الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
127 -
باب الرّدف على الحمَارِ
[حديث ركب النبي على حمار على إكاف عليه قطيفة وأردف أسامة وراءه]
108 -
[2987] حَدَّثَنَا قتَيْبَة: حَدَّثَنَا أَبو صفْوانَ، عَنْ يونسَ بْنِ يَزيدَ، عنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عرْوَةَ عَنْ أسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ (1) رضي الله عنهما:«أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ركِبَ علَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَيْهِ قَطِيفَة، وأَرْدَفَ أسَامَةَ وَرَاءَه» (2).
وفي رواية: «أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ قَطِيفَة فَدَكِيَّة، وأسَامَة ورَاءَه يَعود سَعْدَ بْنَ عبَادَةَ فِي بَنِي حَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَة بَدْرٍ، فَسَارَا حَتَّى مرَّا بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْد اللهِ بْن أبَيٍّ ابْن سَلولَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يسْلِمَ عَبْد الله بْن أبَيٍّ فَإِذَا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلَاط مِنَ الْمسْلِمِينَ، وَالْمشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَالْيهودِ، وَفِي المسلمينَ عَبْد الله بْن رَوَاحَة (3) فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَة الدَّابَّة،
(1) أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل، الصحابي الجليل، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن مولاه، وحبه وابن حبه، الأمير العظيم، رضي الله عنه، ولد في الإسلام ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وله ثماني عشرة سنة، وقيل عشرون سنة، أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش عظيم؛ لغزو الروم، وفي الجيش عمر والكبار من الصحابة، فلم يسر حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبادر الصديق، نفاذ جيش أسامة رضي الله عنه، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة وثمانية وعشرون حديثا، اتفق البخاري ومسلم على خمسة منها، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بحديثين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويحب أباه، فهما من أحب الناس إليه، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجله ويكرمه، ويفضله في العطاء على ولده عبد الله، وكان إذا لقيه بقول:" السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت عليَّ أمير " واعتزل أسامة الفتن والحروب التي وقعت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وسكن أسامة المزة، ثم رجع وسكن وادي القرى، ثم نزل إلى المدينة فمات بها سنة أربع وخمسين على الصحيح. رضي الله عنه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1/ 113، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 2/ 496 - 507، والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1/ 31.
(2)
[الحديث 2987] أطراف في: كتاب تفسير القرآن، 3 - سورة آل عمران، باب " وَلَتَسْمَعنَّ مِنَ الَّذِينَ أوتوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكوا أَذى كَثِيرا "، 5/ 204، برقم 4566. وكتاب المرضى، باب عيادة المريض راكبا وماشيا وردفا على الحمار، 7/ 9، برقم 5663. وكتاب اللباس، باب الارتداف على الدابة، 7/ 88، برقم 5964. وكتاب الأدب، باب كنية المشرك، 7/ 155، برقم 6207. وكتاب الاستئذان، باب التسليم في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين، 7/ 171، برقم 6254. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسبر، باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على أذى المنافقين، 3/ 1422، برقم 1798.
(3)
عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس، الأنصاري الخزرجي، الأمير الشاعر المشهور، شهد العقبة فهو من السابقين الأولين من الأنصار، وكان نقيبا ليلة العقبة على بني الحارث بن الخزرج، وشهد بدرا وجيمع المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الفتح وما بعدها؛ فإنه توفي يوم مؤتة وهو أحد الأمراء في غزوة مؤتة، وكان أول خارج إلى الغزوات وآخر قادم، وكان أحد الشعراء المحسنين الذين يردون الأذى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الإسلام والمسلمين، ومن شعره رضي الله عنه ما ثبت عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء، وعبد الله بن رواحة بين يديه يمشي وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله
…
اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا بزيل الهام عن مقيله
…
ويذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:" خل عنه يا عمر، فَلَهيَ أسرع فيهم من نضح النبل " [أخرجه الترمذي برقم 2847 وقال: حديث حسن صحيح. وصححه الألبانَي في صحيح سنن الترمذي 2/ 374، وفي مختصر الشمائل المحمدية برقم 210، وانظر: سيرة بن هشام 3/ 427.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان، واستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: " إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة، وكانوا ثلاثة آلاف، وساروا في طريقهم، وقابلوا الروم وهم مائتا ألف؛ مائة ألف من الروم، ومائة ألف من المستعربة، فقاتلوهم، فقتل زيد وحمل اللواء جعفر بن أبي طالب، ثم قتل، فحمل اللواء عبد الله بن رواحة وقال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
…
لتنزلن أو لتكرَهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه
…
مالي أراكِ تكرهين الجنة
قد طالما قد كنت مطمئنة
…
هل أنت إلا نطفة في شنه
وقال أيضا:
يا نفس إلا تقتلي تموتي
…
هذا حِمَام الموت قد صليتِ
وما تمنيتِ فقد أعطيت
…
إن تفعلي فعلهما هديتِ
[سيرة ابن هشام 3/ 434، ثم قاتل حتى قتل شهيدا رضي الله عنه بعد أن حرض الناس على القتال ورغبهم في الشهادة رضي الله عنه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1/ 265، وسير أعلام النبلاء للذهبي 1/ 230 - 240، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2/ 306.
