوة: ذكر الداعية بعض مناقبه عند الحاجة انتصاراَ للحق.
14 -
لا ينكر أن يغيب عن العالم أو الداعية بعض العلم.
15 -
أهمية العمل بمقتضى الدليل الشرعي.
16 -
من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
(1) انظر: المعجم الوسيط، مادة:" حاز " 1/ 206.
(2)
مشارق الأنوار للقاضي عياض، حرف الباء مع الثاء، مادة:" بثث " 1/ 78.
أولا: من موضوعات الدعوة: إعداد العدد للجهاد في سبيل الله عز وجل: دل هذا الحديث على أن الإِعداد للجهاد والحث عليه من موضوعات الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا كان النبي ينفق على أهله نفقة سنته مما أفاءَ الله عليه مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله عز وجل (1). وهذا يبين للمسلمين اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم في إعداد العدَد والتأهب للجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى (2).
ثانيا: الادخار لا ينافي التوكل على الله عز وجل: ظهر في هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان ينفق على أهله نفقة سنتهِ ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله» وفي الرواية الأخرى: «كان يبيع نخل بني النضير، ويحبس لأهله قوت سنتهم» وهذا يدل على أن الادخار لا ينافي التوكل على الله عز وجل؛ لأن سيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم ادخر كما في هذا الحديث؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه جواز الادخار خلافا لقول من أنكره من متشدِّدي المتزهدين، وأن ذلك لا ينافي التوكل "(3) ولا شك أن هذا من عمل الأسباب المشروعة التي لا تنافي التوكل (4).
ثالثا: من صفات الداعية: الزهد: ظهر في هذا الحديث زهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يجعل ما بقي بعد نفقة أهله سنتهِ، في السلاح والكراع عدة في سبيل الله عز وجل، وظهر في الحديث أيضا زهد عمر بن الخطاب وهو أمير المؤمنين رضي الله عنه، فقد جاءه مالك بن أوس بن الحدثان وهو جالس على رمال سرير ليس بينه وبينه فراش وهو متكئ على وسادة من جلد. وهذا يبين للدعاة إلى الله عز وجل عظم زهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6/ 94، وعمدة القاري للعيني 14/ 185.
(2)
انظر: الحديث رقم 2، الدرس الثالث.
(3)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6/ 208، و 9/ 503، وانظر: الإِفصاح عن معاني الصحاح للوزير العالم ابن هبيرة، 1/ 142، وبهجة النفوس لابن أبي جمرة، 3/ 90.
(4)
انظر: الحديث رقم 30، الدرس الخامس.
رضي الله عنهم؛ لأنهم قد علموا أن الدنيا وما فيها متاع زائل؛ ولهذا قال سهل بن سعد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» (1).
فينبغي للداعية أن يكون زاهدا في الدنيا كما زهد أهل العلم والإِيمان (2)؛ لأن الزهد في الحقيقة ليس من شرطه خروج المال عن اليد؛ وإنما خروج المال عن القلب، وأن لا يتعلق به، وأن يصرف فيما يرضي الرب سبحانه وتعالى (3).
رابعا: أهمية الحرص على طلب الحديث وتحصيله من مصادره الأصلية: دل فعل ابن شهاب رحمه الله في عدم اعتماده على ما ذكر له محمد بن جبير عن مالك بن أوس، بل ذهب بنفسه حتى أخذ الحديث من مصدره الأصلي، فسمعه من مالك بن أوس عن عمر؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" وفي صنيع ابن شهاب ذلك أصل في طلب علوِّ الإِسناد؛ لأنه لم يقتنع بالحديث عنه، حتى دخل عليه؛ ليشافهه به، وفيه حرص ابن شهاب على طلب الحديث وتحصيله "(4).
فينبغي للداعية أن يحرص على أخذ العلم وخاصة علم الكتاب والسنة من المصادر الأصلية المعتمدة عند العلماء، حتى يكون علمه صحيحا موثقا.
خامسا: من وسائل الدعوة: أن يتولى أمر كل قبيلة كبيرهم الصالح: ظهر في هذا الحديث أن من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل أنه ينبغي أن يولَّى أمر كل قبيلة سيدهم الصالح، وتفوض إليه مصالحهم؛ لأنه أعرف بهم، وأرفق بهم، وفي الغالب أنهم ينقادون له، ويقبلون دعوته، وتوجيهاته، ولهذا قال عمر رضي الله عنه في هذا الحديث لمالك بن أوس: " يا مالك إنه قد قدم
(1) أخرجه الترمذي، في كتاب الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله عز وجل، وقال:" هذا حديث صحيح. . "، 4/ 560، برقم 2320، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب: مثل الدنيا، 4/ 1376، برقم 4110، وأخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق، عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، 1/ 428، برقم 470، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 943.
