الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
11 -
باب هَلْ يَدخل النّساء والولد في الأَقَارب
؟
[حديث اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا]
7 -
[2753] حَدَّثَنَا أَبو الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شعَيْب، عَن الزّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَني سَعِيد بن المسَيّب وأَبو سَلَمَةَ بن عَبدِ الرّحمنِ: أَنَّ أَبا هرَيْرَةَ (1) رضي الله عنه قَالَ: «قَامَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم حينَ أنزَلَ الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] قال: " يَا مَعْشَرَ قريشٍ - أَوْ كَلِمَة نَحْوَهَا- اشْتَروا أَنفسَكمْ، لَا أغْنِي عَنْكمْ مِن اللهِ شيْئا. يَا بَنِي عَبْدِ مَنافٍ، لَا أغْنِي عَنْكمْ مِنَ اللهِ شَيْئا. يَا عَبَّاس بنَ عبدِ المطلبِ، لا أغنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئا. يَا صَفِيَّة عمةَ رسولِ الله، لا أغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئا. ويَا فَاطِمَة بِنتَ محَمدٍ، سَلِيني مَا شِئتِ مِن مَالي لَا أغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئا» (2).
(1) أبو هريرة الإمام الفقيه الحافظ الداعية العظيم المبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم الكثير، اختلف في اسمه على نحو ثلاثين قولا، الراجح منها أن اسمه: عبد الرحمن بن صخر الدوسي بلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " 5374 " حديثا. اتفق البخاري ومسلم على " 326 " حديثا، وانفرد البخاري ب " 93 "، حديثا، ومسلم ب " 98 " حديثا، فقد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيرا طيبا مباركا فيه، وهذا بفضل الله تعالى ثم بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم له، فقد قال رضي الله عنه: تزعمون أني أكثر الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله الموعِد - أي يحاسبني إن تعمدت كذبا- كنت رجلا مسكينا أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، وإنه حدث صلى الله عليه وسلم يوما فقال:" من يبسط ثوبه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه فلن ينسى شيئا سمعه مني "، فبسطت بردة كانت علي، فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئا سمعته منه. [البخاري برقم 7354، ومسلم برقم 2492،، وقد حدث عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين، قال البخاري: روى عنه ثمانمائة أو أكثر، وكان مع ذلك عاملا بعلمه متواضعا؛ ولهذا كان خليفة لمروان، فجاء يحمل حزمة حطب في السوق فقال: أوسع الطريق للأمير. مات رضي الله عنه سنة سبع وخمسين، وقيل سنة ثمان، وقيل: سنة تسع، والراجح كما قال البخاري وابن حجر أنه مات سنة سبع وخمسين، وله ثمان وسبعون سنة رضي الله عنه. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 2/ 578 - 632، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر: 4/ 202 - 211.
(2)
[الحديث 2753]، طرفاه: في كتاب المناقب، باب من انتسب إلى آبائه في الإسلام والجاهلية 6/ 551، برقم 3527 وفي كتاب التفسير، 26 - سورة الشعراء، باب وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ 8/ 501 برقم 4771، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ 1/ 192، برقم 204، ورقم 206.
(3)
من الطرف رقم 3527.
* شرح غريب الحديث: * العشيرة عشيرة الرجل: بنو أبيه الأقربون وقبيلته (1).
* يا معشر قريش المعشر: كل جماعةٍ أمرهم واحد، نحو: معشر المسلمين، معاشر المشركين، ومعاشر: جماعات الناس (2) ويا معشر: مثل قوله: يا بني فلان، يا بني فلان (3) فقوله:" يا معشر قريش " أي يا جماعة، أو يا قبيلة قريش.
* اشتروا أنفسكم من الله " العبد مشترٍ لنفسه باعتبار تخليصها من العذاب، بائع باعتبار تحصيل الثواب (4) كأنه قال: أسلموا تسلموا من العذاب، فكان ذلك كالشراء، كأنهم جعلوا طاعة الله ثمن النجاة (5) أما قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111](6) فالمؤمن في هذا المقام بائع باعتبار تحصيل الثواب والثمن الجنة (7).
أنقذوا أنفسكم من النار من الإِنقاذ: خلّصوها من النار بترك أسبابها والاشتغال بأسباب الجنة (8) يقال: أنقذت فلانا: إذا خلصته مما يكون قد وقع فيه أو شارف أن يقع فيه (9).
لا أغني أي: لا أدفع، والمعنى لا تتكلوا على قرابتي فإني لا أقدر على دفع مكروه يريده الله تعالى بكم (10).
