الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
24 -
باب الشجاعة في الحرب والجبن
[حديث لو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم]
35 -
[2821] حَدَّثَنَا أَبو الْيَمَانِ: أَخبرنَا شعَيْب، عَنِ الزّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عمَر بْن محَمَّدِ بْنِ جبَيْرِ بْنِ مطْعِمٍ: أَنَّ محَمّدَ بْنَ جبَيْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي جبير بن مطعم (1) أَنَّه بَيْنَمَا هوَ يَسير مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَعَه النَّاس مَقْفَلَه مِنْ حنَيْنٍ، فَعَلِقَه النَّاس يَسْألونَه حَتَّى اضْطَرّوه إِلَى سَمرَةٍ فخَطِفتْ رِدَاءَه، فوَقف النبي صلى الله عليه وسلم فقَالَ:«أَعطوني رِدَائي، لَوْ كَانَ لي عَدَد هَذِهِ العِضَاهِ نَعَما لَقَسَمْته بينَكمْ، ثمَّ لَا تَجِدوني بَخِيلا، وَلا كَذوبا، وَلَا جَبَانا» (2).
وفي رواية: «. . . وَمَعَه النَّاس مقْبِلا مِنْ حنَيْنٍ عَلِقتْ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم الأَعْرَاب، يسألونه. . .» (3).
* شرح غريب الحديث: * " مَقْفَلة من حنين " القفول: الرجوع من السفر، وقيل القفول: رجوع الجند بعد الغزو، والمعنى: عند رجوعه من غزوة حنين سنة ثمان للهجرة، وحنين وادٍ بين مكة والطائف (4).
(1) جبير بن مطعِم بن عدي بن نوفل، شيخ قريش في زمانه أبو محمد، ويقال: أبو عدي القرشي النوفلي، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، من الطلقاء الذين حَسنَ إسلامهم، وقيل أسلم بين الحديبية والفتح، وكان موصوفا بالحلم ونبلِ الرأي كأبيه. وكان أبوه هو الذي قام في نقض صحيفة القطيعة ويحنو على أهل الشعب ويصلهم في السر؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر:" لو كان المطعم بن عدي حيّا وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له "[أخرجه البخاري برقم 3139]. وهو الذي أجار النبي صلى الله عليه وسلم حين رجع من الطائف حتى طاف بعمرة. وفد جبير على النبي صلى الله عليه وسلم في فداء أسارى بدر فسمعه يقرأ الطور قال: فكان ذلك أول ما دخل الإيمان في قلبي، وفي رواية: فلما بلغ هذه الآية: أَمْ خلِقوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هم الْخَالِقونَ أَمْ خَلَقوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يوقِنونَ أَمْ عِنْدَهمْ خَزَائِن رَبِّكَ أَمْ هم الْمسَيْطِرونَ، كاد قلبي أن يطير [البخاري برقم 4023 و 4854، ومسلم، برقم 463]، وذكر أنه قال صلى الله عليه وسلم له:" لو كان أبوك حيا لوهبتهم له " روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: ستين حديثا، اتفق البخاري ومسلم على ستة، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديث. توفي رضي الله عنه سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1/ 146، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 3/ 95 - 99، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1/ 225.
(2)
[الحديث 2821] طرفه في: كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، 4/ 71، برقم 3148.
(3)
من الطرف رقم 3148.
(4)
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع الفاء 4/ 92، مادة:" قفل " ولسان العرب لابن منظور، 11/ 560 فصل القاف باب اللام مادة:" قفل ".
* " علقت " وفي رواية: " فعلقه الناس ": نشبوا وتعلَّقوا به، وقيل: طفقوا (1).
* " اضطروه ": ألجؤوه، يقال: قد اضطر إلى الشيء: أي ألجئ إليه، والاضطرار إلى الشيء: الاحتياج إليه (2).
* " سمرة " السمرة: ضرب من الشجر صغار الورق قصار الشوك، وله بَرَمَة صفراء يأكلها الناس، وهي من شجر الطلح، وليس في العضاه شيء أجود خشبا من السمر (3).
* " العضاه " العضاه: كل شجر عظيم له شوك، وقيل: شجر الشوك: كالطلح، والعوسج، والسدر (4).
* " نعما ": إبلا. وقيل: الإبل، والبقر، والغنم (5).
والراجح والله أعلم أنه عام في الأنواع الثلاثة؛ لقوله عز وجل: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95](6) وقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون: 21](7).
