الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[حديث مضت الهجرة لأهلها]
100 -
، 101 - [2962، 2963] حدثنا إسحاق بن إبراهيم: سمع محمد بن فضيل، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن مجاشع (1) رضي الله عنه قال:«أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأخي، فقلت: بايعنا على الهجرة، فقال: " مضت الهجرة لأهلها ". فقلت: علام تبايعنا؟ قال: " على الإسلام والجهاد» (2).
وفي رواية: " جاء مجاشع بأخيه مجالد بن مسعود (3). إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا مجالد يبايعك على الهجرة فقال: «لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الإسلام» (4).
وفي رواية: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بأخي بعد الفتح فقلت: يا رسول الله، جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة. قال: " ذهب أهل الهجرة بما فيها " فقلت: على أي شيء تبايعه؟ قال: " أبايعه على الإسلام، والإيمان، والجهاد» فلقيت معبدا (5).
(1) مجاشع بن مسعود بن ثعلبة بن وهب السلمي رضي الله عنه، له أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، في صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن ابن ماجه، قيل: إنه غزا كابل من بلاد الهند فصالحه الأصيهد، فدخل مجاشع بيت الأصنام فأخذ جوهرة من عين الصنم، وقال لم آخذها إلا لتعلموا أنه لا يضر ولا ينفع. قتل يوم الجمل سنة ست وثلاثين رضي الله عنه. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 3/ 362، وتهذيب التهذيب له، 10/ 35، وتقريب التهذيب له ص 920.
(2)
[الحديث 2962] أطرافه في: كتاب الجهاد والسير، باب لا هجرة بعد الفتح، 4/ 48، برقم 3078. وكتاب المغازي، باب، 5/ 114 و 115، برقم 4305 و 4307. وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير، وبيان معنى " لا هجرة بعد الفتح "، 3/ 1487، برقم 1863. و [الحديث 2963] أطرافه في: كتاب الجهاد والسير، باب لا هجرة بعد الفتح، 4/ 48، برقم 3079. وكتاب المغازي، باب، 5/ 114 و 115، برقم 4306، 4308. وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير، وبيان معنى " لا هجرة بعد الفتح " 3/ 1487برقم 1863.
(3)
مجالد بن مسعود السلمي أبو معبد أخو مجاشع رضي الله عنه، وقيل: أول من قص بالبصرة الأسود بن سريع فارتفعت الأصوات، فجاء مجالد بن مسعود السلمي، فقالوا: أوسعوا له، فقال: ما أتيتكم لأجلس إليكم، ولكني رأيتكم صنعتم شيئا أنكره المسلمون. قيل: قتل يوم الجمل، وقال ابن حجر: وهذا فيه نظر فإن الذي قتل يوم الجمل أخوه مجاشع، أما مجالد فبقي إلى سنة أربعين على الصحيح. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، 3/ 363، وتهذيب التهذيب له، 10/ 38 وتقريب التهذيب له أيضا، ص 921.
(4)
الطرف رقم 3078، 3079.
(5)
قيل: هو معبد بن مسعود أخو مجالد ومجاشع، وقيل هو مجالد لأن كنيته: أبو معبد قال ابن حجر: ويحتمل أن يكون لمجاشع أخوان: مجالد ومعبد، فالذي جاء به مجاشع إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو معبد، والذي لقيه أبو عثمان النهدي فقال: صدق مجاشع هو مجالد وكنيته أبو معبد، والله أعلم. ورجح العلامة العيني في عمدة القاري 17/ 291 أن قوله:" فلقيت معبدا " فقال: الصواب " فلقيت أبا معبدا فعلى هذا يكون أبو معبد هو مجالد كما هو واضح من كنيته التي لا خلاف فيها. والله أعلم. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 3/ 440، وتقريب التهذيب له ص 1207. وانظر: فتح الباري لابن حجر، 8/ 26.
