الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
52 -
باب من قاد دابة غيره في الحرب
[حديث أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب]
61 -
[2864] حَدَّثَنَا قتَيْبَة: حَدَّثَنَا سَهْل بْن يوسفَ، عَنْ شعْبَة، عَنْ أَبِي إسْحَاقَ:«قَالَ رَجل لِلْبَراءِ بْنِ عَازِبٍ (1) رضي الله عنهما: أَفَرَرْتمْ عَنْ رَسولِ الله يَوْمَ حنَيْنٍ؟ قَالَ: لَكِنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفِرَّ، إِنَّ هَوَازِنَ كَانوا قوما رماة، وَإِنَّا لَمَّا لقِيَناهمْ حَمَلْنَا عَليْهم فانْهَزَموا، فَأَقْبَلَ المسْلِمونَ عَلَى الغَنَائِمِ، فَاسْتَقْبَلونَا بِالسِّهَامِ، فَأَمَّا رَسول الله صلى الله عليه وسلم فلَمْ يَفِرَّ، فَلَقَدْ رَأَيْته وَإنَّه لَعَلَى بَغْلَتِه الْبَيْضَاءِ، وَإِنَّ أَبَا سفْيَانَ (2) آخِذ بِلِجَامِها وَالنَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقولَ: " أَنَا النَّبِي لَا كذِبْ، أَنَا ابْن عبْدِ المطَّلِبْ» (3).
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 30.
(2)
أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختلف في اسمه، فقيل: اسمه المغيرة، وقال آخرون: اسمه كنيته لا اسم له غيرها، وهو أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة أرضعتهما حليمة السعدية، وكان يشبه النبي صلى الله عليه وسلم هو وجعفر بن أبي طالب، والحسن بن علي وقثم بن العباس رضي الله عنهم أجمعين، وكان شاعرا، أسلم رضي الله عنه قبل يوم الفتح والنبي صلى الله عليه وسلم في الطريق إلى الفتح، وشهد حنينا، وثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبلى فيها بلاء حسنا، توفي بالمدينة سنة عشرين وصلى عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل توفي سنة خمس عشرة.
انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2/ 239، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 4/ 90.
(3)
[الحديث 2864] أطرافه في: كتاب الجهاد والسير، باب بغَلة النبي صلى الله عليه وسلم البيضاء، 3/ 290، برقم 2874. وكتاب الجهاد والسير، باب من صف أصحابه عند الهزيمة، ونزل عن دابته واستنصر، 3/ 306، برقم 2930. وكتاب الجهاد والسير، باب من قال: خذها وأنا ابن فلان، 4/ 35، برقم 3042. وكتاب المغازي، باب قول الله تعالى وَيَوْمَ حنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكمْ كَثْرَتكمْ فَلَمْ تغْنِ عَنْكمْ شَيْئا وَضَاقَتْ عَلَيْكم الْأَرْض بِمَا رَحبَتْ ثمَّ وَلَّيْتمْ مدْبِرِينَ ثمَّ أَنْزَلَ اللَّه سَكِينَتَه إلى قوله غفور رحيم، 5/ 116، برقم 4315 و 4316 و 4317. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين، 3/ 1400، برقم 1776.
(4)
الطرف رقم 2930.
وفي رواية: «فَلَمَّا غَشِيَه المشْرِكون نَزلَ فَجَعَلَ يَقول: أَنا النَّبِي لَا كَذِبْ، أَنَا ابْن عَبْدِ المطَّلِبْ» ، قَالَ:" فَمَا رؤي مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَشَدّ مِنْه "(1) يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: «كَانَتْ هَوَازِن رمَاة وإِنَّا لَمَّا حَملْنَا عَلَيْهم انْكَشَفوا فَأَكْبَبْنَا على الْغَنَائِمِ، فَاسْتقْبِلْنَا بِالسِّهَامِ. .» (2).