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 -
أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة.
2 -
من صفات الداعية: الحلم.
3 -
من صفات الداعية: الكرم.
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب العين مع اللام، مادة:" علق "، 3/ 288، ولسان العرب لابن منظور، فصل العين باب القاف، مادة:" علق "، 10/ 261.
(2)
انظر: لسان العرب لابن منظور، فصل الضاد، باب الراء، 4/ 483، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الضاد مع الراء، 3/ 82.
(3)
النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع الميم، 2/ 399، ولسان العرب لابن منظور، فصل السين، باب الراء، 4/ 379.
(4)
لسان العرب لابن منظور، فصل العين، باب الهاء، مادة:" عضه "، 1/ 516، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب العين مع الضاد، مادة:" عضه " 3/ 255.
(5)
لسان العرب لابن منظور، فصل النون باب الميم، 12/ 585، وانظر: شرح صحيح البخاري للكرماني 12/ 120.
(6)
سورة المائدة، الآية:(95).
(7)
سورة المؤمنون، الآية:(21).
4 -
من صفات الداعية: الصدق.
5 -
من صفات الداعية: الشجاعة.
6 -
من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
7 -
تعريف الداعية نفسه عند الحاجة.
8 -
أهمية الوعد بالخير.
9 -
من موضوعات الدعوة: الحث على مكارم الأخلاق.
10 -
من أصناف المدعوين: الأعراب.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة: دل هذا الحديث على أن الأعراب لم يلتزموا الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي لهم ذلك، ودل الحديث بمفهومه على أنه ينبغي للمدعو أن يلتزم الأدب مع الدعاة والعلماء، ويستفيد مما يسمع منهم، وقد أمر الله المؤمنين أن يلتزموا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ - إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ - إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ - وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 1 - 5](1).
فالمدعو ينبغي له أن ينصت، ويصغي إلى ما يلقيه إليه الداعية أو العالم؛ لأن المدعو لا يستفيد من الداعية إلا إذا التزم الأدب، وصمت، واستمع، وعمل بما سمع، وبلَّغ ما سمع لغيره (2).
(1) سورة الحجرات، الآيات (1 - 5).
(2)
انظر: الآداب الشرعية للإمام محمد بن مفلح المقدسي " 1/ 144 - 146، وانظر: الحديث رقم 14، الدرس الثالث، ورقم 21، الدرس الأول.
ثانيا: من صفات الداعية: الحلم: ظهر في هذا الحديث: الحلم؛ فإن الأعراب سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى ألجؤوه إلى شجرة السمر فخطفت رداءه، ومع هذا الأذى لم يغضب صلى الله عليه وسلم ولم يتضجَّر بل حلم عليهم، وصبر على أذاهم وجفائهم، وكم حدث له صلى الله عليه وسلم من الصبر على جفاة الأعراب وقلة أدبهم؟ ولم يعاقبهم بقوله ولا فعله عليه الصلاة والسلام (1) وهذا يعطي الداعية قدوة في الحلم وتَحَمّل الأذى والسكون عند الغضب أو المكروه مع القدرة، والقوة، والصفح والعقل (2).
فينبغي للداعية أن يضبط نفسه عند هيجان الغضب، وهذا يحتاج إلى مجاهدة شديدة؛ لما في كظم الغيظ من كتمان ومقاومة واحتمال؛ وقد مدح الله -تعالى - الكاظمين الغيظ ووعدهم بالجنة {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 - 134] (3) ومما يزيد الداعية رغبة في الحلم وشوقا إلى الاتِّصاف به مدح النبي صلى الله عليه وسلم الحلم وتعظيم أمره، وأنه من الخصال التي يحبها الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم للأشج:«إنَّ فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة» (4)؛ ولهذا الفضل العظيم قال الأشجّ رضي الله عنه: " الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله "(5).
والحلم الممدوح الذي يحتاجه الداعية في دعوته هو حالة متوسطة بين رذيلتين: الغضب والبلادة، فإذا استجاب الداعية لغضبه بلا تعقل ولا تصبّر كان على رذيلة، وإن تبلَّد وضيَّع حقه ورضي بالهضم والظلم كان على رذيلة، وإن تحلَّى بالحلم وتخلَّق به مع القدرة، وكان حلمه مع من يستحقه كان على
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6/ 254، وإرشاد الساري للقسطلاني 5/ 54.
(2)
انظر: المعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية، مادة:" حلم " 1/ 194.