(1) انظر: مختار الصحاح، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مادة " عشر " ص 182، والمعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية، مادة " عشر " 2/ 602.
(2)
انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الراء، فصل العين 4/ 574.
(3)
انظر: عمدة القاري للعيني 19/ 102.
(4)
انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الياء، فصل الشين، 14/ 428، وشرح الكرماني على صحيح البخاري 14/ 131، وعمدة القاري للعيني، 16/ 93.
(5)
انظر: فتح الباري لابن حجر، 8/ 503.
(6)
سورة التوبة، الآية:111.
(7)
انظر: فتح الباري لابن حجر، 8/ 503.
(8)
انظر: المقاييس في اللغة لابن فارس، كتاب النون، باب النون والقاف، مادة " نقذ " ص 1044، وغريب ما في الصحيحين للحميدي ص 315، وحاشية السندي على سنن النسائي 6/ 248.
(9)
انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الياء، فصل العين، 15/ 137، وجامع الأصول لابن الأثير، 2/ 292.
(10)
انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 3/ 80.
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 -
دعوة الأقربين.
2 -
التدرج في الدعوة.
3 -
من صفات الداعية: الصدق.
4 -
قرب المدعو من أهل الفضل لا ينفع إلا بالعمل الصالح.
5 -
أهمية ربط المدعوين بخالقهم.
6 -
من وسائل الدعوة: الخطبة.
7 -
من وسائل الدعوة: البروز للناس على مكان مرتفع.
8 -
اختيار الداعية الوقت المناسب للمدعوين.
9 -
من وسائل الدعوة: التأليف بالمال.
10 -
من وسائل الدعوة: التأليف بالجاه والنسب.
11 -
من أساليب الدعوة: النداء بالأنساب والكنى.
12 -
من أساليب الدعوة: التكرير بالإِنذار.
13 -
من أساليب الدعوة: الترهيب.
14 -
من أساليب الدعوة: الترغيب.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: دعوة الأقربين: مما لا شك فيه أنه يلزم الداعية إلى الله تعالى أن يعتني بأقاربه عناية خاصة؛ لأن الله عز وجل أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن ينذر عشيرته الأقربين؛ وأنهم أحق الناس بالنصيحة والتوجيه والإِحسان؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة» (1) ولا شك أن دعوة العشيرة
(1) أحمد في المسند، 2/ 17، 18، 214، والنسائي، كتاب الزكاة باب الصدقة على الأقارب 5/ 92، برقم 2582، والترمذي، وحسنه، في كتاب الزكاة، باب ما جاء في الصدقة على ذي القرابة 3/ 38، برقم 658، وابن ماجه، في كتاب الزكاة، باب فضل الصدقة 1/ 591، برقم 1844 من حديث سليمان بن عامر الضبي رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/ 202.
الأقربين وتوجيههم إلى سعادتهم الأبدية أعظم وأولى من الصدقة بالمال.
والناس في الغالب ينظرون إلى قرابة الداعية، ومدى تطبيقهم لما يدعو إليه؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" والسر في الأمر بإنذار الأقربين أولا، أن الحجة إذا قامت عليهم تعدت إلى غيرهم، وإلا فكانوا علة للأبعدين في الامتناع، وأن لا يأخذه ما يأخذ القريب من العطف والرأفة، فيحابيهم في الدعوة والتخويف، فلذلك نَصَّ له على إنذارهم (1) ولهذا كان عمر رضي الله عنه إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء جمع أهله فقال: " إني نهيت الناس عن كذا وكذا " وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم بالله لا أجد أحدا منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة "(2).
ثانيا: التدرج في الدعوة: بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة السرية بعد أن أمره الله تعالى بإنذار قومه عاقبة ما هم فيه من الشرك، وما هم عليه من الكفر والفساد، قال تعالى؛ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ - وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ - وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1 - 7] (3) وبعد هذه الآيات بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض الإسلام على من يعرفهم ويعرفونه: يعرفهم بحب الخير والحق، ويعرفونه بتحري الصدق والصلاح، فأجابه من هؤلاء جمع عرفوا بالسابقين الأولين. ثم أنزل الله تعالى بعد ذلك {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ - إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 94 - 95] (4) وهذا أمر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ رسالته قومه وجميع من أرسل إليه (5) وأمره تعالى بإنذار عشيرته الأقربين، فبدأ صلى الله عليه وسلم دعوته الجهرية بإنذارهم. وقد بين الإمام ابن القيم رحمه الله ترتيب الدعوة للنبي صلى الله عليه وسلم وأنها على الترتيب الآتي:
(1) " فتح الباري 8/ 503، وانظر: هداية الباري إلى ترتيب صحيح البخاري، لعبد الرحيم الطهطاوي، 2/ 341.
