الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
131 -
باب مَا يكره مِنْ رفع الصوت في التكبير
[حديث أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا]
110 -
[2992] حَدَّثَنَا محَمَّد بْن يوسفَ: حَدَّثَنَا سفْيَان، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عثْمَانَ، عَنْ أَبِي موسَى الأشعري (1) رضي الله عنه، قَالَ:«كنَّا مَعَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَكنَا إِذَا أشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرنَا، ارْتَفَعَتْ أصوَاتنَا. فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: يَا أيهَا النَّاس، ارْبَعوا عَلَى أَنْفسِكمْ، فَإِنَكمْ لَا تَدْعونَ أَصَمَّ، وَلَا غَائِبا، إِنَّه مَعَكمْ، إِنَّه سَمِيع قَرِيب، تَبَارَكَ اسْمه، وَتَعَالَى جَدّه» (2).
وفي رواية: «كنَّا مَعَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ فَجَعَلْنَا لَا نَصْعَد شَرَفا، وَلَا نَعْلو شَرَفا، وَلَا نَهْبِط فِي وَادٍ إِلَاّ رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا بِالتَّكْبِيرِ، قَالَ: فَدَنَا مِنّا رَسول اللهِ
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 66.
(2)
[الحديث 2992] أطرافه في: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 5/ 89، برقم 4205. وكتاب الدعوات، باب الدعاء إذا علا عقبة، 7/ 209، برقم 6384. وكتاب الدعوات، باب قول لا حول ولا قوة إلا بالله، 7/ 217، برقم 6409. وكتاب القدر، باب لا حول ولا قوة إلا بالله، 7/ 271، برقم 6610. وكتاب التوحيد، باب (وكَاَنَ الله سميعا بَصِيرا)، 8/ 212، برقم 7386. وأخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، 4/ 2076، برقم 2704.
(3)
الطرف رقم: 4205.
(4)
الطرف رقم: 6409.
صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " يَا أَيّهَا النَّاس ارْبَعوا عَلَى أَنْفسِكمْ فَإِنَّكمْ لَا تَدْعونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبا، إِنَّمَا تَدْعونَ سَمِيعا بَصِيرا.» (1).
* شرح غريب الحديث: * " اربعوا على أنفسكم " أي ارفقوا بها واخفضوا أصواتكم. (3).
* " عقبة " والعقبة المرقى الصعب في الجبال (4).
* " أو ثنية " الثنية في الأرض: طريق بين جبلين، وقيل: الثنية في الجبل: كالعقبة فيه، وقيل: هو الطريق العالي فيه، وقيل أعلى السيل في رأسه (5).
* " لا نصعد شرفا " الشرف من الأرض العالي، ومشارف الأرض أعاليها، وشَرَف كلّ شيءٍ أعلاه (6).
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 -
حرص الصحابة رضي الله عنهم على ذكر الله عز وجل.
2 -
من موضوعات الدعوة: بيان صفات الله عز وجل.
(1) الطرف رقم: 6610.
(2)
الطرف رقم: 7386.
(3)
انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 81، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الباء، مادة:" ربع " 2/ 187، وشرح الكرماني على صحيح البخاري، 23/ 81.
(4)
المعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية، مادة:" عقب " 2/ 613.
(5)
انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 192، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الثاء مع النون، مادة:" ثنا " 1/ 226.
(6)
تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 192.
3 -
محبة الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 -
من أساليب الدعوة: السؤال والجواب.
5 -
من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: إخباره بالأمور الغيبية.
6 -
من صفات الداعية: الحرص على زيادة الخير للمدعو.
7 -
من موضوعات الدعوة: الحث على ذكر الله عز وجل.
8 -
من موضوعات الدعوة: الحض على خفض الصوت بالذكر إلا ما شرع الجهر به.
9 -
من صفات الداعية: الاستسلام لله وتفويض الأمور إليه عز وجل.
10 -
من صفات الداعية: التواضع.
11 -
من أساليب الدعوة: التشبيه.
12 -
من أساليب الدعوة: الترغيب.