بعد- وكان أكبرهما- فسألته فقال: صدق مجاشع (1).
وفي رواية: عن أبي عثمان النهدي عن مجاشع بن مسعود: «انطلقت بأبي معبد إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ليبايعه على الهجرة قال: " مضت الهجرة لأهلها، أبايعه على الإسلام والجهاد» فلقيت أبا معبد فسألته؟ فقال: صدق مجاشع (2).
* الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها:
1 -
أهمية السؤال في تحصيل العلم.
2 -
من موضوعات الدعوة: الحض على أصول الإسلام.
3 -
من موضوعات الدعوة: الحض على أصول الإيمان.
4 -
من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد.
5 -
من صفات الداعية: الحرص على هداية الأقربين.
6 -
من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإخبار ببقاء مكة دار إسلام.
7 -
من موضوعات الدعوة: البيان ببقاء الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام.
8 -
من صفات الداعية: الحرص على التثبت في طلب الحديث.
9 -
من صفات الداعية: الصدق.
10 -
من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة الفتح.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: أهمية السؤال في تحصيل العلم: ظهر في هذين الحديثين أهمية السؤال في تحصيل العلم، لأن مجاشع بن
(1) الطرف رقم 4305، 4306.
(2)
الطرف رقم 4307، 4308.
مسعود رضي الله عنه «سأل النبي عن الهجرة لأخيه مجالد، فقال صلى الله عليه وسلم: " مضت الهجرة لأهلها " فقال مجاشع: على أي شيء تبايعه فقال صلى الله عليه وسلم: " أبايعه على الإسلام، والإيمان، والجهاد» .
وهذا يدل على أهمية السؤال في تحصيل العلم النافع، وما يترتب عليه من الفوائد والعلم بأمور الإسلام (1).
ثانيا: من موضوعات الدعوة: الحض على أصول الإسلام: دل هذان الحديثان على أن الحث على أصول الإسلام من موضوعات الدعوة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " أبايعه على الإسلام. . . " والمقصود ملازمة الإسلام بأركانه الخمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا؛ ولهذا «عندما سأل جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم: " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» (2).
فينبغي للداعية أن يحض الناس على هذه الأصول التي بني عليها الإسلام (3).
ثالثا: من موضوعات الدعوة: الحض على أصول الإيمان: إن أصول الإيمان أعظم الموضوعات التي ينبغي للداعية أن يبينها للناس، ويوضحها توضيحا مفصلا؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمجاشع في هذا الحديث عند المبايعة لأخيه مجالد:" أبايعه على الإسلام والإيمان. . . " والمقصود بالمبايعة على الإيمان هنا: ملازمة أصول الإيمان الستة كما فسرته النصوص الأخرى؛ ولهذا «عندما سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان أجابه بقوله صلى الله عليه وسلم: " أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» (4).
(1) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثاني، ورقم 19، الدرس الرابع، ورقم 30، الدرس الرابع، ورقم 92، الدرس الرابع.
(2)
مسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان، والإسلام، والإحسان، 1/ 37، برقم 8، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(3)
انظر: الحديث رقم 22، الدرس الثاني.
(4)
مسلم، في الكتاب والباب السابقين، 1/ 37، برقم 8.
وهذا يؤكد على الداعية إلى الله عز وجل أن يعتني بإبلاغ الناس هذه الأصول على وجه التفصيل والإيضاح (1).
رابعا: من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد في سبيل الله عز وجل: إن الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى من أهم الموضوعات التي ينبغي أن يعتني بها أهل العلم والدعوة إلى الله عز وجل؛ لما في ذلك من إظهار شعائر الإسلام، وقمع الكفر، وأهل البغي والفساد؛ ولهذا بايع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مجالد بن مسعود رضي الله عنه على الجهاد، فقال صلى الله عليه وسلم لأخيه مجاشع:«أبايعه على: الإسلام، والإيمان، والجهاد» .