* شرح غريب الحديث: * " وخفافهم " الأخفاء: السراع المسرعون (4).
* " حسَّرا " الحسَّر: الذين لا دروع عليهم (5).
* " فرشقوهم رشقا " هو الوجه من الرمي إذا رمى القوم كلهم دفعة واحدة، فإذا رمى القوم بأجمعهم، قالوا: رمينا رِشقا، وأما الرشق بفتح الراء فهو المصدر، يقال: رَشقت بالسَّهم رَشقا، والرَّشْق أيضا: الصوت، تقول: سمعت رَشْقَ كذا: أي صوته (6).
* " سَرَعان القوم " السَّرَعان بفتح السين والراء: أوائل الناس الذين يتسارعون إلى الشيء ويقبلون عليه بسرعة (7).
* " انكشفوا " أي انهزموا وانكشفت عنهم جنَّتهم (8).
(1) الطرف رقم 3042.
(2)
الطرف رقم 4317.
(3)
من الطرف رقم 4315.
(4)
تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 127.
(5)
المرجع السابق ص 127.
(6)
انظر: المرجع السابق ص 128، 538، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الشين، مادة:" رشق " 2/ 225.
(7)
النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع الراء، مادة " سرع " 2/ 361.
(8)
تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 128.
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 -
من موضوعات الدعوة: الحث على الشجاعة والثبات في الجهاد في سبيل الله عز وجل.
2 -
شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وثباته.
3 -
من أسباب نصر الدعاة: عدم الإِعجاب بالكثرة أو القوة.
4 -
من صفات الداعية: حسن الأدب في الجواب.
5 -
من صفات الداعية: الاستنصار بالله عز وجل.
6 -
خطر حرص المدعو على الدنيا.
7 -
من أساليب الدعوة: التوكيد بالقسم.
8 -
من أساليب الدعوة: الرَّجَز.
9 -
من أساليب الدعوة: بيان الداعية مناقبه عند الحاجة.
10 -
من أساليب الدعوة: قول الداعية عند الحاجة: أنا فلان، وأنا ابن فلان.
11 -
من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
12 -
الابتلاء والاختبار في الدعوة إلى الله عز وجل.
13 -
من أصناف المدعوين: المشركون.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على الشجاعة والثبات في الجهاد في سبيل الله عز وجل: دل الحديث على الحث على الشجاعة والثبات في الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أشجع الناس في الجهاد في سبيل الله عز وجل وأثبتهم قلبا وقدما، وهذا فيه تحريض وحث على الجهاد والثبات في المعركة؛ قال الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45](1).
وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم أهل الشجاعة والثبات في الجهاد حثا على ذلك فقال
(1) سورة الأنفال، الآية:45.
عن نبي الله داود صلى الله عليه وسلم: «كان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفر إذا لاقى» (1).
فينبغي للداعية أن يحث الناس ويحضهم على الشجاعة والثبات في سبيل الله عز وجل.
ثانيا: شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وثباته: دل الحديث على شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وقوة قلبه في ذلك؛ ولهذا قاتل في معركة حنين قتالا عظيما، ومما يدل على شجاعته وإقدامه صلى الله عليه وسلم ما فعله في جميع غزواته التي قاتل فيها، فقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة، قاتل في ثمان منهن (2) بل ذكر الإِمام النووي وغيره أنه كان عدد سراياه التي بعثها ستا وخمسين سرية، وسبعا وعشرين غزوة، وقاتل في تسعِ من غزواته (3).
ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدوِّ، وكان من أشدِّ الناس يومئذٍ بأسا» (4).