خَمَّرَ ابْن أبَي أَنفَه بِرِدَائِهِ وَقَالَ: لَا تغَبِّروا عَلَيْنَا، فَسَلَّمَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِم ثمَّ وَقَفَ، فنَزَلَ فَدَعَاهمْ إِلَى اللهِ وَقَرَأَ عَلَيْهم الْقرْآنَ فَقَالَ لَه عَبْد اللهِ بْن أبَي ابْن سَلولَ (1) أَيّهَا الْمَرْء لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقول إِنْ كَانَ حَقّا فَلَا تؤذِنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصصْ عَلَيهِ، قَالَ عَبْد الله بْن رَوَاحَةَ: بَلَى يَا رَسولَ الله فاغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا، فَإنَا نحِبّ ذَلِكَ فَاسْتَبَّ الْمسْلِمونَ وَالْمشْرِكونَ وَالْيَهود، حَتَّى كَادوا يَتَثاوَرونَ، فَلَمْ يَزَلْ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يخَفِّضهمْ حَتَّى سَكَتوا، ثمَّ رَكِبَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم دابَّتَه فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عبَادَةَ (2) فَقَال رَسول الله صلى الله عليه وسلم:" أَيْ سَعْد أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبو حبَابٍ "؟ يريد عَبْدَ اللهِ بْنَ أبَيٍّ قَالَ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ سَعْد
(1) عبد الله بن أبي ابن سلوَل، وسلول أمه، كان رأس المنافقبن، ونزل في ذمه آيات كثيرة، وتوفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى عليه إكراما لابنه عبد الله الصحابي الجليل الصالح، وكفنه في قميصه إكراما لهذا الصحابي المسدد، ثم نهى الله عن الصلاة على المنافقين وعدم القيام على قبورهم أبدا. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1/ 260.
(2)
تقدمت ترجمته في الحديث رقم 8.
ابْن عبَادَةَ: أَيْ رَسولَ الله بِأَبِي أنتَ اعْف عَنْه وَاصْفَحْ، فَوَالَّذِي أنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَقَدْ جَاءَ الله بِالْحَقِّ الَّذِي أنزِلَ عَلَيكَ، وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْل هَذِهِ الْبَحْرَةِ عَلَى أَنْ يتَوِّجوه وَيعصبوه بِالْعِصَابَة، فَلَمَّا رَدَّ الله ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ شرِق بذَلِكَ فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ فَعَفَا عَنْه رَسول الله صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابه يَعْفونَ عَنِ الْمشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا أَمَرَهم الله وَيَصْبِرونَ علَى الأذى قَالَ الله تَعَالَى:{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران: 186](1) الآية، وَقَالَ:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109](2) فَكَانَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَأَوَّل فِي الْعَفْوِ عَنْهمْ مَا أَمَرَه الله بِهِ حَتَّى أَذِنَ لَه فِيهِمْ، فَلَمَّا غَزَا رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم بَدْرا فَقَتَلَ الله بِهَا مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ الْكفَّارِ وَسَادَةِ قرَيْشٍ، فَقَفَلَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه مَنْصورِينَ غَانِمينَ مَعَهمْ أسَارى مِنْ صَنَادِيدِ الْكفَّارِ وَسَادَةِ قرَيْشٍ قَالَ ابْن أبَيٍّ ابْن سَلولَ وَمَنْ مَعَه مِنَ الْمشْرِكِينَ عَبَدَة الأَوْثَانِ: هَذَا أَمْر قَدْ تَوَجَّه، فَبَايَعوا رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الإِسْلَامِ فَأَسْلَموا» (3).
* شرح غريب الحديث: * " إكاف " الإكاف للحمار كالقتب للجمل، والرحل للناقة، والسرج للفرس، وجمع الإِكاف: أكف، وأكفت الحمار: أي وضعت عليه إكافه (5).
* " قطيفة " القطيفة: كساء له خمل (6).
(1) سورة آل عمران، الآية 186.
(2)
سورة البقرة، الآية 109.
(3)
طرف الحديث رقم 6207.
(4)
من الطرف رقم 5663.
(5)
تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 383.
(6)
النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع الطاء، مادة:" قطف " 9414، وانظر: شرع غريب الحديث رقم 68، ص 408.
* " عجاجة الدابة " العجاج: الغبار (1).
* " خَمَّر أنفه بردائه " أي غطَّى، والتخمير التغطية (2).
* " فاغشنا في مجالسنا " يقال: غشيه يغشاه غِشيانا: إذا جاءه (3).
* " يتثاورون " يثور بعضهم على بعضٍ بقتال أو مشاجرة، ويقال: ثار يثور ثورا: أي قام بسرعة وانزعاج. (4).
* " يخفِّضهم " يسَكِّنهمْ (5).
* " البحرة " البلدة، وتصغيرها بحيرة، ويقال: هذه بحيرتنا: أي بلدتنا (6).
* " يعصبوه بالعصابة " العصابة ما يعصب بها الرأس: أي يشد بها لرئاسة أو مرض (7).
* " شرِق بذلك " يقال: شَرق بالماء يشرق، شَرَقا: إذا غص به، شبه ما أصابه من فوات الرِّيَاسة بالغصص (8).
* " صناديد قريش " الصناديد الأشراف وأكابر الناس (9).
* " قفل " رجع والقفول: الرجوع من السفر (10).
* " هذا أمر قد توجه " أي قد استمر فلا طمع في إزالته وتغييره (11).
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها.
1 -
من موضوعات الدعوة: الحض على مكارم الأخلاق.
(1) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 383.
(2)
المرجع السابق ص 383.
(3)
النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الغين مع الشين. مادة:" غشا " 3/ 369.
(4)
تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 383.
(5)
المرجع السابق ص 383.
(6)
المرجع السابق ص 383.
(7)
المرجع السابق ص 383.
(8)
المرجع السابق ص 383.
(9)
المرجع السابق ص 383.
(10)
المرجع السابق ص 383، وانظر: شرح غريب الحديث رقم 80، ص 483.
(11)
تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 383.
2 -
من صفات الداعية: التواضع.
3 -
من وسائل الدعوة: الزيارة والعيادة.
4 -
من آداب الداعية: إفشاء السلام.
5 -
من صفات الداعية: الحلم.
6 -
أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة.
7 -
من أعظم أساليب الدعوة: التذكير بالقرآن والسنة في المجامع المشتركة وغيرها.
8 -
من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والأذى.
