الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[حديث هاهنا أمرك النبي أن تركز الراية]
105 -
[2976] حَدَّثَنَا محَمَّد بْن الْعَلَاءِ: حَدَّثَنَا أَبو أسَامَةَ، عَنْ هِشَام بْنِ عرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَافِع بْنِ جبَيْرٍ قَالَ:«سَمِعْت العَبَّاسَ (1) يَقول لِلزّبَيْرِ (2) رضي الله عنهما: هاهنا أَمرَكَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن تَرْكزَ الراية» (3) وفي رواية: حَدَّثَنَا عبَيْد بْن إِسْمَاعِيلَ: حَدَّثَنَا أَبو أسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ قالَ: «لَمَّا سَارَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ فَبَلَغَ ذَلِكَ قرَيْشا، خَرَجَ أَبو سفْيَانَ بْن حرْبٍ (4) وَحَكِيم بْن حِزَامٍ (5) وَبدَيْل بْن وَرْقَاء، يَلْتَمِسونَ الْخَبَرَ عَنْ رَسولِ
(1) العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أبو الفضل القرشي عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين، وقيل: ثلاث، وضاع وهو صغير فنذرت أمه إن وجدته أن تكسوَ الكعبة الحرير فوجدته ففعلت، فهي أول عربية كست الكعبة الحرير، وكان العباس رئيسا جليلا في قريش قبل الإسلام، وكان إليه عمارة المسجد الحرام، والسقاية، وحضر بيعة العقبة مع الأنصار، وشدد العقد مع الأنَصار وأكده، وذلك قبل أن يسلم، وقيل: إنه أسلم قبل الهجرة، وخرج مع قومه إلى بدر مكرها، وأسر وفدى نفسه، ورجع إلى مكة، وقيل: إنه أسلم عقب رجوعه إلى مكة وكتم قومه ذلك، وكان يكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار المشركين، وكان عونا للمستضعفين المسلمين بمكة، ثم هاجر قبل الفتح بقليل، وشهد الفتح، وحنينا وثبت فيها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينادي في الناس بالرجوع وكان صيتا فأقبلوا عليه وحملوا على المشركين وهزموهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظمه ويكرمه، ويبجله، وكان وصولا لأرحام قريش محسنا إليهم، ذا رأي وكمال، وعقل، وكان جوادا أعتق سبعين عبدا، وكانت الصحابة تكرمه وتعظمه، وتأخذ برأيه، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وثلاثون حديثا، اتفق البخاري ومسلم على حديث، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بثلاثة، وتوفي رضي الله عنه بالمدينة يوم الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من رجب وقيل: من رمضان سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: أربع وثلاثين، وهو ابن نحو ثمان وثمانين سنة. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1/ 257، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 2/ 78 - 100، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2/ 271.
(2)
تقدمت ترجمته في الحديث رقم 52.
(3)
[الحديث 2976] طرفه في كتاب المغازي، باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح؟ 5/ 107، برقم، 4280.
(4)
أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، رأس قريش، الأموي المكي أسلم يوم الفتح، كان له أمور صعبة، فمن الله عليه وتداركه بالإِسلام، لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق فأسلم قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا، وكان من دهاة العرب ومن أهل الرأي والشرف فيهم، وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حنينا، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم مائة بعير وأربعين أوقية من الدراهم يتألفه بذلك، وشهد قتال الطائف وفقئت عينه يومئذ، وشهد اليرموك وقلعت عينه الأخرى في هذه المعركة، وكان تحت راية يزيد في هذه المعركة وينادي بنصر الله عز وجل، ونزل المدينة بعد ذلك، وهو أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر سنين، وتوفي رضي الله عنه بالمدينة سنة إحدى وثلاثين، وقيل: أربع وثلاثين، وقيل: عاش ثلاثا وتسعين سنة. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 2/ 239، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 2/ 2 / 105 - 106، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2/ 179.
