الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
13 -
بَاب: عَمل صالح قَبْلَ القِتَال
وَقَالَ أَبو الدَّرْدَاءِ: إِنَّمَا تقَاتِلونَ بِأَعْمَالِكمْ، وَقَوْله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ - كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ - إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 2 - 4](1).
[حديث عمل قليلا وأجر كثيرا]
30 -
[2808] حَدَّثَنِي محَمَّد بْن عَبْدِ الرَّحِيمِ: حَدَّثَنَا شَبَابَة بْن سَوَّارٍ الفَزَارِيّ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيل، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْت الْبَراءَ رضي الله عنه (2). يَقول: «أتى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجل (3). مقَنَّع بِالحَدِيدِ فَقَالَ: يَا رَسولَ اللهِ، أقَاتِل وأسلِم؟ (4). قَالَ: " أَسْلِمْ ثمَّ قَاتِلْ "، فَأَسْلَمَ ثَمَّ قَاتَلَ فَقتِلَ. فَقَالَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: " عَمِلَ قَلِيلا وَأجِرَ كَثيرا» (5).
* شرح غريب الحديث: * " مقنع بالحديد ": هو المتَغطِّي بالسلاح، ويقال: تقنّع بثوبه: أي تَغَطَّى به، وقيل: هو الذي على رأسه بيضة، وهي الخوذة؛ لأن الرأس موضع القناع (6).
(1) سورة الصف، الآيات (2 - 4).
(2)
البراء بن عازب بن الحارث الفقيه الكبير أبو عمارة الأنصاري من أعيان الصحابة، رضي الله عنهم، استصغره النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وأول مشاهده يوم أحد، وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة غزوة، وشهد مع أبي موسى غزوة تستر، ومع علي بن أبي طالب رضي الله عنه الجمل وصفين، والنهروان، وروي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وخمسة أحاديث اتفق البخاري ومسلم منها على اثنين وعشرين، وانفرد البخاري بخمسة عشر، ومسلم بستة، نزل الكوفة وتوفى بها زمن مصعب بن الزبير سنة اثنتين وسبعين، وقيل: توفى سنة إحدى وسبعين عن بضع وثمانين سنة رضي الله عنه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1/ 132، وسير أعلام النبلاء للذهبي 3/ 194، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1/ 142.
(3)
هو عمرو بن ثابت بن وقيش، ويقال: ابن أقيش، كان يلقب أصيرم، الأنصاري، رضي الله عنه، وكان أبو هريرة يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة ولم يصلِّ صلاة قط؛ فإذا لم يعرفه الناس يسألوه [وفي نسخة: يسألونه] من هو؟ فيقول: هو أصيرم بني عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن أقيش رضي الله عنه. الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2/ 526، وانظر: فتح الباري له أيضا، 6/ 25.
(4)
في الطبعة السلفية المطبوعة مع فتح الباري لابن حجر " أقاتل أو أسلم " أما جميع الطبعات لصحيح البخاري الأخرى التي اطلعت عليها فبحذف الألف " أقاتل وأسلم ".
(5)
وأخرجه مسلم، في كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، 3/ 1509، برقم 1900.
(6)
انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 130، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع النون، مادة:" قنع " 4/ 114.
الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 -
من صفات الداعية: استصحاب النية الصالحة.
2 -
أهمية المبادرة والمسارعة إلى الخير.
3 -
من أساليب الدعوة: الترغيب.
4 -
أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه.
5 -
الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: استصحاب النية الصالحة: دل قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: " عمل قليلا وأجر كثيرا " على أن النية الصالحة أعظم الصفات الحميدة، وأن الإنسان يثاب على العمل القليل الثواب العظيم الكثير بهذه النية؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:" وفي هذا الحديث أن الأجر الكثير قد يحصل بالعمل اليسير، فضلا من الله وإحسانا "(1). وقال العلامة العيني رحمه الله: ". . . فاستحق بهذا نعيم الأبد في الجنة بإسلامه، وإن كان عملا قليلا؛ لأنه اعتقد أنه لو عاش لكان مؤمنا طول حياته، فنفعته نيته، وإن كان قد تقدمها قليل من العمل، وكذلك الكافر إذا مات ساعة كفره يجب عليه التخليد في النار؛ لأنه انضاف إلى كفره اعتقاد أنه يكون كافرا طول حياته؛ لأن الأعمال بالنيات "(2).
وهذا يبيِّن للداعية وغيره من المسلمين أهمية النية الصالحة الخالصة لله عز وجل (3).
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6/ 25.
(2)
عمدة القاري بشرح صحيح البخاري 14/ 106.
(3)
انظر: الحديث رقم 22، الدرس السادس.
ثانيا: أهمية المبادرة والمسارعة على الخير. دل هذا الحديث على المسارعة إلى الخير، قال الإمام النووي رحمه الله:" وفيه المبادرة إلى الخير "(1). والمسارعة والمبادرة إلى الخير من الأعمال الصالحة التي يبادر إليها أهل الإيمان وخاصة الدعاة إلى الله، سبحانه وتعالى، وقد أمر الله عز وجل بالمسارعة إلى الخير فقال:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133](2) وقال عز وجل {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21](3).
وقد مدح الله السابقين إلى الخيرات، وعظم شأنهم فقال سبحانه وتعالى أثناء ذكره لصفات المؤمنين الكمَّل:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ - أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 60 - 61](4). وقال سبحانه وتعالى: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 114](5).