13 -
من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: حرص الصحابة رضي الله عنهم على ذكر الله عز وجل: دل هذا الحديث على حرص الصحابة رضي الله عنهم على ذكر الله عز وجل ولهذا قال أبو موسى رضي الله عنه: " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنا إذا أشرفنا على وادٍ هللنا وكبَّرنا ارتفعت أصواتنا " ومما يدل على حرصهم رضي الله عنهم أيضا، ما كان يقوله أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن نفسه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى عليه وهو يقول في نفسه:" لا حول ولا قوة إلا بالله. . . ".
فينبغي للمسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل أن يكون حريصا على ذكر الله عز وجل في كل أحواله؛ في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، وفي السفر والحضر، حتى يحصل على الثواب العظيم، ويكون قدوة لغيره؛ وقد مدح الله أصحاب العقول السليمة وبين أن من صفاتهمِ ذكر الله عز وجل في كل أحوالهم، قال الله عز وجل:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ - الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190 - 191](1).
(1) سورة آل عمران، الآيات 190 - 191.
وهذا يؤكد حرصهم على ذكر الله سبحانه وتعالى في كل أحوالهم (1).
ثانيا: من موضوعات الدعوة: بيان صفات الله عز وجل: دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة، بيان صفات الرب عز وجل من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:«يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبا إنه سميع قريب تبارك اسمه وتعالى جده» وفي الرواية الأخرى: «وهو معكم» وفي الرواية الثالثة: «سميعا بصيرا» وهذا يؤكد على أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى إثبات صفات الكمال لله عز وجل، ولا ريب أنه ينبغي للداعية أن يبين للمدعوين صفات الكمال، فيحث المدعوين على أن يثبتوا ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وينفوا ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن صفات الكمال التي وردت في هذا الحديث: السمع، والبصر، والمعية، والقرب، وقد أثبت الله ذلك لنفسه فقال عز وجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11](2).
فله سبحانه وتعالى سمع وبصر يليق بجلاله، لا كسمع خلقه ولا بصرهم بل أحاط سمعه بجميع المسموعات وبصره بجميع المخلوقات؛ فهو يسمع ويبصر كل شيء وإن خفي ظاهرا وباطنا (3) وقوله صلى الله عليه وسلم:«وهو معكم» المعية المعيتان: معية عامة لجميع المخلوقات، وهذه المعية من صفات الله الذاتية التي لا تنفك عن الله عز وجل، ومقتضى هذه المعية العلم والإحاطة والاطلاع لقول الله عز وجل:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4](4).
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 17/ 28، وفتح الباري لابن حجر 6/ 135، وعمدة القاري للعيني 14/ 244، والمنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود، لمحمود محمد خطاب السبكي 8/ 189.
(2)
سورة الشورى، الآية 11.
(3)
انظر فتاوى ابن تيمية، 3/ 134، وتوضيح الكافية الشافية، للسعدي ص 117، وشرح العقيدة الواسطية، لمحمد بن عثيمين 1/ 206.
(4)
سورة الحديد، الآية 4.
ومعية خاصة لأهل الإِيمان والتقوى، ومقتضاها: الحفظ، والعناية، والنصرة، والتوفيق، كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128](1) وقوله {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249](2) والمعية الخاصة من الصفات الفعلية (3) وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنه سميع قريب» قال الله عز وجل: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61](4).
فمن أسماء الله سبحانه وتعالى " القريب "، ومن صفاته القرب، وقربه عز وجل نوعان: قرب عام، وهو إحاطة علمه بجميع الأشياء، وهو أقرب للإِنسان من حبل الوريد، وهو بمعنى المعية العامة. وقرب خاص بالداعين، والعابدين، والمحبين، وهو قرب يقتضي المحبة والنصرة، والتأييد في الحركات والسكنات، والإِجابة للداعين، والقبول والإِثابة للعابدين (5) قال الله عز وجل:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186](6).
وإذا فهم القرب بهذا المعنى في العموم والخصوص لم يكن هناك تعارض أصلا بينه وبين ما هو معلوم من وجوده تعالى فوق عرشه، فسبحان من هو عليّ في دنوّه قريب في علوِّه (7).
فينبغي للداعية أن يوضح هذه العقيدة للمدعوين والله ولي التوفيق (8).