(5)
حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى الأسدي، ابن أخي خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أسلم يوم فتح مكة، سنة ثمان، وقد شهد بدرا مع المشركين، وكان إذا اجتهد في يمينه يقول: والذي نجاني أن أكون قتيلا يوم بدر، ولد قبل عام الفيل بثلاث عثرة سنة، وكان يفعل المعروف في الجاهلية، فلما أسلم سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشياء كنت أفعلها في الجاهلية ألي فيها أجر؟ قال: " أسلمت على ما سلف لك من خير "[البخاري برقم 1436، 2220، 2538، 5992] وكان كريما جوادا، وكانت دار الندوة بيده فباعها بعد من معاوية رضي الله عنه بمائة ألف درهم، فلامه ابن الزبير رضي الله عنه فقال: يا ابن أخي اشتريت بها دارا في الجنة فتصدق بالدراهم كلها، وكان من أشرات قريش ووجوهها في الجاهلية والإسلام، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين مائة بعير، ولم يصنع من المعروف شيئا في الجاهلية إلا صنع في الإسلام مثله، وقيل له عندما باع دار الندوة وتصدق بثمنها: بعت مكرمة قريش، فقال: ذهبت المكارم إلا بالتقوى، وأهدى في حجه مائة بدنة، وأعتق مائة عبد، وأهدى ألف شاة، وقال رضي الله عنه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال:" يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى " قال حكيم فقلت: والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، وكان أبو بكر يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا، ثم دعاه عمر ليعطيه فأبى أن يقبله، فقال: يا معشر المسلمين أشهدكم على حكيم أني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأْ حكيم أحدا من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، حتى توفي رضي الله عنه [البخاري برقم 2750] سنة خمسين، وقيل: أربع وخمسين، وقيل: ثمان وخمسين، وقيل: سنة سنين، وهو ممن عاش ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام، فكمل عند موته: مائة وعشرين سنة. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1/ 166، والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1/ 349.
الله صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلوا يَسِيرونَ حَتَّى أتَوْا مَرَّ الظَّهْرَانِ، فَإِذَا همْ بِنِيرَانٍ كأنهَا نِيرَان عَرَفةَ، فقَالَ أَبو سفْيَانَ: مَا هَذِهِ؟ لَكأَنهَا نِيرَان عَرَفَةَ؟ فَقَالَ بدَيْل بْن وَرْقَاءَ (1) نِيرَان بَنِي عَمْرو، فَقَاَلَ أَبو سفْيَانَ: عَمْرو أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ، فَرَآهمْ نَاس مِنْ حَرَسِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَدْرَكوهمْ فَأَخَذوهمْ فَأتوا بهِمْ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَسْلَمَ أَبو سفْيَانَ، فَلَمَّا سَارَ قَالَ لِلْعَبَّاسِ:" احْبِسْ أَبَا سفْيَانَ عِنْدَ حطم الْخَيْلِ حَتَّى يَنْظرَ إِلَى الْمسلِمِينَ " فحَبَسَه العباس فَجَعَلَتِ الْقَبَائِل تَمرّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كتِيبَة كَتِيبةَ، عَلَى أَبِي سفْيَانَ فَمَرَّتْ كَتِيبَة فَقَالَ: يَا عَبَّاس مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هَذِهِ غِفَار. قَالَ: مَا لِي وَلِغفَارٍ؛ ثمَّ مَرَّتْ جهَيْنَة، قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثمَّ مَرَّتْ سَعْد بن هذَيْمٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمَرَّتْ سلَيْم فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى أقْبَلَتْ كَتيبَة لَمْ يَرَ مِثْلَهَا، قالَ مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هَؤلَاءِ الأنصَار عَلَيْهِمْ سَعْد بْن عبَادَةَ مَعَه الرَّايَة، فَقَالَ سَعْد بْن عبَادَةَ: يَا أَبَا سفْيَانَ
(1) بديل بن ورقاء بن عمرو بن ربيعة بن عبد العزى، أسلم يوم فتح مكة وقيل: قبل الفتح، وقيل: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يحبس السبايا والأموال بالجعرانة حتى يقدم عليه ففعل [قال الحافظ ابن حجر إسناده حسن] رضي الله عنه. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1/ 141.
