الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
12 -
وفاته: استمر رحمه الله في طلب العلم، وتعليمه والتأليف فيه حتى توفاه الله عز وجل بمدينة (خرتنك)(1) ليلة السبت، ليلة الفطر عند صلاة العشاء، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر سنة ست وخمسين ومائتين. وعاش اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يوما (2).
*
ثانيا: التعريف بصحيح الإمام البخاري رحمه الله
1 -
اسم الكتاب: اشتهر- قديما وحديثا- في أشهر كتب الفقه والتفسير. وأكثر شروح الحديث، وسائر كتب الفنون الأخرى، وعلى ألسنة معظم الناس، وجمهرة العلماء باسم:(صحيح الإمام البخاري).
ولكن اسم الكتاب الذي وضعه له مؤلفه، هو:(الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه)(3).
2 -
موضوع الكتاب: قال ابن حجر رحمه الله في مقدمته لفتح الباري، عن كتاب صحيح الإمام البخاري:" إنه التزم فيه الصحة، وأنه لا يورد فيه إلا حديثا صحيحا، هذا أصل موضوعه، وهو مستفاد من تسميته إياه (الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه)، ومما نقلناهُ عنه من رواية الأئمة عنه صريحا، ثم رأى أن لا يخليه من الفوائد الفقهية، والنكت الحكمية فاستخرج بفهمه من المتون معانيَ كثيرة فرقها في أبواب الكتاب بحسب تناسبها، واعتنى فيه بآيات الأحكام فانتزع منها الدلالات البديعة، وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبل الوسيعة "(4).
3 -
سبب تصنيف الكتاب: لم تكن آثار النبي صلى الله عليه وسلم وأخباره مدونة في عصر الصحابة وكبار التابعين، وذلك لأمرين:
(1) قرية من قرى سمرقند، انظر: هدي الساري، لابن حجر، ص 493.
(2)
انظر: تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، 1/ 67. وسير أعلام النبلاء، للذهبي، 12/ 466 - 468، والبداية والنهاية، لابن كثير 11/ 27، وهدي الساري مقدمة فتح الباري، لابن حجر، ص 493.
(3)
هدي الساري، للحافظ ابن حجر ص 8، وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه " 1/ 73.
(4)
هدي الساري، لابن حجر، ص 8، وانظر: تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، 1/ 73.
أ- إنهم كانوا في ابتداء الأمر قد نهوا عن الكتابة خشية أن يختلط بعض الأخبار بالقرآن الكريم. ب- سعة حفظهم وقوته؛ ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة، ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار، وتبويب الأخبار لما انتشر العلماء في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار، وغيرهم، فألف عدد من علماء الإسلام مصنفات في أحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وكانت تشمل الأحاديث الصحيحة والحسنة، والضعيفة، فحرك ذلك همة البخاري لجمع الحديث الصحيح، وقوَّى عزيمته على ذلك ما سمعه من أستاذه ابن راهويه، قال الإمام البخاري: كنا عند إسحاق بن راهويه فقال: " لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال: فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع الجامع الصحيح (1).
4 -
مكانة الصحيح: قال الإمام النووي رحمه الله: " اتفق العلماء- رحمهم الله تعالى- على أن أصحَّ الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان: البخاري ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما، وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة، وقد صح أن مسلما كان ممن يستفيد من البخاري، ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث، وهذا الذي ذكرناه من ترجيح كتاب البخاري هو المذهب المختار الذي قاله الجمهور وأهل الإتقان والحذق والغوص على أسرار الحديث "(2). وكان يصلي ركعتي الاستخارة قبل أن يكتب كل حديث في الصحيح، كما كان يصليهما قبل أن يضع كل ترجمة. وقال:" صنعت الجامع من ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله "(3) وقال: " لم أخرج في الكتاب إلا صحيحا وما تركت من الصحيح أكثر "(4).
(1) انظر: تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، 1/ 74، وهدي الساري، لابن حجر، ص 6.
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم 1/ 14. وانظر: علوم الحديث، لابن الصلاح، ص 18، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1/ 74، وهدي الساري لابن حجر، ص 11.
(3)
هدي الساري ص 489، وانظر: تهذيب الأسماء واللغات 1/ 74.
(4)
سير أعلام النبلاء للذهبي، 12/ 471.
وقد بقي الإمام البخاري في تصنيف كتابه وتهذيبه ست عشرة سنة؛ لأنه جمعه من ألوف مؤلفة من الأحاديث الصحيحة (1).
5 -
شرط البخاري في صحيحه: شرط البخاري في جامعه أن يكون الراوي قد عاصر شيخه، وثبت عنده سماعه منه، ولم يشترط مسلم الثاني، بل اكتفى بالمعاصرة (2) وشرط البخاري أيضا " أن يخرج الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، ويكون إسناده متصلا غير مقطوع "(3).
6 -
عدد أحاديثه: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في مقدمة كتابه فتح الباري: قال الشيخ تقي الدين ابن الصلاح فيما رويناه عنه في علوم الحديث، عدد أحاديث صحيح البخاري (7275) سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثا بالأحاديث المكررة، قال: وقيل: إنها بإسقاط المكرر: (4000) أربعة آلاف. هكذا أطلق ابن الصلاح وتبعه الشيخ محيي الدين النووي (4).