فينبغي العناية بالحث على الجهاد؛ لأنه ذروة سنام الإسلام كما «قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: " ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه؟ " قال معاذ رضي الله عنه: قلت: بلى يا رسول الله، قال: " رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد» . . . " (2). والجهاد يكون باليد، واللسان، والمال؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:«جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم» (3). فينبغي العناية الفائقة بالحث على الجهاد في سبيل الله عز وجل (4).
خامسا: من صفات الداعية: الحرص على هداية الأقربين: لا شك أن الحرص على هداية الأقربين وحب الخير لهم من الأمور المهمة التي ينبغي العناية بها؛ ولهذا اعتنى مجاشع بن مسعود رضي الله عنه بأخيه مجالد، وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليبايعه على الهجرة، فبايعه صلى الله عليه وسلم على: الإسلام، والإيمان، والجهاد، والداعية الصادق يكون حريصا على هداية الناس
(1) انظر المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 4/ 70، وانظر: الحديث رقم 22، الدرس الأول.
(2)
الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة، 5/ 12، برقم 2616، وقال:" هذا حديث حسن صحيح "، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، 2/ 1314، برقم 3973، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 2/ 138، برقم 413.
(3)
أبو داود، كتاب الجهاد، باب كراهية ترك الغزو، 3/ 10، برقم 2504، عن أنس رضي الله عنه، وصححه الألباني، في صحيح سنن أبو داود، 2/ 475.
(4)
انظر: الحديث رقم 2، الدرس الثالث، ورقم 18، الدرس الثاني.
جميعا، ولكنه يعتني عناية خاصة بأقربائه؛ لأن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة (1).
سادسا: من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإخبار ببقاء مكة دار إسلام: دل الحديثان على معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم تدل على صدق نبوته ورسالته، وهي أن مكة تبقى دار إسلام إلى آخر الدنيا؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:«لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الإِسلام» . قال الإِمام النووي رحمه الله: " وهذا يتضمن معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها تبقى دار إسلام لا يتصور منها الهجرة ". (2).
سابعا: من موضوعات الدعوة: البيان ببقاء الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإِسلام: الناظر في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث مجاشع بن مسعود رضي الله عنه: «لا هجرة بعد فتح مكة ولكن أبايعه على الإِسلام» يتصور بأن الهجرة قد انقطعت إلى يوم القيامة، ولكن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر بعضها بعضا؛ قال الإِمام النووي رحمه الله: " قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: الهجرة من دار الحرب إلى دار الإِسلام باقية إلى يوم القيامة، وتأوَّلوا هذا الحديث تأويلين:
أحدهما: لا هجرة بعد الفتح من مكة؛ لأنها أصبحت دار إسلام فلا تتصور منها الهجرة.
والثاني: وهو الأصح: أن معناه أن الهجرة الفاضلة المهمة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازا ظاهرا انقطعت بفتح مكة ومضت لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة؛ لأن الإِسلام قويَ وعز بعد فتح مكة عزا ظاهرا بخلاف ما قبله (3).
وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: " المقصود لا هجرة من مكة إلى غيرها؛ لأنها أصبحت دار إسلام فلا حاجة إلى الهجرة
(1) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الأول، ورقم 36، الدرس الخامس.
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم، 9/ 132، و 13/ 11، وانظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح 6/ 2041، وبهجة الناظرين شرح رياض الصالحين، لسليم الهلالي، 1/ 35.
(3)
شرح النووي على صحيح مسلم، 13/ 81.
منها، وأما الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإِسلام بنية الفرار بدينه فهي باقية إلى يوم القيامة " (1) وقد صحت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تفسر حديث مجاشع وغيره، فعن عبد الله بن واقد السعدي رضي الله عنه قال: وفدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفدٍ كلنا يطلب حاجته، وكنت آخرهم دخولا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني تركت من خلفي، وهم يزعمون أن الهجرة قد انقطعت، قال: «لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفَّار» (2) وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه في مبايعته للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له: «أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين» (3) وعن جرير رضي الله عنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين " قالوا: يا رسول الله، لِمَ؟ قال: " لا تَراءَى نَارَاهمَا» (4) وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» (5).