الْيَوْم يَوْم الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تسْتَحَلّ الْكَعْبَة، فَقَالَ أَبو سفْيَانَ: يَا عَبَّاس حَبَّذا يوْم الذِّمَارِ، ثم جَاءَتْ كَتِيبَة وَهْيَ أَقَلّ الْكَتَائِبِ فِيْهِمْ رَسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَصحابه ورَايَة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ الزّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامٍ، فَلمَّا مَرَّ رَسول الله صلى الله عليه وسلم بِأَبِي سفْيَانَ قال: ألَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْد بْن عبَادَةَ؟ قَال: " مَا قَالَ؟ " قَالَ؛ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ:" كَذَبَ سَعْد، وَلَكِنْ هَذَا يَوْم يعَظِّم الله فِيهِ الْكَعْبةَ وَيَوْم تكسَى فِيهِ الْكَعبة " قَالَ: وأَمَرَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ ترْكَزَ رَايَته بِالْحَجونِ. قَالَ عرْوَة: وأَخْبَرني نَافِع بْن جبَيْرِ بْنِ مطْعِمٍ، قَالَ: سَمِعْت الْعَبَّاسَ يَقول لِلزّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ: يَا أَبَا عبد الله هاهنَا أَمَرَكَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ تَرْكز الرَّايَةَ، قَالَ: وَأَمر رَسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ خالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أنْ يَدْخلَ مِنْ أعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ، وَدَخَلَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مِنْ كدى فَقتِل مِنْ خَيْلِ خَالِدٍ يَوْمَئِذٍ رَجلَانِ: حبَيْش بْن الأَشْعَرِ وَكرْز بْن جَابِرٍ الفِهْرِيّ» (1).
* شرح غريب الحديث: * " مَرَّ الظهران " ويقال: " مر ظهران " أيضا: بقعة وموضع يبعد عن مكة بريدا، وقيل: أحدا وعشرين ميلا، وقيل ستة عشر ميلا (2).
* " عند حطم الخيل " الموضع المتضايق الذي تتحطَّم فيه الخيل: أي يدوس بعضها بعضا، ويزحم بعضها بعضا، فيراها جميعها وتكثر في عينه بمرورها في ذلك الموضع الضيق. وفي رواية:" خطم الجبل " وهو أنفه البارز عند مضيق الجبل، حين يحطم بعضها بعضا، ليرى جميعها (3).
* " يوم الملحمة " الملحمة: الحرب والقتال الذي لا مخلص منه، والجمع الملاحم، مأخوذ من اشتباك الناس واختلاطهم فيها كاشتباك لحمة الثوب بالسدى، وقيل: هو من اللّحم؛ لكثرة لحوم القتلى فيها، ويقال: ألحم
(1) طرف الحديث رقم 4280.
(2)
انظر: مشارق الأنوار للقاضي عياض، حرف الظاء مع الميم، 1/ 332.
(3)
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الطاء، مادة:" حطم " 1/ 404، وانظر: غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 378.
الرجل في الحرب واستلحم: إذا تشبث فيها، فلم يجد مخلصا (1) * " يوم الذمار " الذمار: ما لزمك حفظه مما وراءك وتعلق بك، وقول أبي سفيان:" حبذا يوم الذمار " يريد الحرب؛ لأن الإِنسان يقاتل على ما يلزمه حفظه (2).
* " الكتائب " العساكر المرتبة؛ واحدها كتيبة، وهي القطعة العظيمة من الجيش (3).
* " كَدَاء " بفتح الكاف والمد: من أعلى مكة التي من سلكها دخل من باب بني شيبة.