(2)
تاريخ الأمم والملوك، للطبري 2/ 68، والكامل في التاريخ، لابن الأثير 3/ 31.
(3)
سورة المدثر، الآيات: 1 - 7.
(4)
سورة الحجر، الآيتان: 94 - 95.
(5)
انظر: تفسير الطبري " جامع البيان عن تأويل آي القرآن " 7/ 151.
الأولى: النبوة.
الثانية: إنذار عشيرته الأقربين.
الثالثة: إنذار قومه.
الرابعة: إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله: وهم العرب قاطبة.
الخامسة: إنذار جميع من تبلغه دعوته من الجن والإنس إلى آخر الدهر (1).
وهذا الحديث في هذا الباب دل على الدرجة الثانية؛ فينبغي للداعية أن يراعي ويسلك طريق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته.
ثالثا: من صفات الداعية: الصدق الصدق من أهم صفات الداعية إلى الله تعالى، وفي هذا الحديث دليل على التحرز من الكذب وتحري الصدق؛ لأن الراوي نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:" يا معشر قريش أو كلمة نحوها " وهذا شك من الراوي هل قال النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة أو ما معناه (2).
ولا شك أن الصدق من أهم الصفات للداعية، وخاصة في ثلاثة مجالات:
1 -
الصدق في النية والقصد، وهذا يستلزم الإخلاص في الدعوة لله تعالى، وفي كل طاعة وقربة.
2 -
الصدق في القول، وهذا يستلزم أن لا ينطق الداعية بالباطل أيا كانت صورته: كذبا، أو شتما، أو سبابا، أو غشا، أو غيبة، أو نميمة، أو غير ذلك من الألفاظ القبيحة.
3 -
الصدق في العمل، وهو مطابقة الأقوال والأعمال للحق الذي يدعو إليه الداعية، فيعمل بما يدعو إليه قولا وعملا. (3).
فعلى الداعية أن يكون صادقا في جميع المجالات؛ ولهذا قال الله تعالى:
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 1/ 86.
(2)
بهجة النفوس وتحليتها بمعرفة ما لها وما عليها، شرح مختصر صحيح البخاري، لعبد الله بن أبي جمرة الأندلسي 3/ 91.
(3)
انظر: مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 268.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119](1).
رابعا: قرب المدعو من أهل الفضل لا ينفع إلا بالعمل الصالح: لا ريب أن المدعو إذا كان قريب النسب أو الجوار لأهل الفضل لا ينفعه ذلك إلا بالعمل؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في ندائه لبطون قريش: " لا أغني عنكم من الله شيئا "، وقال لفاطمة بنته:" لا أغني عنك من الله شيئا "، قال الإمام الحافظ ابن العربي رحمه الله في الكلام على هذه الجملة:" هذا كلام بديع، فهذا نوح عليه السلام لما كفر ابنه لم تنفعه بنوته، وهذا إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما كفر أبوه لم تنفعه أبوته، كذلك أبو طالب لم تنفعه عمومته للنبي صلى الله عليه وسلم ولم تنجه من العذاب، وفي هذا بيان أن العصمة بالعمل الصالح لا بالقرابة، قال صلى الله عليه وسلم: ". . . «ومن بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه» (2) وكذلك الصلة بسبب النكاح لا تنفع إلا بالإيمان، وقد بين الله ذلك سبحانه في قوله:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} [التحريم: 10](3) وفي قوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} [التحريم: 11](4) فلم تنتفع زوجتا نوح ولوط بإيمان زوجيهما، ولم يضر امرأة فرعون كفر زوجها فرعون " (5).
فينبغي أن يعْلَم أن رؤية أهل الفضل أو القرب من العلماء والصالحين ومخاطبتهم لا تنفع إلا إذا وقع الاقتداء بهم، وكلما قوي الاقتداء والعمل الصالح قوي القرب والانتفاع بإذن الله تعالى (6).
خامسا: أهمية ربط المدعوين بخالقهم: ينبغي للداعية أن يبين للناس أنهم بحاجة إلى ربهم في جميع أمورهم، وأنهم ملك لله تعالى، وهم فقراء إليه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:" اشتروا أنفسكم من الله "، قال
(1) سورة التوبة، الآية:119.