(3)
سورة آل عمران، الآيتان (133، 134).
(4)
مسلم، كتاب الإِيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله، 1/ 48 برقم 17.
(5)
أبو داود، كتاب الأدب، باب قبلة الجسد، 4/ 357، برقم 5225، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 3/ 981.
فضيلة، فإذا أصبح ذلك هيئة راسخة في النفس، وأصبح طبعا من طبائعها كان ذلك هو الحلم الواجب على الدعاة إلى الله تعالى، (1) وهذا يحتاج في بداية الأمر إلى جهاد وعزيمة، وقوة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«ليس الشديد بالسرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» . (2).
ثالثا: من صفات الداعية: الكرم: الجود والكرم من الصفات الحميدة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: «. . . فلو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم» ، وهذا يدل على كرمه وعظيم جوده وسخائه صلى الله عليه وسلم ويؤكد على الدعاة إلى الله تعالى الاقتداء به، وأن يكونوا كرماء أسخياء لا بخلاء أشحَّاء؛ فإن الداعية الكريم يجذب الناس إلى دعوته بفضل الله تعالى ثم بكرمه وجوده؛ ولهذا ما سئل صلى الله عليه وسلم على الإِسلام شيئا إلا أعطاه، وجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة (3) ولهذا قال أنس بن مالكَ رضي الله عنه: " إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإِسلام أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها "(4) ومما يدل على فضل الجود والكرم وأنه من أعظم الأساليب التي ترغِّب الناس في قبول الدعوة، ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صفوان بن أمية؛ فإنه أعطاه مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة، قال صفوان:«والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي» (5).
والداعية ينبغي له أن يتصف بأنواع الجود والكرم كلها، فيجود بنفسه في
(1) انظر: مفردات غريب القرآن، للأصفهاني ص 129، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، 1/ 434، والأخلاق الإِسلامية، للميداني، 2/ 337.
(2)
متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، 7/ 129، برقم 6114، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من بملك نفسه عند الغضب وبأي شيء يذهب الغضب، 4/ 2014، برقم 2609.
(3)
مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل صلى الله عليه وسلم شيئاَ فقال: لا، 4/ 1806، برقم 2312.
(4)
المرجع السابق، في الكتاب والباب المشار إليهما 4/ 1806، برقم 2312.
(5)
مسلم، كتاب الفضائل في الباب السابق 4/ 1806، عن صفوان، رضي الله عنهم، برقم 2313.
طاعة الله وفي سبيل نشر الإسلام، ويجود برئاسته والإِيثار في قضاء حاجات الناس، ويجود براحته تعبًا في مصلحة غيره، ويجود بعلمه فينشره بين الناس، ويجود بجاهه فيشفع لأصحاب الحاجات، ويجود ببدنه في خدمهّ الناس والإِصلاح بينهم وإعانتهم ببدنه، ويجود بعرضه فيعفو عمَّن اغتابه أو سبَّه، ويجود بصبره فيصبر على أذى الناس، ويجود بالخلق الحسن وبشاشة الوجه والبسطة، ويجود بما في أيدي الناس عليهم فمزهد فيه، فلا يلتفت إليه، وكل أنواع الجود والكرم ينبغي أن يأخذ منها الداعية أكبر الحظ والنصيب، اقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم (1) والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، (2).
رابعا: من صفات الداعية: الصدق: دل هذا الحديث على أن الصدق من الصفاتّ الحميدة؛ لِقوله صلى الله عليه وسلم: «ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا. .» ، وهذا يبيِّن للدعاة أن الصدق من الصفات التي ينبغي لهم أن يتصفوا بها، ويبيّن لهم قبح الكذب، وهو الإِخبار عن الشيء بخلاف ما هو سواء كان ذلك عمداَ أو جهلا، والإِثم يختص بالعمد (3).
وينبغي لهم أن لا ينقلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما صح عنه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من حدّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذِبين» (4) فإذا صدق الداعية في القول والفعل، والنية كان من الرابحين (5).
خامسا: من صفات الداعية: الشجاعة: الشجاعة مطلب كريم وخلق عظيم، وصفة نبيلة من صفات الدعاة الصادقين؛ ولهذا نفى النبي صلى الله عليه وسلم الجبن عن نفسه، وهذا يدل على شجاعته «ثم لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا، ولا جبانا» والشجاعة تحمل الداعية على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم؛ فإن الداعية بقوة نفسه وشجاعتها يمسك
(1) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 2/ 293 - 296.