* " كدى " بضم الكاف والقصر من أسفل مكة (4).
* " الحجون " الجبل المشرف حذاء مسجد العقبة عند المحصب، عند مقبرة أهل مكة (5).
* " الراية " اللواء، وقيل: العلم (6).
* " كذب سعد " أي: أخطأ (7).
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 -
من وسائل الدعوة: رفع اللواء والراية في الجهاد في سبيل الله عز وجل.
2 -
من وسائل الدعوة: الخروج للجهاد في سبيل الله عز وجل.
3 -
أهمية الحراسة في الأمور المهمة.
4 -
من صفات الداعية: العفو والصفح ومقابلة السيئة بالحسنة.
(1) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 378، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب اللام مع الحاء، مادة:" لحم " 4/ 239.
(2)
انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 378، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب الذال مع الميم، مادة:" ذمر " 2/ 167.
(3)
انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 378، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الكاف مع التاء، مادة:" كتب " 4/ 148.
(4)
انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 379.
(5)
انظر: مشارق الأنوار للقاضي عياض، حرف الجيم مع النون، 1/ 221.
(6)
انظر: تفسير غريب الحديث رقم 92، ص 534، وغريب الحديث رقم 103، ص 588.
(7)
مشارق الأنوار على صحاح الآثار، للقاضي عياض، 1/ 337، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 8/ 9.
5 -
من وسائل الدعوة وأسباب النصر: إظهار القوة والنشاط أمام الأعداء.
6 -
من صفات الداعية: حسن الخلق.
7 -
من أصناف المدعوين: المشركون.
8 -
من موضوعات الدعوة: تعظيم الكعبة وبيت الله الحرام.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من وسائل الدعوة: رفع اللواء والراية في الجهاد في سبيل الله عز وجل: ظهر في هذا الحديث أن الراية من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيها أمير الجيش في القتال؛ ليرفعها فيعرف بها وينضم إليه أصحابه، وفي ذلك إظهار القوة أمام الأعداء؛ ولهذا كانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون، وهذا يؤكد أهمية الراية واللواء في الجهاد (1).
ثانيا: من وسائل الدعوة: الخروج للجهاد في سبيل الله عز وجل: إن الخروج للجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى لإِعلاء كلمة الله عز وجل من أهم وسائل الدعوة؛ ولهذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكة؛ ليفتحها ويطهِّرها من آثار الشرك؛ ولإِعلاء كلمة الله عز وجل أمر سبحانه بالنفير فقال: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41](2).
وفي هذا دلالة على عظم هذه الوسيلة ومكانتها في الإِسلام.
ثالثا: أهمية الحراسة في الأمور المهمة: إن الحراسة في الأمور المهمة من أعظم المهمات وآكد الوظائف التي ينبغي أن يعتني بها المجاهدون في سبيل الله عز وجل؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني بذلك
(1) انظر: الحديث رقم 103، الدرس الأول، والحديث رقم 104، الدرس الخامس.
(2)
سورة التوبة، الآية 41.
في حراسة الجيش والمجاهدين أثناء النوم أو الراحة، والصلاة؛ ولهذا شرعت صلاة الخوف، ومن أنواعها أن طائفة تصلي مع الإِمام والطائفة الأخرى وجاه العدو. وفي هذا الحديث أن حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح رأوا أبا سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء " فأدركوهم فأخذوه فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم أبو سفيان "، وهذا يدل على أهمية الحراسة وقد أمر الله عز وجل بأخذ الحذر فقال سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71](1).
ولأهمية الحراسة فقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم فيها وجعل ثواب من بات يحرس في سبيل الله الجنة والنجاة من النار، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله» (2).