وقال علي رضي الله عنه: «كنا إذا حمي البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يكون أحد منا أدنى إلى القوم منه» (5) وقال البراء رضي الله عنه: «كنا والله إذا احمر البأس (6) نتقي به وإن الشجاع منا للذي يحاذي به» ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم " (7) وركوبه على البغلة في معركة حنين وغيرها يدل على شجاعته؛ ولهذا ذكر العلماء: أن ركوبه صلى الله عليه وسلم البغلة في موطن الحرب وعند اشتداد البأس: هو النهاية في الشجاعة والثبات؛ لأن ركوب الفحولة أو الفرس مظنة الاستعداد للفرار
(1) البخاري، كتاب الصوم، باب حق الأهل في الصوم، 2/ 300، برقم 1977.
(2)
صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما، 3/ 1448، برقم 1814.
(3)
شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 436، وانظر: البداية والنهاية لابن كثير 3/ 241، 5/ 216 - 217، وزاد الميعاد لابن القيم 3/ 5.
(4)
أحمد في المسند 1/ 86، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 2/ 143.
(5)
الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي 2/ 143، وعزاه ابن كثير في البداية والنهاية 3/ 279 إلى النسائي.
(6)
إذا احمر البأس: كناية عن شدة الحرب، واستعير ذلك؛ لحمرة الدماء الحاصلة فيها في العادة. انظر: شرح النووي 12/ 364.
(7)
صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين، 3/ 1401، برقم 1776.
والتولي (1) ونزوله صلى الله عليه وسلم إلى الأرض حين غشوه يدل على المبالغة في الثبات، والشجاعة والصبر (2) دل على ذلك رواية لمسلم عن سلمة رضي الله عنه قال فيها:«مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما (3) وهو على بغلته الشهباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد رأى ابن الأكوع فزعا "، فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل به وجمره القوم فقال: " شاهت الوجوه " (4). فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة، فولّوا مدبرين، فهزمهم الله عز وجل، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين (5)» .
وقد كان صلى الله عليه وسلم شجاعا في حماية أصحابه في غير معارك القتال أيضا، فعن أنس رضي الله عنه قال:«كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قِبَلِ الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: " لم تراعوا، لم تراعوا " وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج. .» (6).
وهذا كله يدل على شجاعته القلبية، أما شجاعته العقلية فلها صور كثيرة من أبرزها موقفه صلى الله عليه وسلم من تعنت سهيل بن عمرو وهو يملي وثيقة صلح الحديبية، إذ تنازل صلى الله عليه وسلم عن كلمة " بسم الله الرحمن الرحيم " إلى " باسمك اللهم "، وعن كلمة " محمد رسول الله " إلى " محمد بن عبد الله "، وقبوله شرط سهيل على أنه لا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم رجل من قريش حتى ولو كان مسلما إلا ردّد إلى أهل مكة، وقد استشاط الصحابة غيظا، وبلغ الغضب حدّاَ لا مزيد عليه، وهو صلى الله عليه وسلم صابر ثابت حتى انتهت الوثيقة، وكان الصلح بعد ذلك فتحا مبينا، فضرب صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في الشجاعتين: القلبية والعقلية، مع بعد النظر
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 358، وفتح الباري لابن حجر 8/ 32.
(2)
انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 358 وشرح الكرماني على صحيح البخاري 12/ 144.
(3)
قال العلماء: قوله " منهزما " حال من ابن الأكوع، وليس النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: شرح النووي 12/ 364.
(4)
شاهت الوجوه: أي قبحت، والله أعلم. وانظر: المرجع السابق 12/ 365.
(5)
مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين 3/ 1402، برقم 1777.
(6)
متفق عليه: البخاري، كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل، 7/ 108، برقم 6033، ومسلم، كتاب الفضائل، باب في شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وتقدمه للحرب 4/ 1802، برقم 2307.
وأصالة الرأي وإصابته؛ فإن من الحكمة أن يتنازل الداعية عن أشياء لا تضره بأصل قضيته؛ لتحقيق أشياء أعظم منها (1).
فينبغي للداعية أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في شجاعته وثباته، وصبره، وفى كل أحواله (2).