9 -
من وظائف الداعية: إطفاء نار الفتن.
10 -
من أصناف المدعوين: المشركون.
11 -
من أصناف المدعوين: اليهود.
12 -
من أصناف المدعوين: المسلمون.
13 -
من صفات الداعية: العناية الدائمة بالدعوة إلى الله عز وجل.
14 -
أهمية استشارة الداعية لأصحابه.
15 -
من وظائف المدعو: الدفاع عن العلماء والدعاة المخلصين.
16 -
من صفات الداعية: العفو والصفح.
17 -
من أساليب الدعوة: التأليف بالنداء بالكنى.
18 -
من أسباب إعراض المدعوين: الحسد وحب الرياسة والجاه.
19 -
من وسائل الدعوة: استخدام القوة عند الحاجة.
20 -
من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
21 -
إخفاء المنافقين نفاقهم دليل على قوة المسلمين.
22 -
من أساليب الدعوة: التشبيه.
23 -
من ميادين الدعوة المجالس العامة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحض على مكارم الأخلاق: دل هذا الحديث على أن مكارم الأخلاق من موضوعات الدعوة؛ لأن
النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس بفعله في هذا الحديث إلى التواضع، والحلم، والصبر، وتحمل الأذى، وإفشاء السلام، وإطفاء الفتن، والعفو والصفح، والحرص على الدعوة إلى الله عز وجل (1) وهذا يؤكد على الدعاة إلى الله رحمه الله العناية بتعليم الناس وحضهم على مكارم الأخلاق؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (2) وقد دعا الناس إلى هذه المكارم بقوله وفعله صلى الله عليه وسلم (3).
ثانيا: من صفات الداعية: التواضع: دل هذا الحديث على صفة التواضع من عدة وجوه: ركوب النبي صلى الله عليه وسلم الحمار، وركوبه على قطيفة، وإردافه الغلام، وزيارته صلى الله عليه وسلم لسعد بن عبادة؛ فإن زيارة الكبير للصغير من التواضع (4).
فينبغي للداعية أن يكون متواضعا اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم (5).
ثالثا: من وسائل الدعوة: الزيارة والعيادة: إن من وسائل الدعوة المؤثرة في حياة المدعو: الزيارة وعيادة المرضى، وقد دلَّ فعل النبي صلى الله عليه وسلم بزيارته لسعد بن عبادة في هذا الحديث على ذلك؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" فيه عيادة الكبير بعض أتباعه في داره "(6).
فينبغي للداعية أن يعتني بهذه الوسيلة عناية خاصة؛ ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل الزيارة في الله عز وجل وعيادة المرضى، فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «جاء أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: يعود الحسن بن علي رضي الله عنهما، فقال له عليّ رضي الله عنه: أجئت عائدا أم شامتا؟ فقال: بل جئت عائدا، فقال علي: إن جئت عائدا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أتى أخاه المسلم عائدا مشى في خرافة
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12/ 401.
(2)
البيهقي، 10/ 192، وأحمد، 2/ 381، والحاكم، 2/ 613، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 14، الدرس الأول، ص 139.
(3)
انظر: الحديث رقم 14، الدرس الأول، ورقم 35، الدرس التاسع.
(4)
انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12/ 405، وعمدة القاري للعيني، 14/ 240، 18/ 55.
(5)
انظر: الحديث رقم 33، الدرس الحادي عشر، ورقم 62، الدرس الثالث.
(6)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8/ 231.
الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة، فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح» (1) وعن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عاد مريضا لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع» «وفي رواية؛ قيل: يا رسول الله، وما خرفة الجنة؟ قال: جناها» (2).
والزيارة في الله عز وجل ولو لم يكن المسلم مريضا- من وسائل الدعوة ومن أعظم القربات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى فأرصد الله. (3) له على مدرجته ملكا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية، قال؛ هل لك عليه من نِعْمَة تَربهّا (4)؟ قال: لا غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك، بأن الله قد أحبَّك كما أحببته فيه» (5) وعنه صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي (6) اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» (7).
فينبغي للداعية أن يعتني بزيارة المدعوين وخاصة الأحبة في الله عز وجل، ويعتني بزيارة المرضى؛ فإن لذلك الأثر العظيم في نفوسهم، والثواب الجزيل عند الله عز وجل؛ ولهذا وجبت محبة الله عز وجل للمتحابين فيه، والمتزاورين فيه، والمتباذلين فيه، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في،
(1) أبو داود، بنحوه، كتاب الجنائز، باب فضل العيادة، 3/ 185، برقم 3089، 3099، وابن ماجه بلفظه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في ثواب من عاد مريضا، 1/ 463، برقم 1442، والحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي 1/ 349، والبيهقي في السنن الكبرى، 3/ 380، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/ 353، وصحيح الجامع الصغير، 5/ 180.
(2)
صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، والآداب، باب فضل عيادة المريض، 4/ 1989، برقم 2568.
(3)
. فأرصد: أي أقعده يرقبه، والمدرجة: الطريق، سميت بذلك؛ لأن الناس يدرجون عليها: أي يمضون. شرح النووي 16/ 360.
(4)
تربها: أي تقوم بإصلاحها، وتنهض إليه بسبب ذلك، المرجع السابق 16/ 360.
(5)
مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل الحب في الله، 4/ 1988، برقم 2567.
(6)
المتحابون بجلالي: أي بعظمتي وطاعتي لا للدنيا. شرح النووي على صحيح مسلم 15/ 359.
(7)
مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل الحب في الله، 4/ 988، برقم 2566.
والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ» (1) وعن معاذ رضي الله عنه أيضا، قال؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«قال الله عز وجل؛ المتحابّون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء» (2).