وهذه الأحاديث تبين أن الهجرة باقية إلى يوم القيامة من بلد المشركين إلى بلد المسلمين، وقد فَصَّل في ذلك أهل العلم، قال ابن حجر رحمه الله: " لا تجب الهجرة من بلد فتحه المسلمون أما قبل فتح البلد فمن به من المسلمين أحد ثلاثة: الأول قادر على الهجرة لا يمكنه إظهار دينه، ولا أداء واجباته، فالهجرة منه واجبة. الثاني: قادر لكنه يمكنه إظهار دينه وأداء واجباته، فمستحبة لتكثير
(1) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3078، و 3079 من صحيح البخاري.
(2)
النسائي، كتاب البيعة، باب ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة، 7/ 146، برقم 4172، وأحمد في المسند، 1/ 192، وصححه الألباني في صحيح النسائي 3/ 874، وقال عنه أحمد محمد شاكر في شرحه للمسند وترقيمه 3/ 1671، برقم 1671:" إسناده صحيح ".
(3)
النسائي، كتاب البيعة، باب ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة، 7/ 148، برقم 4177، وأحمد 4/ 365، والبيهقي في السنن الكبرى، 9/ 13، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 5/ 31.
(4)
أبو داود، في كتاب الجهاد، باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، 3/ 45، برقم: 2645، والترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين، 4/ 155، برقم 1604، وصححه الألباني في إرواء الغليل 5/ 29.
(5)
أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الهجرة هل انقطعت، 3/ 3، برقم 2479، وأحمد في المسند، 4/ 99، والبيهقي في السنن الكبرى، 9/ 17، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 5/ 23، وفي صحيح سنن أبي داود 2/ 470، وفي صحيح الجامع الصغير 6/ 186.
المسلمين بها ومعونتهم، وجهاد الكفار، والأمن من غدرهم، والراحة من رؤية المنكر بينهم.
الثالث: عاجز يعذر: من أسرٍ، أو مرضٍ أو غيره، فتجوز له الإقامة، فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أجر " (1).
وقد قال القرطبي رحمه الله: " ولا يختلف في أنه لا يحلّ لمسلم المقام في بلاد الكفار، مع التمكّن من الخروج منها؛ لجريان أحكام الكفار عليه؛ ولخوف الفتنة على نفسه، وهذا حكم ثابت، مؤبَّد إلى يوم القيامة. وعلى هذا فلا يجوز لمسلم دخول بلاد الكفار لتجارة أو غيرها، مما لا يكون ضروريا في الدين: كالرسل، وكافتكاك المسلم، وقد أبطل مالك رحمه الله شهادة من دخل بلاد الهند (2) للتجارة "(3).
فإذا علم المسلم شأن الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإِسلام، فهل يهاجر المسلم من بلاد المسلمين التي تقام فيها المعاصي ولا يستطيع تغييرها؟ قال الإِمام ابن العربي رحمه الله:" فأما الهجرة من بلد الكفر فهي فريضة إلى يوم القيامة، وكذلك الهجرة من أرض الحرام والباطل بظلم أو فتنة. . . فإن قيل: فإن لم يوجد بلد إلا كذلك؛ قلنا: يختار المرء أقلها إثما، مثل أن يكون بلد فيه كفر فبلد فيه جور خير منه، أو بلد فيه عدل وحرام، فبلد فيه جور وحلال خير منه للمقام. . . "(4) ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفرّ بدينه من الفتن» (5) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: " والهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإِسلام باقية إلى قيام الساعة وكذلك الهجرة من بلاد المعاصي إلى بلاد الطاعات، إذا كانت أحسن من بلده، فله الهجرة، إلا إذا كان بقاؤه في بلاد المعاصي فيه خير: كالدعوة إلى الله،
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6/ 190.