ثالثا: من أسباب نصر الدعاة: عدم الإعجاب بالكثرة أو القوة: إن من أسباب النصر عدم الإِعجاب بالكثرة والقوة، بل ينبغي التواضع والتذلل لله عز وجل والتوكل عليه والاعتماد؛ لأن ما حصل من الفرار يوم حنين في أول المعركة بسبب الإِعجاب بالكثرة؛ قال الله عز وجل:{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ - ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 25 - 26](3).
وكان من أسباب ذلك " أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قال: يا رسول الله، لن نغلب اليوم من قلة، وأعجبه كثرة الناس، وكانوا اثني عشر ألفا، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فَوكِلوا إلى كلمة الرجل فانهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير العباس، وأبي سفيان بن الحارث، وأيمن ابن أم أيمن قتل يومئذِ بين يديه. . "(4) وكانوا عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، وألفين من الطلقاء الذين أسلموا يوم الفتح، وهم الذين فرّوا بالناس لحداثتهم بالإِسلام (5).
وهذا يبيِّن للدعاة إلى الله عز وجل أن النصر بيد الله تعالى وأن الإِعجاب بالكثرة أو القوة من أسباب الهزيمة والخذلان.
(1) انظر: وثيقة صلح الحديبية، في صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الحروب، وكتابة الشروط 3/ 236، برقم 2731، 2732، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 5/ 333 - 352.
(2)
وانظر: الحديث رقم 35، الدرس الخامس.
(3)
سورة التوبة، الآيتان: 25 - 26.
(4)
أخرجه الطبري بإسناده في جامع البيان عن تأويل آي القرآن 14/ 182.
(5)
انظر: المرجع السابق 14/ 180.
فينبغي الاستعداد بكل ما يستطيعه المسلمون من قوة ثم المّوكل على الله، والاعتماد عليه، والضراعة بين يديه، والافتقار إليه وذلك من أعظم أسباب النصر والتمكين.
رابعا: من صفات الداعية: حسن الأدب في الجواب: دل الحديث على أن من الصفات الحميدة: حسن الأدب في الجواب وذلك أن رجلا قال للبراء رضي الله عنه: يا أبا عمارة أفررتم يوم حنين؟ قال: " لا والله ما ولَّى رسول الله ولكنه خرج شبَّان أصحابه وخفافهم حسَّرا ليس بسلاح فأتوا قوما رماة. . " قال الإِمام النووي رحمه الله: هذا الجواب الذي أجاب به البراء رضي الله عنه من بديع الأدب؛ لأن تقدير الكلام: فررتم كلكم يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم وافقهم في ذلك، فقال البراء:" لا والله ما فر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن جماعة من الصحابة جرى لهم كذا وكذا "(1) وأوضح أن فرار من فر لم يكن على نية الاستمرار في الفرار، وإنما انكشفوا من وقع السهام (2)؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" وفي الحديث من الفوائد: حسن الأدب في الخطاب والإٍرشاد إلى حسن السؤال بحسن الجواب "(3).
فينبغي للداعية أن يتحلَّى بحسن الأدب في الخطاب.
خامسا: من صفات الداعية: الاستنصار بالله عز وجل: إن من الصفات الحميدة الاستنصار وطلب الغوث والنصر من الله عز وجل؛ ولهذا قال البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قتاله في معركة حنين: «فنزل واستنصر» أي دعا وطلب النصر من الله سبحانه وتعالى؛ قال الإِمام النووي رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " فيه استحباب الدعاء عند قيام الحرب "(4) وهذا من سننه صلى الله عليه وسلم في الحروب وغيرها من الأمور المهمة، ومن ذلك ما فعله في يوم بدر، فعن
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 359.
(2)
انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر 8/ 28.
(3)
المرجع السابق 8/ 32.
(4)
شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 360.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مدَّ يديه فجعل يهتف بربه (1) " اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام لا تعبد في الأرض "، فمازال يهتف بربه مادا يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: " يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] (2) فأمده الله بالملائكة» (3)«وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العريش وهو يقول (4). {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] (5)» .