(2)
انظر: الحديث رقم 2، الدرس الأول، ورقم 15، الدرس الأول.
(3)
انظر: بهجة النفوس، لعبد الله بن أبي جمرة، 3/ 90.
(4)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6/ 204.
علينا من قومك أهل أبيات، وقد أمرت فيهم برضخ فاقبضه، فاقسمه بينهم "، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي حديث عمر أنه يجب أن يتولى أمر كل قبيلة كبيرهم؛ لأنه أعرف باستحقاق كل رجل منهم " (1).
فينبغي أن يولىّ على القبائل ساداتهم، الذين قد عرِفوا بالصلاح وسداد الرأي.
سادسا: أهمية الشفاعة الحسنة في الدعوة إلى الله عز وجل: دل هذا الحديث على أهمية الشفاعة الحسنة؛ لأن عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم قالوا لعمر رضي الله عنه:" يا أمير المؤمنين اقضِ بينهما وأرح أحدهما من الآخر "، فقضى عمر رضي الله عنه بين عباس وعلي رضي الله عنهما فحصل الصلح والخير، وهذا يبين أهمية الشفاعة الحسنة، وما يترتب عليها من المصالح (2).
فينبغي للداعية أن يشفع في كل ما فيه خير للإِسلام والمسلمين، حتى يحصل علي الثواب العظيم، قال الله عز وجل:{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85](3).
وقال صلى الله عليه وسلم: «اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء» (4).
سابعا: من أساليب الدعوة: الحوار: ظهر أسلوب الحوار في هذا الحديث؛ لأن عمر رضي الله عنه استخدمه في الإِصلاح بين العباس وعلي رضي الله عنهما، فأقبل على جميع الحاضرين، فسألهم بالله هل يعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا نورث ما تركنا صدقة» ؟ "، فقال الرهط: قد
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6/ 208، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12/ 318، وعمدة القاري للعيني، 15/ 25.
(2)
انظر: فتح الباري لابن حجر، 6/ 208، وعمدة القاري، 15/ 26، وعارضة الأحوذي بشرح سنن الترمذي، لابن العربي المالكي، 4/ 176.
(3)
سورة النساء، الآية:85.
(4)
متفق عليه من حديث أبي موسى رضي الله عنه: البخاري، كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها، 2/ 145، برقم 1432، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب الشفاعة فيما ليس بحرام، 4/ 2026، برقم 2627.
قال ذلك. ثم أقبل عمر على عباس وعليّ فقال لهما مثل ما قال للرهط فقالا: قد قال ذلك. ثم لم يزل يحاورهما حتى أصلح الله بينهما. وهذا يدل على أهمية الحوار في الدعوة إلى الله عز وجل (1).
ثامنا: من أساليب الدعوة: استشهاد من حضر لتقوى الحجة: ظهر هذا الأسلوب في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعثمان وأصحابه رضي الله عنهم: «أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا نورث ما تركنا صدقة» ؟ " فقالوا: قد قال ذلك. وكان العباس وعليّ يسمعان هذا الاستشهاد، ثم أقبل عمر رضي الله عنه على الخصمين بعد أن أقام الحجة باستشهاد من حضر ". وهذا أسلوب نافع عند الحاجة إليه؛ قال الإِمام النووي رحمه الله: " وفيه استشهاد الإِمام على ما يقوله -بحضرة الخصمين- العدول؛ لتقوى حجته في إقامة الحق وقمع الخصم، والله أعلم "(2).
تاسعا: أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة: دل هذا الحديث على أهمية الأدب مع العلماء والدعاة؛ ولهذا عندما دخل عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم على أمير المؤمنين رضي الله عنه، سلموا وجلسوا، ولم يتكلَّموا؛ لأنهم رأوا أن أمير المؤمنين رضي الله عنه غير مرتاح البال، وهذا من حسن الأدب مع العلماء والأئمة والدعاة؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" ويؤخذ منه. . أن الأتباع إذا رأوا من الكبير انقباضا لم يفاتحوه حتى يفاتحهم بالكلام "(3).