(2)
في نقل الأبي عن القرطبي في إكمال إكمال المعلم 6/ 581 " وقد أبطل مالك شهادة من دخل بلاد الحرب للتجارة " وهو الأقرب والله أعلم.
(3)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 4/ 69.
(4)
عارضة الأحوذي، بشرح سنن الترمذي 4/ 89.
(5)
البخاري، 7/ 241 برقم 6495، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 19، الدرس الثاني، ص 167.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ". (1).
فينبغي للداعية أن يبين للناس ذلك بيانا واضحا، ويحثهم على هجر المعاصي والسيئات أيضا؛ لأن هجر المعاصي من أكمل الهجرة إلى الله عز وجل، وخاصة في هذه الأزمان التي قد كثرت فيها الذنوب والموبقات؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (2) وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أكمل الناس في الهجرة، والجهاد، والإِيمان والإِسلام فقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع:«ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب» (3).
ثامنا: من صفات الداعية: الحرص على التثبت في طلب الحديث: دل هذان الحديثان على حرص السلف الصالح على التثبت في نقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا روى أبو عثمان النهدي هذا الحديث عن مجاشع بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لقي أبو عثمان النهدي أبا معبد أخا مجاشع فسأله عن هذا الحديث؛ لأنه حضر مع أخيه عند النبي صلى الله عليه وسلم. فقال أبو معبد:" صدق مجاشع " وهذا من حرص أبي عثمان على التأكد والتثبت وزيادة اليقين؛ فينبغي للداعية أن يتثبت في نقل الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (4).
تاسعا: من صفات الداعية: الصدق: إن الصدق في القول والفعل، والنية من صفات الداعية المخلص؛ ولهذا
(1) سمعته من سماحته أثناء شرحه للأحاديث رقم 4305 - 4312 من صحيح البخاري، في يوم الخميس الموافق 14/ 7 / 1416 هـ بالجامع الكبير بالرياض.
(2)
متفق عليه؛ من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، البخاري واللفظ له، كتاب الإِيمان، باب: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، 1/ 10، برقم 10، ومسلم، كتاب الإِيمان، باب تفاضل الإِسلام وأي أموره أفضل، 1/ 65، برقم 40.
(3)
أحمد في المسند 6/ 21 من حديث فضالة بن عبيد الله رضي الله عنه. قال العلامة الألباني في إسناد الإِمام أحمد " وهذا إسناد صحيح " رجاله كلهم ثقات. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة له، 2/ 81، برقم 549.
(4)
انظر: الحديث رقم 21، الدرس العاشر.
صَدَقَ مجَاشِع بن مسعود رضي الله عنه حينما حدث أبا عثمان النهدي أنه جاء بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الهجرة، فلم يبايعه صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال:«لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الإِسلام» فأراد أبو عثمان التثبت عن صدق مجاشع فسأل أخاه عن حقيقة القصة فقال: صدق مجاشع.
وهذا يعطي الداعية قوة العزيمة في الرغبة في الصدق؛ لأن المخلصين من المدعوين يتثبتون فيما يسمعون منه، فليكن على حذر، طاعة لله عز وجل، حتى يكون ثقة عند المدعوين وينفع الله بعلمه. والله أعلم (1).
عاشرا: من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة الفتح: ظهر ذكر غزوة الفتح في هذين الحديثين؛ لقول مجاشع رضي الله عنه: " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بأخي بعد الفتح فقلت: يا رسول الله جئتك بأخي تبايعه على الهجرة. . . " وهذا يؤكد أهمية ذكر تاريخ الدعوة، والله أعلم (2).
(1) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث، ورقم 9، الدرس الرابع.
(2)
انظر: الحديث رقم 171، الدرس الثاني.