وقال عز وجل في الثناء على زكريا وأهله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90](6). وهذا يبين للداعية إلى الله عز وجل وغيره من المسلمين أهمية المبادرة إلى الخيرات والمسابقة إليها والمسارعة (7).
ثالثا: من أساليب الدعوة: الترغيب: في هذا الحديث الترغيب في النية الصالحة، وأن العمل القليل الخالص
(1) شرح النووي على صحيح مسلم، 13/ 48.
(2)
سورة آل عمران، الآية:(133).
(3)
سورة الحديد، الآية:(21).
(4)
سورة المؤمنون، الآية:(60 - 61).
(5)
سورة آل عمران، الآية:(114).
(6)
سورة الأنبياء، الآية (90).
(7)
انظر: الحديث رقم 16، الدرس الثاني.
لله عز وجل يكون كثيرا في الثواب والجزاء؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل الذي لم يصلِّ لله ركعة واحدة، وإنما أسلم فقاتل فقتل:«عمل قليلا وأجر كثيرا» وفي هذا الحديث الترغيب في الجهاد، وأن من قتل في سبيل الله لإِعلاء كلمته عز وجل فله الجنة؛ «وقد قال رجل: أين أنا يا رسول الله إن قتلت؟ قال: " في الجنة " فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل» (1).
قال الإمام النووي رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وفيه ثبوت الجنة للشهيد "(2).
فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يستخدم هذا الأسلوب في دعوته إلى الله سبحانه وتعالى (3).
رابعا: أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه: دل الحديث على أهمية السؤال عن العلم؛ لأن هذا الرجل عندما أشكل عليه هل يسلم قبل أن يقاتل أو يقاتل ثم يسلم؟ فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم فبيَّن له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أسلم ثم قاتل» وهذا يوضح أهمية السؤال عن العلم، وما لا يفهمه الإِنسان؛ ولأهمية السؤال عن العلم قال ابن شهاب رحمه الله:" العلم خزائن ومفاتيحها السؤال "(4). وكان الأصمعي رحمه الله ينشد:
شفاء العمى طول السؤال وإنما
…
تمام العمى طول السكوت على الجهل (5)
وقال آخر:
إذا كنت لا تدري ولم تك بالذي
…
يسائل من يدري فكيف إذن تدري
؟ (6). وقال وهب بن منبه وسليمان بن يسار رحمهما الله: " حسن المسألة نصف العلم "(7). وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " لا يخاف العبد إلا ذنبه، ولا يرجو
(1) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، 13/ 48.
(2)
شرح صحيح مسلم 13/ 48.
(3)
انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر، ورقم 18، الدرس الخامس.
(4)
أخرجه ابن عبد البر، في جامع ببان العلم وفضله، 1/ 379، برقم 534.
(5)
المرجع السابق 1/ 380، برقم 538.
(6)
المرجع السابق 1/ 381، برقم 540.
(7)
أخرجه ابن عبد البر، في جامع بيان العلم وفضله، 2/ 382، برقم 544.
إلا ربه، ولا يستحي جاهل أن يسأل، ولا يستحي عالم إن لم يعلم أن يقول: الله أعلم " (1).
وهذا يبين أهمية السؤال عن العلم والعناية بذلك (2).
خامسا: الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل: في هذا الحديث أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، وذلك أن هذا الرجل تقنع بالحديد، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأقره على ذلك، ولا شك أن التوكل يقوم على ركنين: اعتماد القلب على الله، عز وجل، والعمل بالأسباب المشروعة. يقال: وكلت أمري إلى الله: ألجأته إليه واعتمدت فيه عليه (3). وقد بين ابن القيم رحمه الله أن من نفى الأسباب لا يستقيم له توكل؛ لأن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه، فهو كالدعاء الذي جعله الله سببا في حصول المدعو به، فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل، ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب، وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها، وحال بدنه قيامه بالأسباب، فالأسباب محل حكمة الله وأمره ودينه، والتوكل متعلق بربوبيته، وقضائه وقدره، فلا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل، ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية، والله عز وجل أعلم (4).
فينبغي للداعية وغيره من المسلمين أن يتوكل على الله عز وجل ويعمل بالأسباب التي شرعها الله عز وجل؛ قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23](5) وقال عز وجل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58](6)
(1) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، 1/ 383، برقم 547.
(2)
انظر: الحديث رقم 19، الدرس الرابع.
(3)
انظر: مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، مادة:" وكل " ص 882. والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع الكاف، مادة: " وكل " 5/ 221.
(4)
انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 2/ 118، 120.
(5)
سورة المائدة، الآية:(23).
(6)
سورة الفرقان، الآية:(58).
وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3](1) وقال صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا» (2).
وعن أنس رضي الله عنه قال: «قال رجل: يا رسول الله، أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: " اعقلها وتوكل» (3).
(1) سورة الطلاق، الآية:(3).
(2)
الترمذي، كتاب الزهد، باب في التوكل على الله 4/ 573، برقم 2344، وقال:" هذا حديث حسن صحيح "، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب التوكل واليقين، 2/ 1394، برقم 4164، وصححه الألباني في صحيح الترمذي 2/ 274.
(3)
الترمذي، كتاب القيامة، باب، حدثنا عمرو بن علي، 4/ 668، برقم 2517. وحسنه الألباني في صحيح الترمذي 2/ 309.