(2)
أخرجه مسلم، في كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن 4/ 2074، برقم 2699.
(3)
سورة التحريم، الآية:10.
(4)
سورة التحريم، الآية:11.
(5)
عارضة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، للحافظ ابن العربي 6/ 272.
(6)
انظر: بهجة النفوس لابن أبي جمرة 3/ 91.
الحافظ ابن حجر رحمه الله: " فيه إشارة إلى أن النفوس كلها ملك لله تعالى، وأن من أطاعه في امتثال أوامره واجتناب نواهيه وفَّى ما عليه من الثمن "(1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: " اشتروا أنفسكم من الله " فقد بين الشراء ولم يبين الثمن الذي يشترى به، وقد بينه الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111](2) والشراء يجوز أن يطلق على البائع والمبتاع؛ لأن كل واحد منهما في الحقيقة بائع ومشتر، فالمؤمن الحقيقي ليس له في نفسه شيء، وإنما هو عليها أمين مثل الوصي على مال اليتيم، ينفق عليه بالمعروف (3) فعلى الداعية أن يسلك منهج النبي صلى الله عليه وسلم في ربط المدعوين بخالقهم تعالى.
سادسا: من وسائل الدعوة: الخطبة: الخطبة من الوسائل الحية في الدعوة إلى الله تعالى، وتبرز في هذا الحديث؛ لقول أبي هريرة رضي الله عنه:" قام رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويبين ذلك الرواية الأخرى: من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، بأن النبي صلى الله عليه وسلم صعد على الصفا فجعل ينادي (4) وهذا يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم على الصفا، وعم وخص وأنذر صلى الله عليه وسلم.
فينبغي للداعية أن يعتني بالخطبة، ويحضر لها تحضيرا جيدا دقيقا؛ لما لها من التأثير في قلوب المدعوين؛ ولأن الخطبة في الغالب يجتمع لها الجمع الغفير في معظم الأحيان.
سابعا: من وسائل الدعوة: البروز للناس على مكان مرتفع: من الوسائل المهمة أن يبرز الداعية على مكان مرتفع يراه الناس أمام أعينهم، وخاصة إذا كان الجمع غفيرا، حتى يسمع الناس ما يقول؛ ولهذا شرع الصعود على المنبر في خطب الجمع، كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الإمام ابن العربي
(1) فتح الباري 8/ 503.
(2)
سورة التوبة، الآيتان: 111 - 112.
(3)
انظر: بهجة النفوس لابن أبي جمرة 3/ 92.
(4)
انظر: صحيح البخاري 6/ 19، الحديث رقم 4770، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 8/ 501.
معنى ذلك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صعد الصفا يريد الإسماع؛ ولذلك شرع للمؤذن صعود السطوح والمواضع المرتفعة؛ ليكون أقوى لصوته، وأسمع له (1).
فعلى الداعية أن يعتني بهذه الوسيلة عند الحاجة إليها.
ثامنا: اختيار الداعية الوقت المناسب للمدعوين: لا شك أنه ينبغي للداعية أن يختار الأوقات المناسبة للمدعوين، حتى يستطيع بتوفيق الله تعالى- أن يؤثر عليهم؛ ولهذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم وقت الصباح حينما بدأ بإنذار قريش؛ لكون هذا الوقت أنسب لهم، وأسمع لصوته (2).
فينبغي للداعية أن يتحرى أوقات الفراغ والنشاط والحاجة عند المدعوين؛ ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا» (3) والمعنى كان صلى الله عليه وسلم يراعي الأوقات في تذكيرهم (4).
تاسعا: من وسائل الدعوة: التأليف بالمال: لا شك أن التأليف بالمال من وسائل الدعوة إلى الله تعالى، وقد أشار إليه هذا الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها:" سليني من مالي ما شئت " قال العيني رحمه الله: " فيه أن الائتلاف للمسلمين وغيرهم بالمال جائز وفي الكافر آكد "(5) فينبغي للداعية أن يكون كالطبيب الذي يشخص المرض أولا، ثم يعطي العلاج على حسب نوع المرض، فإذا علم الداعية أن المدعو بحاجة إلى التأليف بالمال أعطاه؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني بهذه الوسيلة عناية فائقة حتى قال:«إني أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه، خشية أن يكبَّ في النار على وجهه» (6)
(1) انظر: عارضة الأحوذي بشرح سنن الترمذي لابن العربي، 6/ 270، وفتح الباري لابن حجر، 8/ 502.
