الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 -
باب لا وصية لوارث
[حديث كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين]
6 -
[2747] حَدَّثَنَا محَمَّد بن يوسفَ، عَنْ وَرْقاءَ، عَنْ ابنِ أَبي نَجيْحٍ، عَنْ عطَاءٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ (1) رضي الله عنهما قَالَ:" كَانَ المَال لِلْوَلَدِ، وَكَانَتِ الوَصيَّة لِلوَالِدَينِ، فَنَسَخَ الله مِن ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأنثيين، وَجَعَلَ لِلأَبَوَينِ لِكلِّ وَاحِدٍ مِنْهمَا السّدسَ، وَجَعَلَ لِلمَرْأَةِ الثمنَ وَالربعَ، وللزَّوج الشَّطْرَ والرّبعَ "(2).
* شرح غريب الحديث: * " فنسخ الله من ذلك ما أحب " النسخ: أمر كان يعمل به من قبل، ثم ينسخ بحادثٍ غيره، كالآية ينزل فيها أمر ثم تنسخ بآية أخرى، وكل شيء خَلَفَ شيئا فقد نسخه: أي أبطله وقام مقامه، والأول منسوخ والثاني ناسخ، يقال: نسخت الشمس الظل: أي أزالت الظل وحلت محله (3).
" الشطر " النصف (4).
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 -
أهمية تبليغ العلم النافع للناس.
2 -
عناية الإسلام بحقوق الإِنسان.
3 -
من موضوعات الدعوة: بيان الناسخ والمنسوخ.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 5 - 2743.
(2)
(الحديث 2747)، طرفاه في: كتاب التفسير، باب وَلَكمْ نِصْف مَا تَرَكَ أَزْوَاجكمْ، 5/ 210، برقم 4578، وكتاب الفرائض، باب ميراث الزوج مع الولد وغيره، 8/ 8، برقم 6739.
(3)
انظر: معجم المقاييس في اللغة، لابن فارس، مادة " نسخ " ص 1026، ولسان العرب لابن منظور، باب الخاء فصل النون، 3/ 61، وتفسير القرطبي 2/ 67.
(4)
النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الشين مع الطاء 2/ 473.
أولا: أهمية تبليغ العلم النافع للناس: دل مفهوم هذا الحديث على أهمية تبليغ العلم النافع للناس؛ فإن ابن عباس رضي الله عنهما قد بلغ في هذا الحديث علم الفرائض- الذي هو نصف العلم- وبينه للناس بيانا واضحا؛ فقد بين صلى الله عليه وسلم أن المال الذي يخَلِّفه الميت كان يأخذه أولاده ميراثا، وكانت الوصية في أول الإسلام واجبة للوالدين والأقربين على ما يراه الموصي من المواساة والتفضيل، ثم نسخ الله عز وجل من ذلك ما أحب وحدد الفرائض وأعطى كل ذي حق حقه (1).
فينبغي للدعاة إلى الله تعالى أن يقتدوا بحبر الأمة ويبلغوا العلم النافع للناس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية» (2) ودعا صلى الله عليه وسلم بالنَّضَارة، وهي: النعمة والبهجة لمن بلغ عنه عليه الصلاة والسلام، فقال:«نَضّرَ الله امرأ سَمِعَ مِنَّا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فَربَّ حَامِل فقهٍ إلى من هو أفقه منه، وربَّ حامِل فِقْهٍ ليس بفقيهٍ» (3) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «نَضّرَ الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، وحفظها وبلّغها، فَرب حامل فِقهٍ إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يَغِلّ (4) عليهنَّ قَلْب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن الدعوة تحيط من ورائهم» (5) فعلى الدعاة إلى الله عز وجل أن يرغبوا في هذا الفضل العظيم، وهذه الدعوة المباركة. والله المستعان.
(1) انظر: عمدة القاري للعيني، 14/ 38، وإرشاد الساري للقسطلاني، 5/ 8، 9/ 433.
(2)
البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل 4/ 175، برقم 3461.
(3)
أبو داود، كتاب العلم، باب فضل نشر العلم 3/ 322، برقم 3660، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع 5/ 33، برقم 2656. وصححه الألباني في صحيح الترمذي 2/ 388.
(4)
يَغِل: من الغل. الحقد والضِّغن، أي لا يدخل قلبه شيء من الحقد يزيله عن الحق، ويروى بضم الياء وكسر الغين:" يغِل " ومعناه الخيانة، والإغلال الخيانة في كل شيء، والمعنى: أن هذه الخصال الثلاث تصلح بها القلوب فمن تمتك بها طهر قلبه من الدغل والقساوة.
انظر: جامع الأصول لابن الأثير 1/ 267 - 268.
(5)
الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع 5/ 34 برقم 2658، وأحمد في المسند، 1/ 437، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح 1/ 78، وعبد القادر الأرنؤرط في جامع الأصول 1/ 266.
ثانيا: عناية الإسلام بحقوق الإنسان: يظهر في هذا الحديث جليّا أن الإسلام حفظ حقوق الإِنسان واعتنى بها عناية فائقة، وهذا يبين أنه الدين الذي يصلح لكل زمان ومكان؛ فإنه تكفل بما يعود على الإِنسان المسلم بالسعادة في الدنيا والآخرة.