رابعا: من صفات الداعية: العفو والصفح ومقابلة السيئة بالحسنة: ظهر في هذا الحديث أهمية العفو والصفح، وتأثيره في نفوس المدعوين؛ ولهذا عفا صلى الله عليه وسلم عن أبي سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء فلم يقتلهم، وقد حصل من أبي سفيان رضي الله عنه ما لا يخفى في المعارك الكبرى: بدر، وأحد، وغزوة الأحزاب، ومع ذلك قابله النبي صلى الله عليه وسلم بالعفو والصفح، وعفا أيضا عن جميع أهل مكة يوم الفتح إلا مجموعة أهدر دمهم لمعاداتهم العظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته ومع ذلك فقد نجا بعضهم وأنقذه الله بالإِسلام فعفا عنهم صلى الله عليه وسلم بعد أن أهدر دماءهم؛ لإِسلامهم، كعكرمة بن أبي جهل، وهبار بن الأسود، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان، وعبد الله بن أبي السرح، وكعب بن زهير، ووحشي بن حرب، وأما غيرهم ممن أهدر دمه ولم يسلم، فقد قتل من عثِر عليه منهم (3).
(1) سورة النساء، الآية 71.
(2)
الترمذي، وحسنه، في كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الحراسة في سبيل الله، 4/ 175، برقم 1639، وصححه الألباني لشواهده، في مشكاة المصابيح 2/ 1125، وفي صحيح سنن الترمذي 2/ 127.
(3)
انظر: فتح الباري لابن حجر، 8/ 11، وقد ذكر أن عدد من أهدر دمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية رجال وست نسوة، أسلم بعضهم فعفا عنه صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدل على عفوه صلى الله عليه وسلم العظيم وصفحه؛ فإن بعض هؤلاء قد أوقع بالمسلمين الوقائع ومَثَّلَ بهم في المعارك، فأدركه الله برحمته ومنَّ عليه بالإِسلام، ثم عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
خامسا: من وسائل الدعوة وأسباب النصر: إظهار القوة والنشاط أمام الأعداء: إن من وسائل الدعوة وأسباب النصر إظهار القوة والنشاط أمام أعداء الإِسلام؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم العباس فقال: «احبس أبا سفيان عند حطم الخيل حتى ينظر إلى المسلمين» فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان كتيبة كتيبة، حتى استعظم ذلك أبو سفيان ورأى كثرتهم العظيمة، ومن حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أن أمر بحبسه عند المكان المتضايق الذي تتحطم فيه الخيل ويدوس بعضها بعضا، ويزحم بعضها بعضا، فيراها أبو سفيان جميعا؛ لتكثر في عينه بمرورها في ذلك الموضع الضيق (2).
وهذا العمل المبارك من أعظم وسائل الدعوة، ومن أسباب النصر؛ لما يحدث في قلوب الأعداء من الخوف والجزع؛ ولهذا قال الله عز وجل:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60](3).
سادسا: من صفات الداعية: حسن الخلق: لا ريب أن حسن الخلق من الصفات العظيمة التي ينبغي لأهل العلم والإِيمان الاتصاف بها؛ ولهذا كان قدوة الدعاة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا. وفي هذا الحديث ما يؤكد ذلك، وذلك أن سعد بن عبادة رضي الله عنه عندما مر بأبي سفيان قال: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فأفزع ذلك أبا سفيان فانتظر، وعندما مر النبي صلى الله عليه وسلم وكتيبته قال أبو سفيان: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: " ما قال؟ " قال: قال: كذا وكذا فقال رسول الله
(1) انظر: الحديث رقم 80، الدرس الثالث.
(2)
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب الحاء مع الطاء، مادة:" حطم " 1/ 404، وفتح الباري لابن حجر، 8/ 7، وعمدة القاري للعيني 17/ 278، وإرشاد الساري، للقسطلاني 6/ 390.
(3)
سورة الأنفال، الآية 60.
صلى الله عليه وسلم: " كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة ".
وهذا يدل على حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيمه لبيت الله الحرام، ونسبته التعظيم لله عز وجل بقوله:" هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة "(1) وهذا يؤكد أدبه صلى الله عليه وسلم مع ربه عز وجل.