(2)
انظر: عارضة الأحوذي، بشرح سنن الترمذي، لابن العربي، 6/ 270.
(3)
البخاري، كتاب العلم، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، 1/ 29، برقم 68.
(4)
انظر: فتح الباري لابن حجر، 1/ 162.
(5)
عمدة القاري 14/ 48.
(6)
متفق عليه من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: البخاري، كتاب الإيمان، باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة 1/ 15، رقم 27، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تأليف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه 1/ 132، برقم 150.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يعطي أشراف قريش وغيرهم من المؤلفة قلوبهم؛ لتلافي أحقادهم؛ ولأن الهدايا تجمع القلوب، وتجعل القلوب متهيئة للنظر في صدق الدعوة، وصحة العقيدة، والاستفادة من الآيات البينات، والبراهين الواضحة.
وصدق صلى الله عليه وسلم حيث قال: «تهادوا تحابوا» (1) وللتأليف بالمال أمثلة كثيرة من هديه صلى الله عليه وسلم (2) فينبغي للداعية أن يسلك هذا المسلك عند الحاجة إليه.
عاشرا: من وسائل الدعوة: التأليف بالجاه والنسب: من الوسائل النافعة في الدعوة إلى الله تعالى: التأليف بالجاه أو بالنسب؛ وفي هذا الحديث ما يشير إلى ذلك عنه صلى الله عليه وسلم حيث قال: " ويا صفية عمة رسول الله. . ويا فاطمة بنت محمد "، فكأنه صلى الله عليه وسلم يرقق قلب صفية وفاطمة رضي الله عنهما لما لهما من القرابة منه صلى الله عليه وسلم، وقد نادى صلى الله عليه وسلم عباس بن عبد المطلب، وصفية بنت عبد المطلب، وفاطمة بنت محمد لشدة قرابتهم منه (3) وقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم التأليف بالجاه؛ فقال صلى الله عليه وسلم للأنصار حينما آثر عليهم غيرهم في العطاء:«أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به " فقالوا: " بلى يا رسول الله قد رضينا» (4).
وفي رواية: ". . . «لو سلك الناس واديا أو شعبا، وسلكت الأنصار واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار» (5).
فينبغي للداعية أن يسلك منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الله تعالى.
(1) البيهقي في السنن الكبرى 6/ 169، والبخاري في الأدب المفرد ص 208، برقم 594، وحسن إسناده ابن حجر في التلخيص الحبير 3/ 70، وانظر: إرواء الغليل للألباني برقم 1601.
(2)
انظر: البخاري مع الفتح 3/ 135، 6/ 250، 11/ 258، وصحيح مسلم 4/ 1803 - 1806.
(3)
انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 3/ 80.
(4)
البخاري، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم 4/ 71، برقم 3147، ومسلم، كتاب الزكاة باب إعطاء المؤلفة قلوبهم وتصبر من قوي إيمانه 2/ 734، برقم 1059.
(5)
مسلم، كتاب الزكاة، الباب السابق 2/ 735، برقم 1059.
الحادي عشر: من أساليب الدعوة: النداء بالأنساب والكنى: ظهر في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل النداء بالأنساب والكنى في دعوته إلى الله تعالى فقال: " يا بني كعب بن لؤيٍّ. . . يا بني مرة بن كعب. . . يا بني عبد شمس. . . يا بني عبد مناف. . . يا بني هاشم. . . يا بني عبد المطلب. . . يا بني فهر. . . يا بني عدي. . . يا عباس بن عبد المطلب. . . يا صفية عمة رسول الله. . . يا فاطمة بنت رسول الله. . . "(1).
وفي رواية: «. . . يا أم الزبير بن العوام عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم» (2).
فدل ذلك على أنه لا حرج على الداعية أن يستخدم مثل هذا إذا احتاج إليه (3) إذا كان مما يجلب قلوب المدعوين، ويدخل السرور عليهم والأنس والراحة، وقد علِمَ بالتجارب أن النداء بالكنى المباحة يدخل السرور على المنَادَى.