(2)
انظر: الحديث رقم 2، الدرس الثاني، ورقم 15، الدرس الثاني.
(3)
انظر: الأذكار، للنووي ص 326، وشرح النووي على صحيح مسلم 1/ 181.
(4)
مسلم، في المقدمة، باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، 1/ 9.
(5)
انظر: الحديث رقم 7، الدرس: الثالث، ورقم 9، الدرس الرابع.
عنانها ويكبحها بلجامها عن النزع والبطش بغير حق (1) قال صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (2) قال العلامة العيني رحمه الله تعالى: " قال حكماء الإِسلام، للإنسان ثلاث قوى: العقلية، والغضبية، والشهوية: وكمال القوة الغضبية الشجاعة، وكمال القوة الشهوية الجود، وكمال القوه العقلية الحكمة "(3).
فالداعية بحاجة إلى الاتصاف والتخلّق بخلق الشجاعة؛ لأنها تضبط نفسه عن الخوف عند مثيراته في النفس حتى لا يجبن الداعية في المواضع التي تحسن فيهما الشجاعة وتكون خيرا، ويقبح فيها الجبن ويكون شرّا (4) ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن أفضل الجهاد:«كلمة حق عند سلطان جائر» (5).
وحقيقة شجاعة الداعية: هي الصبر والثبات والإِقدام على الأمور النافعة، وتكون شجاعة الداعية في الأقوال والأفعال، ولا بد أن تكون شجاعته موافقة للحكمة، وأعظم ما يمد ويقوي شجاعة الداعية: الإِيمان العميق، وقوة التوكل على الله، تعالى، وكمال الثقة به سبحانه، ومعرفته لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومواقفه في الشجاعة القلبية والعقلية (6).
والداعية يحتاج إلى أن يَتَمَرَّن على الإِقدام والتكلم بما في النفس، وإلقاء المقالات والخطب في المحافل بقصد نصر الحق وقمع الباطل، فمن مرن نفسه على ذلك لم يزل به الأمر حتى يكون ملكة له، وتزول هيبة الخلق من قلبه، فلا يبالي ألقى الخطب والمقالات في المحافل الصغار أو الكبار على العظماء أو غيرهم، وكذلك يمرِّن نفسه على لقاء الأعداء في ميادين القتال
(1) انظر: مدارج السالكين لابن القيم 2/ 308.
(2)
متفق عليه: البخاري، 7/ 129، برقم 6114، ومسلم، 4/ 2014 برقم 2608، وتقدم تخريجه في الدرس الأول من هذا الحديث، ص 247.
(3)
عمدة القاري شرح صحيح البخاري 14/ 117.
(4)
انظر: الأخلاق الإسلامية لعبد الرحمن بن حسن حبنكة الميداني 2/ 306، 319.
(5)
أحمد 5/ 251، 256، وابن ماجه في كتاب الفتن 2/ 1329، برقم 4011، وصححه الألباني، في صحيح ابن ماجه 2/ 369.
(6)
انظر: الشجاعة العقلية والقلبية في فتح الباري لابن حجر، 5/ 333.
حتى تزول عنه المخاوف ولا يبالي بلقاء الأعداء بعد ذلك سواء كان ذلك في الجهاد باليد أو باللسان (1).
سادسا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: القدوة الحسنة وسيلة من أعظم وسائل الدعوة إلى الله تعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قدوة الدعاة إلى الله تعالى، بل يجب على الناس أجمعين أن يقتدوا به صلى الله عليه وسلم، في أقواله، وأفعاله، وأخلاقه، قال الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21](2) فهو عليه الصلاة والسلام، قدوة وأسوة عملية وقولية لأتباعه، فقد تخلَّق في هذا الحديث بأصول الأخلاق والحكمة: فحلم على الأعراب ولم يعاقبهم على إساءة الأدب معه صلى الله عليه وسلم، ومع هذا وعدهم خيرا، وبيَّن لهم وسيلة أخرى من وسائل الإِيضاح فقال:«لو كان لي عَدَد هذه العضاه نَعَما لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا، ولا جبانا» . وهذا كله يدل على رغبته صلى الله عليه وسلم في أن يقتدي به الناس في هذه الأخلاق الكريمة (3).