رابعا: من آداب الداعية: إفشاء السلام: إن من الآداب الإِسلامية إفشاء السلام على كل مسلم، ولو كان معه غيره؛ ولهذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين، والمشركين، واليهود كما في حديث أسامة هذا؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" يؤخذ منه جواز السلام على المسلمين إذا كان معهم كفار، وينوي حينئذٍ بالسلام المسلمين "(3) وقال الإِمام النووي رحمه الله: " وفيه جواز الابتداء بالسلام على قوم فيهم مسلمون وكفار وهذا مجمع عليه "(4).
فينبغي للداعية أن يعتني بإفشاء السلام، ولهذا أجاب صلى الله عليه وسلم رجلا سأله:«أي الإِسلام خير؟ قال؛ " تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» (5) وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؛ أفشوا السلام بينكم» (6) وقال عمار بن ياسر رضي الله عنه: " ثلاث من جمعهن فقد جمع الإِيمان: الإِنصاف من نفسك، وبذل السلام لِلْعَالَم، والإِنفاق من الإِقتار "(7) وهذا كله يبين أهمية السلام
(1) أخرجه الإِمام مالك في الموطأ، كتاب الشعر، باب ما جاء في المتحابين في الله، 2/ 954، والحاكم وصححه علي شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، 4/ 169، وانظر: الاستذكار لابن عبد البر، 27/ 110، والتمهيد له، 2/ 124.
(2)
الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الحب في الله، 4/ 598، برقم 2390، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 284.
(3)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8/ 232.
(4)
شرح النووي على صحيح مسلم، 12/ 400، وانظر؛ عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي لابن العربي، 5/ 361، وعمدة القاري للعيني 18/ 156.
(5)
متفق عليه: البخاري برقم، 12، ومسلم برقم 39، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 19، الدرس الثالث، ص 168.
(6)
مسلم، كتاب الإِيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وأن محبة المؤمنين من الإِيمان، وأن إفشاء السلام سبب لحصولها، 1/ 74، برقم 54 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(7)
البخاري، كتاب الإِيمان، باب السلام من الإِسلام، 1/ 15.
وأنه من أعظم الآداب التي ينبغي للداعية أن يتخلق بها (1).
خامسا: من صفات الداعية؛ الحلم: ظهر في هذا الحديث حلم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ضبط نفسه عن هيجان الغضب فلم يغضب عندما صدر الأذى من زعيم المنافقين بقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تغبروا علينا " وخمر أنفه بردائه، وأساء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:" أيها المرء لا أحسن مما تقول، إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا، فمن جاءك فاقصص عليه " وقابل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام القبيح بالحلم فلم يغضب، فدل ذلك على الحلم العظيم والخلق الكريم.
فينبغي لكل مسلم، وخاصة الداعية إلى الله، أن يقتدي بهذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم (2).
سادسا: أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة: لا ريب أن من أهم المهمات وأعظم القربات الخلق الحسن، والأدب الجميل وخاصة مع العلماء والدعاة، وقد ظهر في هذا الحديث سوء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المنافق عبد الله بن أبيّ قَلَّ حياؤه وساء أدبه فخمّر أنفه بردائه وقال: لا تغبروا علينا، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم عندما سمع قراءته للقرآن:" أيها المرء لا أحسن مما تقول، إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا فمن جاءك فاقصص عليه " وكان يجب عليه أن يستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يؤذيه، ولا يرد دعوته، ولا يناديه بنداء الاستخفاف كقوله:" أيها المرء " بل كان يلزمه: أن يسلم، ويخلص، ويقول: يا رسول الله، رضينا بالله ربا وبالإِسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا.
فينبغي لجميع المدعوين أن يلزموا الأدب مع العلماء والدعاة، ويقبلوا دعوتهم، والله المستعان. (3).
(1) انظر: الحديث رقم 89، الدرس الثالث.
(2)
انظر: الحديث رقم 35، الدرس الثاني، ورقم 89، الدرس الخامس.
(3)
انظر: الحديث رقم 14، الدرس الثالث، ورقم 21، الدرس الأول، ورقم 35، الدرس الأول.
سابعا: من أعظم أساليب الدعوة: التذكير بالقرآن والسنة في المجامع المشتركة وغيرها: دل هذا الحديث على أهمية أسلوب التذكير بالقرآن الكريم؛ ولهذا عندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى مجلس فيه أخلاط من المشركين واليهود والمسلمين، سلم ثم وقف ونزل ودعاهم إلى الله عز وجل وقرأ عليهم القرآن. وهذا يؤكد العناية بالقرآن الكريم، وتذكير الناس به وقراءته عليهم؛ لأنه أبلغ الكلام وأعظمه تأثيرا في القلوب؛ قال الله عز وجل:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21](1) وقال سبحانه وتعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45](2) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57](3) وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا - وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإسراء: 9 - 10](4).
وقال عز وجل: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88](5) وقال عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82](6).
وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44](7).
ومما يدل على تأثير القرآن العظيم في القلوب ما قاله جبير بن مطعم رضي الله عنه: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ - أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ - أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور: 35 - 37](8)
(1) سورة الحشر، الآية 21.
(2)
سورة ق، الآية 45.
(3)
سورة يونس، الآية 57.
(4)
سورة الإسراء، الآيتان 9 - 10.
(5)
سورة الإسراء، الآية 88.
(6)
سورة الإسراء، الآية 82.
(7)
سورة فصلت، الآية 44.
(8)
سورة الطور، الآيات35 - 37.