ويؤخذ من هذا الحديث امتياز الإسلام وحفظه للحقوق الإِنسانية، وذلك لأمور:
1 -
الإسلام أبطل نظام الجاهلية الذي ينقل مال الميت إلى الكبير من أبنائه، فإن لم يكن له أبناء فإلى أخيه أو عمه، فلا يورِّثون الصغار، ولا الإناث؛ بحجة أن هؤلاء لا يحمونهم، ولا يقاتلون معهم، ولا يحوزون المغانم (1) فجاء الإسلام يهدم عادات الجاهلية قال الله تعالى:{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7](2) فحفظ الإسلام حقوق الناس ذكورا وإناثا، صغارا وكبارا، وأعطى كل ذي حق حقه، فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: «إن الله تعالى قد أَعطى كلَّ ذي حق حقه فلا وصية لوارث» (3) فإذا كانت الجاهلية راعت الأقوياء وحرمت الضعفاء من الميراث، فكل الإسلام راعى هؤلاء الضعفاء؛ لأنهم أحق بالعطف، ولم يحرم الإسلام الأقوياء من الميراث، فكل من توفر فيه سبب من أسباب الإِرث، وانتفى عنه المانع ورث كبيرا كان أو صغيرا، ذكرا كان أم أنثى، قويا أم ضعيفا (4).
2 -
الإسلام يقَوِّي أواصر القرابة بين الناس، ويحكم الصلة بينهم بصلة الرحم، كما قال تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75](5)
(1) انظر: تفسير الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري 7/ 597 - 598.
(2)
سورة النساء، الآية:7.
(3)
الترمذي، كاب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث، 4/ 433، برقم 2120، وابن ماجه، في كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث 2/ 905، برقم 2713، وصححه الألباني في صحيح الترمذي 2/ 218.
(4)
انظر: تفسير الطبري " جامع البيان عن تأويل آي القرآن 7/ 598، والتحقيقات المرضية في المباحث الفرضية، للدكتور صالح بن فوزان الفوزان ص 19.
(5)
سورة الأنفال، الآية:75.
فهو يقدم الذرية بالإِرث على الأصول وعلى بقية القرابة، ومع هذا فلا يحرم الأصول ولا بقية القرابات، بل يجعل لكل ذي نصيبٍ نصيبه (1) وهذا نظام العدالة والمواساة. والرحمة:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42](2).
3 -
الإسلام يحترم الملكية الفردية، فنظام التوريث يعطينا دلالة واضحة على احترام هذا الدين للملكية الفردية؛ لأنه يسلم الثروة التي يخلفها الميت إلى يد وارثه موفورة محترمة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«ومن ترك مالا فلورثته» (3) وهذا من أكبر الدوافع التي تقوي نشاط أهل الأموال إلى الاستثمار، وبذل الجهد في ذلك؛ لأن الإنسان الذي يعرف أن الأموال التي بذل جهده في جمعها تصير بعد ذلك إلى غير ورثته ولا ينتفع بها أولاده لا يحافظ عليها، ولا يحميها. وهذا يدل على سماحة الإسلام وحفظه لحقوق الإنسان كما قال تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38](4).
ثالثا: من موضوعات الدعوة: بيان الناسخ والمنسوخ: الإسلام نسخ جميع الشرائع السابقة، ومعلوم أن أصل دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحد، وهو " التوحيد "، أما الشرائع فقد نسختها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله ختم بها جميع الشرائع، وأرسله إلى الإِنس والجن، قال الله تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85](5) وحديث ابن عباس يظهر منه جليّا وقوع النسخ، ولهذا قال ابن حجر رحمه الله على قول ابن عباس رضي الله عنهما:" فنسخ من ذلك ما أحب ": " وفيه رد على من أنكر النسخ "(6)
(1) انظر: التحقيقات المرضية للفوزان، ص 20.
(2)
سورة فصلت، الآية:42.
(3)
البخاري، كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب الصلاة على من ترك دينا 3/ 116، برقم 2398.
(4)
سورة الأنعام، الآية:38.
(5)
سورة آل عمران، الآية:85.
(6)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8/ 245.
ولا شك أن الإسلام نسخ جميع الشرائع السابقة بالإِجماع (1) ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم يموت، ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار» (2).
فالداعية إلى الله تعالى قد يحتاج إلى بيان الناسخ من المنسوخ في هذه الشريعة كما قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106](3) وقد يحتاج إلى بيان نسخ الشريعة الإِسلامية لجميع الشرائع السابقة، وذلك في دعوته لغير المسلمين، وخاصة أهل الكتاب، فعليه أن يلمَّ بذلك إلماما جيدا؛ قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى:" معرفة هذا الباب أكيدة، وفائدته عظيمة لا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء؛ لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام "(4).
فينبغي للداعية أن يسلك طريق الحكمة في بيان أن الشريعة الإِسلامية ناسخة لجميع الشرائع السابقة، وأن يبين للناس: الناسخ والمنسوخ عن علم وبصيرة، على حسب ما يحتاجه المدعو.
* * * *
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 8/ 245.
(2)
مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته، 1/ 134، برقم (153).
(3)
سورة البقرة، الآية:106.
(4)
الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 2/ 66.