وقال الوزير العالم ابن هبيرة رحمه الله: " وفيه. . ما يدل على أنه لما دخل عثمان، وعبد الرحمن، والزبير، وسعد، فرأوا جِدَّ عمر لم يفاتحوه؛ وهكذا ينبغي لمن أراد أن يخاطب في أمر إذا رأى من مقدمات الحال ما يستدر به
(1) انظر: الحديث رقم 29، الدرس السادس.
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم، 12/ 318.
(3)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، بتصرف بسير جدّا، 6/ 208.
على أن ليس لخطابه وجه، أن يمسك " (1).
عاشرا: من صفات الداعية: عدم الحرص على الإمارة والعلوِّ في الأرض والجاه: لا شك أن في هذا الحديث الدلالة على أن من صفات الداعية المخلص: عدم حب العلوِّ في الأرض والجاه، وقد ظهر ذلك لمالك بن أوس عندما قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه:" يا مالك إنه قد قدم علينا من قومك أهل أبيات، وقد أمرت فيهم برضخ فاقبضه، فاقسمه بينهم، فقال مالك: يا أمير المؤمنين لو أمرت له غيري؛ فقال عمر رضي الله عنه: فاقبضه أيها المرء "، وهذا يدل على عدم رغبة مالك رضي الله عنه في العلوِّ والجاه، ويدل أيضا على حكمته ولطف كلامه مع إمام المسلمين؛ ولهذا قال:" يا أمير المؤمنين لو أمرت له غيري؟ " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه استعفاء المرء من الولاية، وسؤاله الإِمام ذلك بالرفق "(2).
فينبغي للداعية أن لا يرغب في الجاه ولا ينازع الأمر أهله، ولا يحب العلوَّ في الأرض؛ قال الله عز وجل:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83](3). وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن طلب الإِمارة، فعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعِنْتَ عليها» (4)؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّا والله لا نولِّي هذا العمل أحدا سأله، ولا أحدا حرص عليه» (5) وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: «قلت يا رسول الله، ألا تستعملني؛ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: " يا أبا ذر إنك ضعيف،
(1) الإِفصاح عن معاني الصحاح، 1/ 142.
(2)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6/ 208.
(3)
سورة القصص، الآية:83.
(4)
متفق عليه: البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، 7/ 275، برقم 6622، ومسلم، في كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإِمارة والحرص عليها، 3/ 1456، برقم 1652.
(5)
مسلم، كتاب الإِمارة، باب النهي عن طلب الإِمارة، 3/ 1456، برقم 1733.
وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدّى الذي عليه فيها» (1) ولكن لو صلحت النية وكان قصد الإِنسان نفع الإِسلام والمسلمين وعنده القدرة على ذلك، فلا حرج أن يقتدي بيوسف عليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل: إخبارا عن سؤاله ذلك: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55](2)؛ لأنه يريد الإِصلاح وهداية الناس وعنده القدرة على ذلك.
الحادي عشر: أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية: دل الحديث على أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية على ما يقول الداعية؛ لما في ذلك من وقع في نفس المدعو؛ ولأنه أقرب لقبول ما يقول الداعية؛ ولهذا استدل عمر رضي الله عنه على ما يقول بحديث وآية من كتاب الله عز وجل، فقال:«أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا نورث ما تركنا صدقة» ثم قرأ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر: 6](3) "، فبيَّن وجهة حكمه رضي الله عنه ودليله من الكتاب والسنة (4).
الثاني عشر: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: إن القدوة الحسنة من أهم وسائل الدعوة؛ ولهذا أرشد عمر رضي الله عنه العباس وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما إلى الاقتداء بمن قبلهما، فذكر عمل النبي صلى الله عليه وسلم في الفيء في حياته ثم قال:" أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك؟ " ثم قال عمر رضي الله عنه: " ثم توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله، فقبضها أبو بكر فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله يعلم إنه فيها لصادق، بارّ، راشد تابع للحق ". وهذا يدل على أهمية القدوة الحسنة في الدعوة إلى الله عز وجل (5).
(1) مسلم، كتاب الإمارة، باب كراهية الإِمارة بغير ضرورة، 3/ 1457، برقم 1825.
(2)
سورة يوسف، الآية:55.
(3)
سورة الحشر، الآية:6.
(4)
انظر: فتح الباري لابن حجر، 6/ 208.
(5)
انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث، ورقم 8، الدرس الخامس.