كاد قلبي أن يطير [وذلك أول ما وقر الإِيمان في قلبي]» (1) وهذا يدل على تأثير القرآن الكريم في القلوب، وكذلك ينبغي للداعية أن يذَكِّر بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها الوحي الثاني ولها تأثير في القلوب أيضا ومما يدل على تأثير كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في القلوب قصة ضماد رضي الله عنه عندما قدم مكة وكان يرقي من الجن فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون إن محمدا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يديَّ، فلقيه فقال:«يا محمد إني أرقي من هذه الريح (2) وإن الله يشفي على يديَّ من شاء، فهل لك (3)؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد " فقال: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات. فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بَلَغْنَ ناعوس البحر (4) فقال؛ هات يدك أبَايعْكَ على الإِسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وعلى قومك؟ " قال: وعلى قومي» (5). وهكذا ما جاء عن الطفيل بن عمرو رضي الله عنه أنه كان شاعرا وسيدا في قومه فقدم مكة فحذرته قريش من مقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن كلامه كالسحر فاحذره أن يدخل عليك وعلى قومك ما أدخل علينا؛ فإنه يفرق بين المرء وزوجه، وبين المرء وابنه، فما زالوا يحذرونه، حتى حلف أن لا يدخل المسجد إلا وقد سد أذنيه، فسد أذنيه بقطن، ثم دخل المسجد، فأعجبه فقال في نفسه: إني امرؤ ثبت ما تخفى عليَّ الأمور: حسنها
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب تفسير القرآن، سورة الطور، باب: حدثنا عبد الله بن يوسف، 6/ 68 برقم 4854، وما بين المعكوفين من الطرف رقم 4023 من كتاب المغازي 5/ 25، وأخرجه مسلم بنحوه في كتاب الصلاة باب القراءة في الصبح، 1/ 338، برقم 463.
(2)
المراد بالريح هنا: الجنون ومس الجن. شرح النووي على صحيح مسلم 6/ 406.
(3)
أي فهل لك رغبة في رقيتي وهل تميل إليها. انظر: المرجع السابق 6/ 406.
(4)
قيل: ناعوس البحر، وقيل: قاموس البحر، وهو وسطه، ولجته، أو قعره. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 6/ 407.
(5)
مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، 2/ 593، برقم 868.
وقبحها، والله لأسمعن منه فإن كان أمره رشدا أخذته منه وإلا اجتنبته، فنزع القطن فلم يسمع كلاما أحسن من كلامه، فلحقه إلى بيته ودخل معه وأخبره الخبر، وقال: اعرض عليَّ دينك؛ فعرض عليه الإِسلام فأسلم (1).
فينبغي للدعاة إلى الله عز وجل أن يعتنوا بتذكير الناس بالقرآن الكريم، وبسنة محمد صلى الله عليه وسلم. والله المستعان.
ثامنا: من صفات الداعية: الصبر على الأذى والابتلاء: دل هذا الحديث على أهمية الصبر على الأذى والابتلاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صبر الأذى والابتلاء كما في هذا الحديث حيث صدر الأذى من المنافق عبد الله بن أبيِّ بن سلول، بالتأفف وقوله:" لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به. . . " ومما يدل على ذلك ما جاء في هذا الحديث أيضا: " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى قال الله تعالى:{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186](2).
وقال عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109](3).
وهذا يبين للدعاة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر على الأذى والابتلاء (4) فينبغي الاقتداء به صلى الله عليه وسلم (5).
تاسعا: من وظائف الداعية: إطفاء نار الفتن: إن من الوظائف المهمة للداعية إطفاء نار الفتن وإخمادها، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأن المسلمين استبوا والمشركين واليهود حينما قال عبد الله بن رواحة
(1) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 1/ 345.
(2)
سورة آل عمران، الآية 186.
(3)
سورة البقرة، الآية 109.
(4)
انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 401، وإكمال إكمال المعلم للأبي، 6/ 444.
(5)
انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 66، الدرس الأول.
رضي الله عنه: " بلى يا رسول الله فاغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك " وعبد الله بن أبيٍّ يقول: " إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا " فاستمر السباب حتى كاد بعضهم يثور على بعض بالقتال والمشاجرة. فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسكنهم حتى سكتوا ثم ركب دابته بعد أن أطفأ الفتنة وسار، وهذا فيه حكمة أخرى، وهو أنه فارق ذلك المجلس؛ لئلا تعود المشاجرة والمسابة مرة أخرى.
فينبغي للداعية أن يكون مفتاحا للخير والصلح والسلامة، والله الموفق. (1).
عاشرا: من أصناف المدعوين: المشركون: دل هذا الحديث على أن من أصناف المدعوين المشركون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عم بالدعوة المشركين الذين في مجلس عبد الله بن أبيٍّ وقرأ على الجميع القرآن الكريم ودعاهم إلى الله عز وجل.
فينبغي للداعية أن يعتني بدعوة المشركين على حسب الطرق الحكيمة في دعوتهم إلى الله عز وجل (2).
الحادي عشر: من أصناف المدعوين: اليهود: ظهر في هذا الحديث أن اليهود من أصناف المدعوين؛ ولهذا عم النبي صلى الله عليه وسلم اليهود الذين في مجلس عبد الله بن أبي بدعوته وقرأ عليهم القرآن، وذكرهم. ولا شك أن اليهود قلوبهم قاسية كالحجارة أو أشد قسوة إلا من هدى الله منهم للإِسلام، ولكن ينبغي مع ذلك دعوتهم إلى الإِسلام وإقامة الحجة عليهم حسب الطرق الحكيمة في دعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى (3).
الثاني عشر: من أصناف المدعوين: المسلمون: دل هذا الحديث على أن المسلمين من أصناف المدعوين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شملهم بالدعوة والتذكير وقراءة القرآن في مجلس عبد الله بن أبيٍّ؛ ولكن
(1) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 8/ 232.
(2)
انظر: الحديث رقم 91، الدرس الثامن.
(3)
انظر: الحديث رقم 89، الدرس العاشر.