سابعا: تعريف الداعية نفسه عند الحاجة: الداعية إذا احتاج إلى ذكر صفاته الحميدة فلا حرج في ذلك عند الحاجة أو عند انتفاع المدعوين بذلك؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «. . ثم لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا، ولا جبانا» ، قال العلامة الملاّ على القاري رحمه الله:" فيه دليل على جواز تعريف نفسه بالأوصاف الحميدة لمن لا يعرفه؛ ليعتمد عليه "(4).
ثامنا: أهمية الوعد بالخير: يدل الحديث على أن الوعد الحسن بالمال تأليفا به من أساليب الدعوة؛
(1) انظر: الرياض الناضرة للسعدي ص 46.
(2)
سورة الأحزاب، الآية:(21).
(3)
انظر: فتاوى العلامة، عبد العزيز بن عبد الله ابن باز 3/ 110، 4/ 171، 232، وانظر أيضا: الحديث رقم 16، الدرس السابع.
(4)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، 10/ 76.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم، بين أنه لا يبخل عليهم إذا وجد مالا؛ قوله صلى الله عليه وسلم:«ثم لا تجدوني بخيلا» ، وقد ذكر الله - تعالى - الوعد الحسن وحثّ عليه لمن لم يجد مالا فقال سبحانه:{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء: 28]
وقد نظر صلى الله عليه وسلم إلى أحوال المدعوين وأنهم من الأعراب الجفاة فلم يعاقبهم على سوء أدبهم معه صلى الله عليه وسلم، وهذا يبيّن، ويوضح لأتباعه أهمية الاقتداء به صلى الله عليه وسلم.
تاسعا: من موضوعات الدعوة: الحث على مكارم الأخلاق: في هذا الحديث الشريف دعوة للأمة للتحلِّي بمكارم الأخلاق، وأصول الحِكَم، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم جميع الناس في هذا الحديث وفي غيره إلى التحلي بالشجاعة، والكرم، والجود، والصدق، والصبر والتحمل (1) وذلك بفعله وقوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن فعله وتقريره، وقوله دعوة لأمته. ودعا الناس في هذا الحديث إلى ترك الكذب، والبخل، والجبن، وذلك بنفيها عن نفسه والتنفير عن هذه الأخلاق الذميمة بقوله صلى الله عليه وسلم:«فلو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا، ولا جبانا» ؛ قال العلامة العيني، رحمه الله تعالى:" وهذا من جوامع الكلم إذ أصول الأخلاق: الحكمة، والكرم، والشجاعة. وأشار بعدم الكذب إلى كمال القوة العقلية: أي الحكمة، وبعدم الجبن إلى كمال القوة الغضبية: أي الشجاعة، وبعدم البخل إلى كمال القوة الشهوية: أي الجود، وهذه الثلاث هي أمهات فواضل الأخلاق، والأول هو مرتبة الصِّدِّيقين، والثاني هو مرتبة الشهداء، والثالث هو مرتبة الصالحين اللهم اجعلنا منهم "(2).
ودعا صلى الله عليه وسلم الأمة كلها جمعاء إلى العمل بهذه المكارم، وحذرها تعريضا وتلميحا في هذا الحديث من مساوئ ومفاسد الأخلاق الذميمة؛ فإن الداعية يجب عليه أن يبتعد عنها وخاصة هذه الخصال المذكورة في الحديث:
(1) انظر: فتح الباري، لابن جحر، 6/ 254، وإرشاد الساري للقسطلاني، 5/ 54، وعون الباري لحل أدلة البخاري، لصديق بن حسن، 3/ 621.
(2)
انظر: عمدة القاري، للعيني 14/ 118.
البخل، والكذب، والجبن، والطيش وعدم التحمل (1).
عاشرا: من أصناف المدعوين: الأعراب: لا شك أن الأعراب من أصناف المدعوين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتنى بدعوتهم، وراعى أحوالهم، وبين لهم بفعله وقوله مكارم الأخلاق في هذا الحديث، فحلم عنهم، وقال:«. . . لو كان لي عدد هذه العضاه نَعَما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني: بخيلا، ولا كذوبَاَ، ولا جبانا» ، وهذا فيه تعليم للأعراب وإحسان إليهم مع شدتهم وجفائهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في هذا الحديث:«علقت رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة خطفت رداءَه. . .» فينبغي الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في مراعاة أحوال الأعراب والعفو عنهم (2).
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6/ 254، وإرشاد الساري للقسطلاني، 5/ 54.
(2)
انظر: الحديث رقم 173، الدرس الثالث.