وهذا يبيِّن للدعاة إلى الله عز وجل والمجاهدين في سبيله أهمية الاستنصار وطلب العون من الله عز وجل.
سادسا: خطر حرص المدعو على الدنيا: دل الحديث على أن الهزيمة في أول المعركة كانت على المشركين، فلما أقبل بعض المسلمين على الغنائم استقبلهم المشركون بالسهام فحصل ما حصل ثم أنزل الله نصره وتراجع المسلمون. قال البراء رضي الله عنه:" إن هوازن كانوا قوما رماة، وإنا لما لقيناهم حملنا عليهم فانهزموا، فأقبل المسلمون على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام "، وهذا يبين خطر الحرص على الدنيا، وفيه تحذير للمدعوين وغيرهم من الإِقبال على الحطام الفاني (6).
(1) يهتف بربه: أي يصيح ويستغيث بالدعاء. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 328.
(2)
سورة الأنفال، الآية:9.
(3)
متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: البخاري مختصرا في كتاب المغازي، باب إِذْ تَسْتَغِيثونَ رَبَّكمْ فَاسْتَجَابَ لَكمْ، 6/ 6، برقم 3953، ومسلم بلفظه في كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، 3/ 1383، برقم 1763.
(4)
البخاري، كتاب المغازي، باب قول الله تعالى إِذْ تَسْتَغِيثونَ رَبَّكمْ فَاسْتَجَابَ لَكمْ 6/ 6، برقم 3953.
(5)
سورة القمر، الآية:45.
(6)
انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر، 8/ 29، والمنهل العذب الفرات، لأحمد عبد العال 3/ 218، 221.
فينبغي الحذر من ذلك والله المستعان.
سابعا: من أساليب الدعوة: التوكيد بالقسم: ظهر في هذا الحديث أسلوب التوكيد بالقسم، في قول البراء رضي الله عنه:" لا والله ما ولّى رسول الله صلى الله عليه وسلم "، ولا شك أن أسلوب التوكيد بالقسم يعطي القلوب قناعة وتصديقا، فيحصل بذلك سرعة التنفيذ (1).
ثامنا: من أساليب الدعوة: الرجز: دل الحديث على أن استعمال الرجز من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل في بعض الأحوال، مع بعض المدعوين، وقد ظهر ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:
"
أنا النبي لا كَذبْ
…
أنا ابن عبد المطلب
" (2).
تاسعا: من أساليب الدعوة: بيان الداعية مناقبه عند الحاجة: ظهر في هذا الحديث أن بيان الداعية بعض مناقبه عند الحاجة لا حرج فيه، إذا كان فيه مصلحة راجحة تنفع المدعوين أو ترفع من شأن الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا والله أعلم قال صلى الله عليه وسلم:«أنا النبي لا كذب» .
قال الإِمام النووي رحمه الله: " أي أنا النبي حقا فلا أفرّ ولا أزول "(3) وهذا يعطي المدعو معرفة به صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله حقا وصدقا (4).
عاشرا: من أساليب الدعوة: قول الداعية عند الحاجة أنا فلان وأنا ابن فلان: ظهر في هذا الحديث أسلوب بيان الداعية نسبه عند الحاجة، إذا كان في ذلك مصلحة للدعوة أو زيادة ثقة في قلوب المدعوين عند معرفتهم نسبه
(1) انظر: الحديث رقم 10، الدرس الخامس.
(2)
انظر: الحديث رقم 27، الدرس الثالث، ورقم 45، الدرس السادس، وانظر أيضا: شرح النووي على صحيح مسلم، 12/ 362، وفتح الباري لابن حجر، 8/ 31.
(3)
شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 363.
(4)
انظر: الحديث رقم 16، الدرس الرابع.
ومكانته؛ ولهذا والله أعلم قال عليه الصلاة والسلام: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» .