ينبغي للداعية أن يراعي أحوالهم والطرق الحكيمة في دعوة المسلمين؛ لأن المسلمين ينقسمون إلى قسمين: قسم ينقادون للحق ولا يعاندون فهؤلاء يكفي في دعوتهم أن يبين لهم الحق علما وعملا واعتقادا، وحينئذ ينقادون لذلك. وقسم من المسلمين عندهم: غفلة وشهوات، وأهواء، وهم عصاة المسلمين، فهؤلاء تكون دعوتهم عن طريق ثلاثة مسالك:
1 -
الموعظة الحسنة: وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، والقول الحق الذي يلين القلوب، ويؤثر في النفوس، ويكبح جماح النفوس المتمردة، ويزيد النفوس المهذبة إيمانا وهداية (1) قال الله عز وجل:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66](2).
والوعظ في الحقيقة ينبغي أن يكون على نوعين:
(أ) وعظ التعليم: ويكون ببيان عقائد التوحيد، وبيان الأحكام الشرعية الخمسة: من الواجب، والحرام، والمسنون، والمكروه، والمباح، مع مراعاة ما يناسب كل طبقة. وينبغي أن تساق هذه الأحكام مساق الوعظ، ولا تسرد سردا خاليا من وسائل وأساليب التأثير، وأسلوب القرآن على هذا، يبين الحكم مقرونا بالترغيب، أو الترهيب، أو الجمع بين الأمرين؛ ولهذا يأخذ بمجامع القلوب، وحينئذ تستقبل العقائد والأحكام برغبة واشتياق للعمل والتطبيق.
(ب) وعظ التأديب: ويكون بتحديد الأخلاق الحسنة: كالحلم والأناة، والصبر والكرم، والوفاء، والأمانة. . . وبيان آثارها ومنا فعها في المجتمع، والحث على التخلق بها والتزامها، وتحديد وتعريف الأخلاق السيئة: كالغضب، والعجلة، والغدر، والجزع، والجبن، والبخل، والتحذير من الاتصاف بها من طريقي: الترغيب والترهيب. ويكون ذلك مقرونا بالأدلة من الكتاب والسنة (3).
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 19/ 164، ومفتاح دار السعادة لابن القيم 1/ 474.
(2)
سورة النساء، الآية 66.
(3)
انظر: تفسير ابن كثير، 1/ 266، 462، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي، 1/ 278، 2/ 35، وهداية المرشدين لعلي بن محفوظ ص 143 - 145 وص 192 وص 241 - 244.
2 -
الترغيب والترهيب: ويكون بالترغيب في جنس الطاعات وأنواعها، والترهيب بذكر الوعيد بالعذاب والعقوبات على جنس المعاصي والذنوب، وعلى أنواع الذنوب وآحادها (1).
3 -
استخدام الأساليب التصويرية التي تدخل على القلوب مباشرة وتشد أذهان المستمعين: كالقصص من القرآن الكريم والسنة النبوية، وضرب الأمثال، ولفت الأنظار إلى الأوصاف الحميدة المعنوية، وبيان آثارها العملية التي تحصل بسبب تطبيقها والعمل بها، ومن ذلك ذكر أوصاف المؤمنين، ومن الأساليب التصويرية: لفت الأنظار إلى الآثار المحسوسة، كلفت أنظار المدعوين إلى آثار الأمم الماضية، والأفراد والجماعات الظالمة، والقرى والأمصار المكذبة، وقد تكون الآثار في الأزمان القريبة أو الأماكن والأزمان المعاصرة؛ فإن في النظر فيما حل بهم من الهلاك والدمار والزلازل، والمحن، والأمراض أعظم العبر لمن اعتبر وتفكر، ونظر واتعظ، والنظر في مساكنهم وديارهم، وكيف أبادهم وأذلهم، وأهلكهم الملك الجبار، وجعل أخبارهم عبرة لأولي الأبصار (2).
ولا شك أن الله عز وجل قد بين مراتب الدعوة وكانت بحسب مراتب البشر فقال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125](3).
قال الإِمام ابن القيم رحمه الله: " جعل الله سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يدعى بطريق الحكمة، والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة، وهي الأمر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة، والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن، وهذا هو الصحيح في معنى هذه الآية "(4).
(1) انظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم، 1/ 474، وهداية المرشدين لعلي محفوظ ص 192 - 219.
(2)
انظر: تفسبر ابن كثير، 2/ 125، 3/ 563، 428، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي، 2/ 377، 6/ 114، 135، 330، 519، 554، 7/ 68، وهداية المرشدين لعلي بن محفوظ، ص 219 - 240.
(3)
سورة النحل، الآية 125.
(4)
مفتاح دار السعادة، 1/ 474.
فإن ظلم المعاند ولم يرجعِ إلى الحق انتقِل معه إلى مرتبة استخدامِ القوة (1) قال الله عز وجل: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46](2).
واستخدام القوة بالكلام والتأديب لمن له سلطة وقوة مشروعة، وبالجهاد في سبيل الله تحت لواء ولي أمر المسلمين بالشروط التي دل عليها الكتاب والسنة، وهذا ما يقتضيه مفهوم الحكمة الصحيح؛ لأنها وضع الشيء في موضعه بإحكام، وإتقان، وإصابة (3).
الثالث عشر: من صفات الداعية: العناية الدائمة بالدعوة إلى الله عز وجل: إن من الصفات الحميدة والأعمال الجليلة: العناية الفائقة الدائمة بالدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا كان أعظم الناس فيها حظا ونصيبا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم سار في طريقه إلى جموع مختلطة من المشركين عبدة الأوثان، واليهود، والمسلمين، فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن، ثم عمل عملا دعويا آخر وهو الإِصلاح بين هؤلاء حينما كادت الجموع أن يثور بعضها على بعض فسكنهم حتى أطفأ الفتنة صلى الله عليه وسلم، ثم قام وسار في عملٍ دعوي آخر وهو زيارته لسعد بن عبادة رضي الله عنه، وهذا يدل على أن عمله كله دائم في الدعوة والعبادة؛ قال صلى الله عليه وسلم:«أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل» (4) قال النووي رحمه الله: " وفي هذا الحديث بيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من: الحلم، والصفح، والصبر على الأذى في الله تعالى، ودوام الدعاء إلى الله تعالى، وتألف القلوب والله أعلم "(5).