ثالثا: محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الصحابة رضي الله عنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أنفسهم، وأولادهم،
(1) سورة النحل، الآية 128.
(2)
سورة البقرة، الآية 249.
(3)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 5/ 103 - 104.
(4)
سورة هود، الآية 61.
(5)
انظر: الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية للسعدي ص 64، وشرح العقيدة الواسطية لابن عثيّمين 1/ 400.
(6)
سورة البقرة، الآية 186.
(7)
انظر: شرح القصيدة النونية لابن القيم، للدكتور محمد خليل الهراس 2/ 92، وتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد، شرح قصيدة ابن القيم، لأحمد بن إبراهيم بن عيسى 2/ 229.
(8)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 5/ 5 - 121 [الفتوى الحموية الكبرى] و 3/ 129 - 159 [العقيدة الواسطية] وانظر: الحديث رقم 39، الدرس الأول.
ووالديهم، والناس أجمعين؛ ولهذا قال عبد الله بن قيس للنبي صلى الله عليه وسلم عندما ناداه:" لبيك رسول الله " وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ". . . يا رسول الله فداك أبي وأمي ".
فينبغي الاقتداء بالصحابة رضي الله عنهم في حب رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1).
رابعا: من أساليب الدعوة: السؤال والجواب: لا ريب أن السؤال والجواب من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل؛ وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن قيس في هذا الحديث ثم أجابه، فقال:«يا عبد الله بن قيس» فقال عبد الله رضي الله عنه: لبيك رسولَ الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلك على كلمة من كنز من كنوز الجنة» ؟ " فقال عبد الله رضي الله عنه: بلى يا رسول الله فداك أبي وأمي. فقال صلى الله عليه وسلم: «لا حول ولا قوة إلا بالله» وهذا يدل على أهمية سؤال الداعية للمدعو؛ ليشد انتباهه ويلقي سمعه، ثم يجيبه على السؤال.
فينبغي العناية بالسؤال والجواب عند الحاجة إليه (2).
خامسا: من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم إخباره بالأمور الغيبية: ظهر في هذا الحديث أن عبد الله بن قيس رضي الله عنه بين أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى عليه وهو يقول في نفسه: " لا حول ولا قوة إلا بالله " فقال: «يا عبد الله بن قيس: " قل: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها كنز من كنوز الجنة» وظاهره يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على ما أخفاه عبد الله من الذكر وكشفه له فأخبره صلى الله عليه وسلم بفضل هذا الذكر (3) والله أعلم (4).
سادسا: من صفات الداعية: الحرص على زيادة الخير للمدعو: إن من صفات الداعية الحرص على زيادة الخير للمدعو؛ ولهذا عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يرفعون أصواتهم بالتكبير، زادهم صلى الله عليه وسلم علما وخيرا، وهو إخبارهم بأن الله يسمع ذكرهم، وهو معهم وقريب منهم، وهذا يفيد الداعي
(1) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثامن، وحديث رقم 63، الدرس الثامن.
(2)
انظر: الحديث رقم 58، الدرس الرابع.
(3)
انظر: مرقاة المفاتيح للملا علي القاري 5/ 132.
(4)
انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع.
والذاكر استحضار عظمة الله ومراقبته، فيحصل بذلك الإِخلاص والخشوع (1) وزادهم صلى الله عليه وسلم ذكرا آخر هو كنز من كنوز الجنة:«لا حول ولا قوة إلا بالله» ؛ ولهذا نقل ابن حجر رحمه الله عن ابن بطال رحمه الله أنه قال: " كان عليه السلام معلما لأمته، فلا يراهم على حالة من الخير إلا أحب لهم الزيادة، فأحب للذين رفعوا أصواتهم بكلمة الإِخلاص والتكبير أن يضيفوا إليها التبري من الحول والقوة، فيجمعوا بين التوحيد والإِيمان بالقدر "(2).
سابعا: من موضوعات الدعوة: الحث على ذكر الله عز وجل: دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة الحث على ذكر الله عز وجل، وتعليم الناس الأذكار النافعة، والدعوات الجامعة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لعبد الله بن قيس رضي الله عنه «ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله» وقد أمر الله عز وجل بذكره فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا - وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41 - 42](3) وقال عز وجل: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205](4).