الثاني عشر: من أساليب الدعوة: التكرير بالإنذار: إن أسلوب التكرير وإعادة الإِنذار والتوجيه مرة بعد أخرى أسلوب نافع؛ لأن الناس قد ينسون بعد فترة من الزمن، وهذا يبين للدعاة إلى الله تعالى أهمية هذا الأسلوب، فإذا ألقى الداعية كلمة، أو خطبة، أو محاضرة، أو نصيحة على قوم من المدعوين ثم احتاج إلى إعادتها بعد فترة فلا حرج في ذلك؛ لأن المقصود أن يفهم الناس ما يلقى إليهم ويستوعبوه، فإذا لم يحصل هذا كرر ما يلقى إليهم حتى يرسخ في أذهانهم. قال الإمام ابن حجر رحمه الله في شرحه لحديث الباب:" ونداؤه صلى الله عليه وسلم للقبائل من قريش قبل عشيرته الأدْنَين؛ ليكرر إنذار عشيرته، ولدخول قريش كلها في أقاربه، ولأن إنذار العشيرة يقع بالطبع وإنذار غيرهم يكون بطريق الأولى "(4)
(1) انظر: البخاري مع الفتح 5/ 383، 6/ 551، 8/ 501، ومسلم 1/ 192 - 193.
(2)
البخاري، كتاب المناقب، باب من انتسب إلى آبائه في الإسلام والجاهلية 4/ 194، برقم 3527.
(3)
انظر: فتح الباري لابن حجر، 6/ 551.
(4)
المرجع السابق 6/ 552، 8/ 502.
ثم قال رحمه الله: " وهذه القصة إن كانت وقعت في صدر الإسلام بمكة فلم يدركها ابن عباس، لأنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، ولا أبو هريرة لأنه إنما أسلم بالمدينة، وفي نداء فاطمة يومئذٍ أيضا ما يقتضي تأخر القصة؛ لأنها كانت حينئذٍ صغيرة أو مراهقة. . والذي يظهر أن ذلك وقع مرتين مرة في صدر الإسلام. . . ومرة بعد ذلك حيث يمكن أن تدعى فيها فاطمة رضي الله عنها، أو يحضر ذلك أبو هريرة وابن عباس رضي الله عن الجميع "(1).
وهذا يوضح للداعية أنه ينبغي له أن يكرر ما يحتاج إليه الناس بدون ملل ولا كسل (2).
الثالث عشر: من أساليب الدعوة: الترهيب يظهر في هذا الحديث أسلوب الترهيب، وأنه من أساليب الدعوة التي ينبغي للداعية أن يعتني بها؛ لأن الترهيب يكون بما يخيف المدعو ويحذره من عدم الاستجابة، أو رفض الحق، أو عدم الثبات عليه بعد قبوله (3).
فقد دل هذا الحديث على الترهيب من النار في قوله صلى الله عليه وسلم بعد نداء كل بطن من بطون قريش: «أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا» (4).
الرابع عشر: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترغيب، وهو كل ما يشوق المدعو إلى الاستجابة وقبول الحق، والثبات عليه (5)؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: اشتروا أنفسكم من الله، قال الكرماني: " فإن قلت ما معنى الاشتراء وهم البائعون، قال الله
(1) فتح الباري لابن حجر، بتصرف يسير 6/ 552، 8/ 502.
(2)
انظر: الحديث رقم 4، الدرس الخامس.
(3)
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الهاء، مادة. " رهب " 2/ 280، ولسان العرب، باب الباء، فصل الراء، 1/ 436، والقاموس المحيط للفيروزآبادي، باب الباء، فصل الراء، ص 118.
(4)
هذا لفظ مسلم في صحيحه 1/ 192، وتقدم تخريجه ص 78.
(5)
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الغين، مادة:" رغب " 2/ 236، ولسان العرب لابن منظور، باب الباء، فصل الراء، 1/ 422، والقاموس المحيط للفيروزآبادي، باب الباء، فصل الراء، ص 116.
تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111](1) قلت: العبد مشتر لنفسه باعتبار تخليصها من العذاب، بائع باعتبار تحصيل الثواب " (2).
وقال ابن حجر رحمه الله: " اشتروا أنفسكم من الله " أي باعتبار تخليصها من النار؛ كأنه قال: أسلموا تسلموا من العذاب، فكان ذلك كالشراء، كأنهم جعلوا طاعة الله ثمن النجاة، أما قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] فهناك المؤمن بائع باعتبار تحصيل الثواب والثمن الجنة، وفيه إشارة إلى أن النفوس كلها ملك لله تعالى، وأن من أطاعه حق طاعته في امتثال أوامره واجتناب نواهيه وفَّى ما عليه من الثمن " (3).
وهذا واضح في دلالة الحديث على أسلوب الترغيب، فينبغي للداعية إلى الله تعالى أن يستخدمه في دعوته.
* * * *
(1) سورة التوبة، الآية:111.
(2)
شرح الكرماني على صحيح البخاري، 14/ 131.
(3)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8/ 503.