(1) انظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم، 1/ 517.
(2)
سورة العنكبوت، الآية 46.
(3)
انظر: فتاوى ابن تبمية، 2/ 44، 45، 15/ 243، 19/ 164، والتفسير القيم لابن القيم، ص 344، ومفتاح دار السعادة، لابن القيم 1/ 474، 517، وتفسير ابن كثير 3/ 416 و 4/ 315، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، لمحمد الأمين بن المختار الشنقيطي، 2/ 174 - 175، وفتاوى محمد بن إبراهيم آل الشيخ، 1/ 90.
(4)
متفق عليه: البخاري، برقم 1970، ومسلم برقم 782، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 18، الدرس السادس، ص 163.
(5)
شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 401.
فينبغي للداعية أن تكون دعوته دائمة على حسب الأحوال، وحاجة الناس إلى الدعوة، ولكن ينبغي اختيار الأوقات والموضوعات المناسبة، لكل فئة.
الرابع عشر: أهمية استشارة الداعية لأصحابه: دل هذا الحديث على أن الداعية ربما يستشير أصحابه وأتباعه وهذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه فقال: «أي سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب» ؟ " فأشار عليه رضي الله عنه بقوله: " أي رسول الله بأبي أنت اعف عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البحرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت " فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا يبين أهمية الشورى ومشاورة الداعية أصحابه، وما فيها من الفوائد (1).
الخامس عشر: من وظائف المدعو: الدفاع عن العلماء والدعاة المخلصين: يظهر في هذا الحديث أن من وظائف المدعو المخلص الصالح الدفاع عن العلماء والدعاة المخلصين؛ ولهذا دافع عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في مجلس عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول فقال عندما حصل النقاش: " بلى يا رسول الله فاغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك " وهذا رد على قول عبد الله بن أبي حيث قال: " فلا تؤذنا في مجالسنا ".
فينبغي الدفاع عن علماء الإِسلام بالحق في حياتهم وبعد مماتهم، والله المستعان (2).
السادس عشر: من صفات الداعية: العفو والصفح: ظهر عفو النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن عبد الله بن أبي، حيث لما يعاقبه صلى الله عليه وسلم، ولم يقاتله، ولم يأمر أصحابه باغتياله؛ وإنما عفا عنه وصفح؛
(1) انظر: الحديث رقم 64، الدرس الثالث.
(2)
انظر: الحديث رقم 4، الدرس الثالث، ورقم 63، الدرس الأول.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " عفوه صلى الله عليه وسلم عن كثير من المشركين واليهود، بالمنِّ والفداء، وصفحه عن المنافقين مشهور في الأحاديث والسير "(1).
فينبغي للداعية أن يعفو ويصفح اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. (2).
السابع عشر: من أساليب الدعوة: التأليف بالنداء بالكنى: إن التأليف بالنداء بالكنى من أساليب الدعوة النافعة؛ ولهذا والله أعلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد:«ألم تسمع ما قال أبو الحباب» ؟ " يعني عبد الله بن أبيٍّ! قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " كناه النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة؛ لكونه كان مشهورا بها أو لمصلحة التأليف " (3) ونقل رحمه الله عن ابن بطال أنه قال: " فيه جواز تكنية المشركين على وجه التأليف، إما رجاء إسلامهم، أو لتحصيل منفعة منهم " (4) ثم رجح ابن حجر رحمه الله جواز تكنية الكافر للتأليف أو خشية الفتنة (5) والله المستعان (6).
الثامن عشر: من أسباب إعراض المدعوين: الحسد، وحب الرئاسة والجاه: لا شك أن من أسباب إعراض المدعوين عن قبول الدعوة والانقياد لدين الله عز وجل: الحسد، والحقد، وحب الرئاسة والجاه، ولهذا قال سعد بن عبادة رضي الله عنه للنبي في شأن عبد الله بن أبيٍّ:" ولقد اصطلح أهل هذه البحرة على أن يتوِّجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شِرق بذلك، فلذلك فعل به ما رأيت " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله على قوله: " شرق بذلك " أي غصَّ به، وهو كناية عن الحسد، يقال:" غص بالطعام، وشَجيَ بالعظم، وشرق بالماء إذا اعترض شيء من ذلك في الحلق فمنعه الإساغةَ "(7) وعلاج
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8/ 233، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 2/ 101.
(2)
انظر: الحديث رقم 80، الدرس الثالث، ورقم 105، الدرس الرابع.
(3)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8/ 232.
(4)
نقلا عن فتح الباري 8/ 232؛ لعدم وقوفي على شرح ابن بطال.
(5)
انظر: فتح الباري بشرح صحح البخاري، 10/ 593.
(6)
انظر: الحديث رقم 7، الدرس الحادي عشر.
(7)
فتح الباري، بشرح صحيح البخاري 8/ 232، وانظر. أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري للخطابي 3/ 1830.
هذا الإِعراض بالدعوة الصادقة، فإن لم تجْدِ فالجهاد في سبيل الله عز وجل.