فينبغي للداعية أن يحض الناس على ذكر الله عز وجل، ويرغبهم في ذلك؛ ليحصلوا على الثواب العظيم والأجر الجزيل.
ثامنا: من موضوعات الدعوة: الحض على خفض الصوت بالذكر إلا ما شرع الجهر به: ظهر في هذا الحديث أن الحض على خفض الصوت بالذكر من موضوعات الدعوة إلى الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:«يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبا إنه معكم، إنه سميع قريب تبارك اسمه وتعالى جدّه» وهذا فيه حث على خفض الصوت بالذكر؛ لأن الله عز وجل سميع قريب مجيب لا تخفى عليه خافية؛ وقد جاء في رواية لمسلم لحديث
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 17/ 29.
(2)
نقلا عن فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 11/ 501.
(3)
سورة الأحزاب، الآيتان 41 - 42.
(4)
سورة الأعراف، الآية 205.
الباب: «والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم» (1).
وقد أمر الله عز وجل بإخفاء الصوت بالدعاء فقال عز وجل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55](2) فينبغي للداعية أن يحث الناس على خفض الصوت بالذكر إلا ما ورد الشرع برفعه والجهر به: كالتلبية في إحرام الحج والعمرة؛ والذكر أدبار الصلوات، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:«كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير» وفي لفظ: «أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة، كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته» (3) وكذلك ما ورد من الجهر بالذكر في التلبية وغيرها مما شرع الرفع به (4) قال النووي رحمه الله في فوائد حديث عبد الله بن قيس رضي الله عنه: ". . . . فيه الندب إلى خفض الصوت بالذكر إذا لم تدع الحاجة إلى رفعه؛ فإنه إذا خفضه كان أبلغ في توقيره وتعظيمه، فإن دعت الحاجة إلى الرفع رفع كما جاءت به الأحاديث ". (5).
تاسعا: من صفات الداعية: الاستسلام لله وتفويض الأمور إليه: دل الحديث على أنه ينبغي لكل مسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل أن يستسلم لله ويفوض أموره إليه عز وجل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن قيس: «قل لا حول ولا قوة إلا بالله» قال الإِمام النووي رحمه الله: " الحول: الحركة والحيلة: أي لا حركة ولا استطاعة، ولا حيلة إلا بمشيئة الله تعالى، وقيل معناه: لا حول في رفع شر، ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله، وقيل: لا حول عن معصية الله إلا بعصمته، ولا قوة على طاعته إلا بمعونته، وحكِيَ هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه، وكله
(1) مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر إلا في المواضع التي ورد الشرع برفعه فيها كالتلبية وغيرها، 4/ 2077 برقم 2704.
(2)
سورة الأعراف، الآية 55.
(3)
متفق عليه: البخاري، كتاب الآذان، باب الذكر بعد الصلاة، 1/ 229، برقم 841، 842، ومسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الذكر بعد الصلاة، 1/ 410، برقم 583.
(4)
انظر: شرح النووي على صحيح مسلم: 17/ 29، وفتح الباري لابن حجر، 6/ 135.
(5)
شرح النووي على صحيح مسلم 17/ 29، وانظر: تحقيق الكلام في مشروعية الجهر بالذكر بعد السلام، لسليمان بن سحمان ص 13 - 34.
متقارب " (1) وقال الكرماني رحمه الله: " لا حول ولا قوة إلا بالله: كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى، ومعناه؛ لا حيلة في رفع شر، ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله ". (2).
فينبغي للعبد أن يتبرأ من كل حول ومن كل قوة، ومن أي استطاعة، إلا أن يكون المعين هو الله عز وجل، فهو صاحب الحول الكامل وصاحب الطول والقوة، ولا شك أن العبد له إرادة وقدرة وفعل، ولكن ذلك لا يخرج عن إرادة الله عز وجل ومشيئته، فالله سبحانه وتعالى يطلب من عبده العمل الصالح، والعبد يريده ويعمله ويسأل الله الإِعانة عليه، ويتبرأ من حوله وقوته، ويسلم الأمور إلى الله عز وجل لا معطي لما منع ولا مانع لما أعطي، لا إله غيره ولا رب سواه، ولا حول ولا قوة إلا به سبحانه وتعالى (3).