الثالث عشر: من أساليب الدعوة: ذكر الداعية بعض مناقبه عند الحاجة انتصارا للحق: ظهر من هذا الحديث أن ذكر الداعية بعض مناقبه، أو فضائله، أو ثنائه على عمله من أساليب الدعوة عند الحاجة لذلك وصلاح النية، إذا كان المدعو يستفيد من ذلك؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للعباس وعلي بن أبي طالب:" ثم توفى الله أبا بكر فكنت أنا وليَّ أبي بكر، فقبضتها سنتين من إمارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عمل فيها أبو بكر، والله يعلم إني فيها لصادق بارّ، راشد، تابع للحق "؛ قال العلامة العيني رحمه الله: " وفيه أنه لا بأس أن يمدح الرجل نفسه ويطريها إذا قال الحق "(1).
وهذا إذا كان في ذلك نفع للمدعو وإلا فيحذر الإِنسان من الإِعجاب بالنفس فإن ذلك من المهلكات، والله المستعان.
الرابع عشر: لا ينكر أن يغيب عن العالم أو الداعية بعض العلم: لا شك أن علم البشر محدود، وقد فضل الله بعضهم على بعض، فقد يغيب عن بعض العلماء بعض المسائل ويعرفها الآخرون، ولهذا حصل ما حصل من بعض الصحابة رضي الله عنهم في ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبا بكر وعمر وغيرهما كثير من الصحابة لم يغب عنهم ذلك وفقهوه حق الفقه والمعرفة؛ قال العلامة العيني رحمه الله:" وفيه أنه لا ينكر أن يخفى على الفقيه والعالم بعض الأمور مما علمه غيره "(2).
فينبغي للدعاة أن لا يتهموا أحدا من العلماء أو الدعاة إذا غابت عنهم بعض المسائل، وعليهم أن يسلكوا مسلك الصحابة رضي الله عنهم.
الخامس عشر: أهمية العمل بمقتضى الدليل الشرعي: دل عمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أنه إذا قام الدليل الشرعي لا يعدل إلى غيره بل يلزم العمل بمقتضاه؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه في مسألة تركة النبي صلى الله عليه وسلم:
(1) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 25/ 26.
(2)
المرجع السابق، 15/ 26.
" فتلتمسان مني قضاء غير ذلك؟ فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك "، والمعنى غير قضاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" وفيه أن الإِمام إذا قام عنده الدليل صار إليه وقضى بمقتضاه، ولم يحتج إلى أخذه من غيره "(1).
السادس عشر: من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى: ظهر في هذا الحديث أن من أصناف المدعوين أهل الصلاح والاستقامة على طاعة الله عز وجل؛ لأن العصمة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ ولهذا حصل ما حصل بين علي والعباس رضي الله عنهما عن حسن قصد ورغبة في القيام بأداء الأمانة، فحاورهما عمر وأصلح الله به ما بينهما (2) وهذا يدل على أن من أصناف المدعوين أهل الصلاح والاستقامة (3).
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6/ 208.
(2)
ذكر الإمام القرطبي رحمه الله أن منازعة علي والعباس رضي الله عنهما لم تكن في أصل الميراث، ولا طلبا أن يتملكا ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم وإنما قد كانا ترافعا إلى أبي بكر في ذلك فمنعهما أبو بكر مستدلّا بالحديث " لا نورث ما تركنا صدقة "، فلما سمعاه أذعنا، وسكنا، وسلَّما، إلى أن توفي أبو بكر وولي عمر، فجاءاه فسألاه أن يوليهما على النظر فيها، والعمل بأحكامها، وأخذها من وجوهها، وصرفها في مواضعها، فدفعها إليهما على ذلك، وعلى أن لا ينفرد أحدهما عن الآخر بعمل حتى يستشيره ويكون معه فيه، فعملا كذلك إلى أن شق عليهما العمل فيها مجتمعين، فجاءا إلى عمر رضي الله عنه مرة أخرى يطلبان منه أن يقسمها بينهما حتى يستقل كل واحد منهما بالنظر فيما يكون في يديه منها، فأبى عليهما عمر ذلك؛ لئلا يظن ظان أن ذلك قسمة ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، فمنع ذلك حسما للذريعة، ولما ولي عليّ رضي الله عنه الخلافة لم يغيرها عما عمِلَ فيها في عهد أبي بكر، وعمر، وعثمان، ولم يتعرض لتملكها ولا لقسمة شيء منها، بل كان يصرفها في الوجوه التي كان مَن قبله يصرفها فيها. انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3/ 563.
(3)
انظر: الحديث رقم: 76، الدرس الرابع.