سابعا: من أصناف المدعوين: المشركون: دل هذا الحديث على أن المشركين من أصناف المدعوين؛ ولهذا غزاهم النبي يوم الفتح، بعد أن قاتلهم في بدر وأحد، وغزوة الأحزاب، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم قد بلَّغهم قبل هذه المعارك والغزوات ما يجب عليهم من إفراد الله عز وجل بالعبادة وحده لا شريك له، ولكنهم أبوا واستكبروا وعتو عتوا كبيرا، فكان آخر الطب الكي (2).
ثامنا: من موضوعات الدعوة: تعظيم الكعبة وبيت الله الحرام: ظهر في هذا الحديث أهمية إبلاغ الناس بعظم بيت الله العتيق؛ لأن الله عز وجل عظمه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «هذا يوم يعظم الله الكعبة، وتكسى فيه الكعبة» ؛ ولعظم حرمة الكعبة قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 57](3) وقال سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67](4).
ومن تعظيم الله الكعبة أن طهرها من أوثان الجاهلية، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم:«دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] (5) {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]» (6).
(1) انظر: الحديث رقم 14، الدرس الأول، ورقم 21، الدرس الثاني.
(2)
انظر: الحديث رقم 91، الدرس الثامن.
(3)
سورة القصص، الآية 57.
(4)
سورة العنكبوت، الآية 67.
(5)
سورة الإسراء، الآية 81.
(6)
متفق عليه: البخاري، كتاب المغازي، باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح 8/ 5، برقم 4287 ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب إزالة الأصنام من حول الكعبة 3/ 1408، برقم 1781والآية 49 من سورة سبأ.
ومن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لبيت الله الحرام أنه دخله من أعلاه؛ لأنه يأتي من قبل وجه الكعبة، أما ما جاء في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم " أمر خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كَدَاءٍ، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من كدى " فقال الحافظ ابن حجر رحمه الله عن هذا: " وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة الآتية أن خالدا دخل من أسفل مكة، والنبي صلى الله عليه وسلم من أعلاها "(1) وقد جاءت الأحاديث الكثيرة تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح من أعلاها، فعن عائشة رضي الله عنها:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح من كداء التي بأعلى مكة» (2).
ومن حرمة مكة ما قاله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا، فإن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه (3) ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها (4) "، وقال العباس إلا الإِذخر (5) فإنه لقينهم (6) وبيوتهم، فقال: " إلا الإِذخر» (7).
فينبغي العناية بحرمة مكة وتعظيمها، وتنبيه الناس إلى ذلك وحثهم عليه.
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8/ 10.
(2)
متفق عليه: البخاري، كتاب المغازي، باب دخول النبي صلى الله عليه وسلم من أعلى مكة، 5/ 110 برقم 4290، ومسلم، كتاب الحج، باب استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها من الثنية السفلى، 2/ 918، برقم 1258. وانظر: بقية الأحاديث عن ابن عمر، وعروة، وعائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري، كتاب الحج، باب من أين يدخل مكة 2/ 188 برقم 1575، وباب من أين يخرج من مكة 2/ 189، برقم 1577 - 1581، وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها من الثنية السفلى، 2/ 918، برقم 257 - 1260.
(3)
لا يعضد شوكه: لا يقطع. شرح النووي على صحيح مسلم 9/ 134.
(4)
الخلاء: هو الكلأ والعشب الرطب. انظر. المرجع السابق 9/ 134.
(5)
الإذخر: نبت طيب الرائحة. المرجع السابق 9/ 134.
(6)
قينهم: الحداد والصانع، يحتاج إليه في وقود النار. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 9/ 136.
(7)
متفق عليه: البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب لا يحل القتال بمكة، 2/ 260، برقم 1833، ومسلم، كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، 2/ 986، برقم 1353.