التاسع عشر: من وسائل الدعوة: استخدام القوة عند الحاجة: دل هذا الحديث على أن من وسائل الدعوة النافعة استخدام القوة عند الحاجة إذا لم ينفع الرفق واللين؛ وقد جاء في هذا الحديث: «فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأوَّل في العفوِ ما أمره الله به حتى أذن له فيهم، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا فقتل الله بها من قتل من صناديد الكفار وسادة قريش قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منصورين غانمين معهم أسارى من صناديد الكفار وسادة قريش» ، وهذا فيه دلالة على أن القوة عند الحاجة إليها من أعظم وسائل الدعوة إلى الله عز وجل، فإذا لم يؤثر الرفق واللين، والعفو والصفح، في أصناف المدعوين: من الملحدين، والمشركين، وأهل الكتاب، ولم يستفيدوا من الأدلة والبراهين العقلية والنقلية، والمعجزات الحسية، ولم ينقادوا للجدال بالتي هي أحسن، وأعرضوا وكذبوا، فحينئذٍ يكون آخر الطب الكي: وهو استخدام القوة تحت لواءِ ولي أمر المسلمين؛ فإن لذلك الأثر العظيم في نشر الدعوة، وقمع الباطل وأهله، ونصر الحق وأهله؛ قال الله عز وجل:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25](1) ولقد أحسن القائل:
وما هوَ إلّا الوحْي أوحَدّ مرْهَفٍ (2)
…
تميل ظبَاه (3) أخَدعَي كلِّ مائِلِ
فَهَذا دَوَاء الدَّاءِ مِنْ كلِّ عَالمٍ
…
وَهذا دَواء الدَّاءِ من كلِّ جاهل
هَوَ الحَقّ إنْ تَسْتَيقظوا فيه تَغْنَموا
…
وإِنْ تَغْفلوا فالسَّيف لَيْسَ بِغَافِلِ (4)
(1) سورة الحديد، الآية 25.
(2)
المرهف السيف المحدد المسنون، يقال؛ رهف سيفه: رققه وحدده. انظر: المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية، مادة:" رهف " 1/ 377.
(3)
الظبة: حد السيف والسنان والخنجر، وما أشبهها، والجمع ظبا وظبات. انظر: المرجع السابق، مادة:" الظبة " 2/ 575.
(4)
ديوان أبي تمام، بشرح الخطيب التبريزي، 3/ 86 - 87.
وقال آخر: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قَالوا غَزَوْتَ وَرسل اللهِ مَا بعثوا
…
لِقتلِ نَفْسٍ ولا جاءوا لسَفْكِ دَم
جَهْل وتَضليل أَحْلامٍ وسَفْسطةَ (1)
…
فَتَحتَ بِالسَّيْفِ بعد الفتح بالقلمَ
لمَا أتى لك عفوا كلّ ذي حَسَبِ
…
تكفَّلَ السيف بِالجهالِ والَعَمَمِ (2)
وما أحكم ما قال الآخر:
دعا المصطفى دهرا بمكة لم يجب
…
وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف صلت بكفه
…
له أسلموا واستسلموا وأنابوا (3)
فالعاقل ذو الفطرة السليمة ينتفع بالبينة والبرهان، ويقبل الحق بدليله، أما الظالم المتبع لهواه فلا يرده إلا السيف، وأنواع القوة والسلاح (4).
العشرون: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: ظهر في هذا الحديث أن القدوة الحسنة من وسائل الدعوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مع عظم مكانته عند الله عز وجل لم يكن يرفع نفسه عن الإِرداف على الدابة؛ قال العلامة العيني رحمه الله: " وكان يردف لتتأسَّى به في ذلك أمته فلا يأنفوا مما لم يكن يأنف منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يستنكف منه مما لم يستنكف "(5).
فينبغي الاقتداء به صلى الله عليه وسلم (6).
الحادي والعشرون: إخفاء المنافقين نفاقهم دليل علي قوة المسلمين: دل هذا الحديث على أن المنافقين يختفون بشرهم عند ظهور قوة المسلمين،
(1) يقال: سفسط: غالط وأنى بحكمة مضللة " من اليونانية " انظر: المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية مادة: " سفسط " 1/ 433.
(2)
العمم: اسم جمع للعامة من الناس بخلاف الخاصة، انظر: المرجع السابق، مادة. " عم " 2/ 629، والبيت من شعر أحمد شوقي: الشوقيات 1/ 201.
(3)
انظر: فتاوى سماحة العلامة عبد العزبز بن عبد الله ابن باز 3/ 184 و204، وقال، هذا الشعر يروى لحسان بن ثابت رضي الله عنه.
(4)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 28/ 37 و 264، وتفسير ابن كثير 3/ 416، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي، 7/ 301.
(5)
عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 14/ 240.
(6)
انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث، ورقم 8، الدرس الخامس.
ويظهرون نفاقهم وشرهم وأذاهم للإِسلام والمسلمين عند ضعف المسلمين؛ ولهذا جاء في هذا الحديث: «فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منصورين غانمين معهم أسارى من صناديد الكفار وسادة قريش قال ابن أبيِّ بن سلول ومن معه من المشركين عبدة الأوثان " هذا أمر قد توجه، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإِسلام فأسلموا» وهذا؛ لخوفهم وجزعهم، وإلا فابن أبيٍّ لا زال على عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى مات منافقا. أسأل الله العافية لي ولجميع المسلمين.
الثاني والعشرون: من أساليب الدعوة: التشبيه: ظهر في هذا الحديث أسلوب التشبيه؛ لأن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال في شأن عبد الله بن أبيِّ ابن سلول " شرق بذلك " قال الحميدي رحمه الله: " شرق بذلك، يقال شرق بالماء يشرق شرقا، إذا غص، شبه ما أصابه من فوات الرئاسة بالغصص "(1) والله المستعان (2).
الثالث والعشرون: من ميادين الدعوة: المجالس العامة: لا شك أن من الميادين المهمة للدعوة إلى الله عز وجل المجالس العامة التي يجتمع الناس فيها؛ ولهذا عندما مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بمجلس عبد الله بن أبيِّ بن سلول ورأى فيه أخلاطا من المسلمين، والمشركين، واليهود، نزل صلى الله عليه وسلم ووقف فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن. وهذا يؤكد أهمية استخدام المجالس العامة ميدانا للدعوة إلى الله، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
(1) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 383.
(2)
انظر: الحديث رقم 18، الدرس الرابع ورقم 19، الدرس الخامس.