وانتسب صلى الله عليه وسلم إلى جده دون أبيه؛ لشهرة عبد المطلب بين الناس؛ لما رزق من نباهة الذكر وطول العمر؛ ولأن عبد الله مات شابا ولم يشتهر؛ ولهذا كان كثير من العرب يدعون النبي صلى الله عليه وسلم ابن عبد المطلب، كما قال ضمام بن ثعلبة لما قدم عليه:" أيكم ابن عبد المطلب "(1) وقيل: لأنه اشتهر بين الناس أنه يخرج من ذرية عبد المطلب رجل يدعو إلى الله ويكون خاتم الأنبياء فانتسب إليه؛ ليذكر ذلك من كان يعرفه، وأنه لا بد أن يظهر على أعدائه، وأن العاقبة له؛ لتقوى نفوس أصحابه، وأعلمهم أيضا بأنه ثابت ملازم للحرب لم يولِّ مع من ولى، وعَرَّفهم موضعه؛ ليرجع إليه الراجعون والله أعلم، ولم يكن ذلك على جهة الافتخار بآبائه؛ فإن ذلك من خلقِ الجاهلية التي قد نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم وحرمها، وذَمَّ من انتمى إليها (2)؛ وقد جاء في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه يرفعه:«من تَعزَّى بعزاء " (3) الجاهلية فأَعِضّوه (4) [بهنِ أبيه] ولا تكنوا» (5)؛ وقال صلى الله عليه وسلم لرجل قال: ياللمهاجرين، ولآخر قال: ياللأنصار: «دعوها فإنها منتنة» (6).
أما إذا كان الانتساب للآباء في المعارك والحروب على عادة الشجعان في
(1) انظر: صحيح البخاري، كتاب العلم، باب القراءة والعرض على المحدث، 1/ 27، برقم 63 وصحيح مسلم، كتاب الإِيمان، باب السؤال عن أركان الإِسلام، 1/ 41، برقم 12 وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 3/ 618، وشرح النووي على صحيح مسلم، 12/ 363، وفتح الباري لابن حجر، 8/ 31.
(2)
انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي 3/ 618، وشرح النووي على صحيح مسلم 12/ 363، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر 8/ 31.
(3)
التعزي: الانتماء والانتساب إلى القوم، كأن يقول: يالَفلان، أو ياللأنصار، أو ياللمهاجرين. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب العين مع الزاي، مادة " عزا " 3/ 233.
(4)
فأعضوه: أي من انتسب إلى الجاهلية فقولوا له: اعْضض بأير أبيك ولا تكنوا عن الأير بالْهَنِ تنكيلا له وتأديبا. انظر: المرجع السابق باب العين مع الضاد، مادة " عضض " 3/ 252.
(5)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد ص 334 برقم 963، وأحمد في المسند 5/ 136 وما بين المعكوفين من رواية أحمد، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، ص 369، وانظر: فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد، لفضل الله الجيلاني 2/ 428، وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني برقم 269.
(6)
متفق عليه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: البخاري، كتاب التفسير، باب يَقولونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَة لَيخْرِجَنَّ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّه الْعِزَّة وَلِرَسولِه وَلِلْمؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمنَافِقِينَ لَا يَعْلَمونَ 6/ 78 برقم 4907، ومسلم، في كتاب البر والصلة، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما 4/ 998، برقم 2584.
انتسابهم؛ لإِظهار عز الإِسلام وإذلال أعداء الله فلا حرج (1) قال الإمام النووي رحمه الله تعالى على قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا النبي لا كذب. . أنا ابن عبد المطلب» : " في هذا دليل على جواز قول الإِنسان في الحرب: أنا فلان وأنا ابن فلان "(2).