عاشرا: من صفات الداعية: التواضع: لا شك أن هذا الحديث دل على صفة التواضع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ركب على بغلة، وهو أفضل الخلق ومع ما أعطاه الله من الفضل والمكانة العالية لم يترفع عن ركوبها، وإلا فقد كان عنده من الخيل والإِبل ما يركب عليه، ولهذا قال عبد الله بن قيس رضي الله عنه:«نادى رجل فرفع صوته: لا إله إلا الله والله أكبر، قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته. . .» . فينبغي للداعية أن يكون متواضعا اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم (4).
الحادي عشر: من أساليب الدعوة: التشبيه: ظهر في هذا الحديث أسلوب التشبيه في قوله صلى الله عليه وسلم: «قل لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها كنز من كنوز الجنة» وذكر الطيبي رحمه الله أن المشبه الحوقلة " لا حول ولا قوة إلا بالله " والمشبه به الكنز، " فإنها كنز من كنوز الجنة " (5) وقال الكرماني رحمه الله:" كنز: أي كالكنز في كونه أمرا نفيسا مدخرا مكنونا عن أعين الناس "(6).
(1) شرح النووي على صحيح مسلم، 17/ 31، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 11/ 501.
(2)
شرح صحيح البخاري 22/ 171، وانظر: المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود، للسبكي 8/ 188.
(3)
انظر: سبل السلام شرح بلوغ المرام للصنعاني 4/ 1627، وتوضيح الأحكام من بلوغ المرام، للبسام، 6/ 415.
(4)
انظر: الحديث رقم 33، الدرس الحادي عشر، ورقم 62، الدرس الثالث.
(5)
انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 6/ 1824، وانظر: شرح السندي على سنن ابن ماجه 4/ 259.
(6)
شرح صحيح البخاري للكرماني، 22/ 171، وانظر: 22/ 189، 23/ 82.
وهذا يدل على أهمية التشبيه، وأنه أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل يستخدم عند الحاجة إليه (1).
الثاني عشر: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترغيب؛ لترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في الحوقلة وفضلها وأنها كنز من كنوز الجنة، قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن قيس:«قل لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة» قال النووي رحمه الله: " قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام، وتفويض إلى الله تعالى، واعتراف بالإِذعان له، وأنه لا صانع غيره، ولا راد لأمره، وأن العبد لا يملك شيئَاَ من الأمر، ومعنى الكنز هنا أنه ثواب مدخر في الجنة، وهو ثواب نفيس، كما أن الكنز أنفس أموالكم "(2).
وهذا يؤكد أهمية الترغيب في الدعوة إلى الله عز وجل (3).
الثالث عشر: من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث: دل هذا الحديث على أن الحرص على الدقة في نقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصفات الجميلة والأعمال الجليلة؛ لأن الراوي قال: «أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في عقبة أو قال ثنية» قال الكرماني رحمه الله: " شك الراوي في اللفظ على مذهب من يحتاط ويريد نقل اللفظ بعينه "(4) وثبت في هذا الحديث أيضا: «يا عبد الله بن قيس قل: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها كنز من كنوز الجنة "، أو قال: " ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة؛ لا حول ولا قوة إلا بالله» ، فقول الراوي: أو قال: يدل على حرصه عل الدقة في نقل الحديث.
وهذا يؤكد على أهمية الاتصاف بالحرص على الدقة في نقل الحديث (5).
(1) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الرابع، ورقم 19، الدرس الخامس.
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم، 17/ 30، وانظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري، 23/ 82، وفتح الباري لابن حجر، 11/ 188، 501.
(3)
انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر.
(4)
شرح الكرماني على صحيح البخاري، 22/ 188، 25/ 108، وانظر: عمدة القاري للعيني 23/ 29.
(5)
انظر: الحديث رقم 21، الدرس العاشر.