ومثل ذلك قول سلمة بن الأكوع في غزوة ذي قرد:
"
أنا ابن الأكوع
…
واليوم يوم الرضع (3) " (4)
وقول عامر بن الأكوع في غزوة خيبر:
قد علمت خيبر أني عامر
…
شاكي السلاح بَطَل مغامر (5)
وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة (6)
…
كليث غابات كريه المنظرة (7)
أوفيهم بالصاع كيل السندرة (8) "
(1) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي 3/ 618، وشرح النووي على صحيح مسلم 12/ 362، وفتح الباري لابن حجر، 8/ 31.
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 363.
(3)
يوم الرضع: جمع راضع وهو اللئيم، قيل: والأصل فيه أن رجلا كان شديد البخل فكان إذا أراد حلب ناقته رضع من ثديها ولا يحلبها؛ لئلا يسمع جيرانه صوت الحلب أو من يمر به فيطلبون منه اللبن، فَعَبَروا عن كلِّ لئيم بذلك، وقيل بل صنع ذلك لئلا يتبدد من اللبن شيء إذا حلب في الإِناء، وقيل غير ذلك.
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، باب الراء مع الضاد 2/ 230، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي 3/ 673، وفتح الباري لابن حجر، 7/ 462.
(4)
البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة ذي قرد، 5/ 35، برقم 4194 ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد وغيرها، 3/ 1433، برقم 1806.
(5)
صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة، ذي قرد وغيرها، 3/ 1440.
ومعنى: " شاكي السلاح " أي تام السلاح: من الشوكة والقوة. " مغامر ": يركب غمرات الحروب، ويقتحمها وشدائدها ويلقي بنفسه فيها وأصله من الغمر: وهو الماء الكثير. و " البطل ": الشجاع. انظر المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 3/ 681، وشرح النووي على صحيح مسلم، 12/ 425.
(6)
" حيدرة " من أسماء الأسد. انظر. المفهم للقرطبي 3/ 682، وشرح النووي 12/ 425.
(7)
" الليث " من أسماء الأسد، والغابات. ملتف الشجر، وكريه المنظرة: أي أنه كريه المنظر في عين عدوه. و " السندرة " مكيال واسع، وقيل: السندرة العجلة: أي أقتلهم قتلا عاجلا. والمعنى: أقتل الأعداء قتلا واسعا ذريعا عاجلا. انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 3/ 683، وشرح النووي على صحيح مسلم، 12/ 426.
(8)
مسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد وغيرها، 3/ 1441، برقم 1806.
الحادي عشر: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: دل الحديث على أن القدوة الحسنة وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت قي المعركة ولم يتراجع مع من تراجع؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وإذا كان رأس الجيش قد وطَّن نفسه في الحرب على عدم الفرار وأخذ بأسباب ذلك، كان ذلك أدعى لأتباعه على الثبات "(1).
فينبغي للداعية أن يكون قدوة حسنة للناس (2).
الثاني عشر: الابتلاء والاختبار في الدعوة إلى الله عز وجل: دل هذا الحديث على الابتلاء والامتحان، وأن الله عز وجل يبتلي عباده بالسراء والضراء، وبالشدة والرخاء؛ ولهذا حصل للنبي صلى الله عليه وسلم ما حصل في غزوة حنين: من تراجع أصحابه عنه في أول القتال، واقتحام المشركين عليه عز وجل، ثم نصره الله وأمده بعونه، وهزم أعداءه (3).
الثالث عشر: من أصناف المدعوين: المشركون: دل قتاله صلى الله عليه وسلم في معركة حنين على أن من أصناف المدعوين: أهل الشرك بالله عز وجل؛ وأنهم يدعون إلى الإِسلام، ويقاتلون إذا لم يدخلوا في الإِسلام، ولم يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ووقفوا في طريق الدعوة إلى الله عز وجل (4).
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8/ 32، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12/ 363.
(2)
انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث.
(3)
انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 16، الدرس الخامس، ورقم 46، الدرس الرابع.
(4)
انظر: الحديث رقم 66، الدرس الحادي عشر.