ولكن الذي حرره ابن حجر رحمه الله عن عدد أحاديث صحيح الإمام البخاري رحمه الله أن المتون الموصولة بلا تكرار ألفا حديث وستمائة حديث وحديثان (2602). ومن المتون المعلقة المرفوعة التي لم يصلها في موضع آخر من الجامع المذكور (159) مائة وتسعة وخمسون حديثا فجميع ذلك: ألفا حديث وسبعمائة وواحد وستون حديثا (2761)(5).
ثم ذكر رحمه الله أن جملة ما في الكتاب من التعاليق: ألف وثلاثمائة وواحد وأربعون حديثا (1341) وأكثرها مكرر مخرج في الكتاب، أصول متونه، وليس فيه من المتون التي لم تخرج في الكتاب ولو من طريق أخرى إلا مائة
(1) انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي، 1/ 14.
(2)
اختصار علوم الحديث لابن كثير، المطبوع مع شرحه: الباعث الحثيث، لأحمد محمد شاكر، 1/ 103.
(3)
هدي الساري مقدمة صحيح البخاري، لابن حجر ص 9.
(4)
المرجع السابق، ص 465، وانظر: تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، 1/ 75، والباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، لابن كثير، شرح أحمد محمد شاكر، 1/ 106.
(5)
هدي الساري، ص 477.
وستون حديثا (160). إلى أن قال: " وجملة ما فيه من المتابعات والتنبيه على اختلاف الروايات: ثلاثمائة وواحد وأربعون حديثا "(341)(1).
ثم قال رحمه الله: " فجميع ما في الكتاب على هذا بالمكرر، تسعة آلاف واثنان وثمانون حديثا (9082). وهذه العدة خارجة عن الموقوفات على الصحابة، والمقطوعات عن التابعين فمن بعدهم. وقد استوعبت وصل جميع ذلك في كتاب (تغليق التعليق). وهذا الذي حررته من عدة ما في صحيح البخاري تحرير بالغ فتح الله به لا أعلم من تقدمني إليه، وأنا مقر بعدم العصمة من السهو والخطأ، والله المستعان "(2).
ثم ذكر رحمه الله سبب هذا التفاوت فيما حرره من عدد أحاديث الصحيح، وما حرره غيره كابن الصلاح وغيره، فقال:" ما عرفت من أين أتى الوهم في ذلك- أي العدد- ثم تأولته على أنه يحتمل أن يكون العادُّ الأول الذي قلدوه في ذلك إذا رأى الحديث مطولا في موضع ومختصرا في موضع آخر يظن أن المختصر غير المطول إما لبعد العهد به، أو لقلة المعرفة بالصناعة، ففي الكتاب من هذا النمط شيء كثير. وحينئذ يتبيَّن السبب في تفاوت ما بين العددين ". (3).
7 -
فوائد تقطيع البخاري للحديث، واختصاره، وإعادته في الأبواب؛ وتكراره: يذكر البخاري رحمه الله الحديث في مواضع، ويستدل به في كل باب بإسناد آخر، ويستخرج منه بحسن استنباطه وغزارة فقهه معنى يقتضيه الباب الذي أخرجه فيه (4) وقلما يورد حديثا في موضعين بإسناد واحد، ولفظ واحد، وإنما يورده من طريق أخرى لمعانٍ وفوائد، منها:
* يخرج الحديث عن صحابي ثم يورده عن صحابي آخر، ليخرج الحديث من الغرابة.
(1) هدي الساري، لابن حجر، ص 469.
(2)
المرجع السابق، ص 469.
(3)
المرجع السابق، ص 477.
(4)
انظر: الكفاية من علم الرواية، للخطيب البغدادي، ص 294.
* صحح أحاديث على هذه القاعدة يشتمل كل حديث منها على معانٍ متغايرة، فيورده في كل باب من طريق غير الطريق الأولى.
* أحاديث يرويها بعضهم تامة وبعضهم مختصرة فيوردها كما جاءت، ليزيل الشبهة عن ناقليها.
* الرواة ربما اختلفت عباراتهم، فحدَّث راوٍ بحديث فيه كلمة تحتمل معنى، وحدَّث به آخر، فعبَّر عن تلك الكلمة بعينها بعبارة أخرى تحتمل معنى آخر، فيورده بطرقه إذا صحت على شرطه، ويفرد لكل لفظة بابا مفردا.
* أحاديث تعارض فيها الوصل والإِرسال، ورجح عندهُ الوصل فاعتمده، وأورد الإرسال منبها على أنه لا تأثير له عنده في الوصل.
* أحاديث تعارض فيها الوقف والرفع، والحكم فيها كذلك.
* أحاديث زاد فيها بعض الرواة رجلا في الإِسناد، ونقصه بعضهم، فيوردها على الوجهين.
* ربما أورد حديثا عنعنه رَاوِيهِ، فيورده من طريق أخرى مصرحا فيها بالسماع على ما عُرِفَ من طريقته في اشتراط ثبوت اللقاء في المعنعن، فهذا جميعه فيما يتعلق بإعادة المتن الواحد في موضع آخر، أو أكثر.
أما تقطيعه للأحاديث في الأبواب تارة، واقتصاره منه على بعضه أخرى، فذلك؛ لأنه إن كان المتن قصيرا، أو مرتبطا بعضه ببعض، وقد اشتمل على حكمين فصاعدا؛ فإنه يعيده بحسب ذلك مراعيا مع ذلك عدم إخلائه من فائدة حديثية، وهي إيراده له عن شيخ سوى الشيخ الذي أخرجه عنه، ويستفاد من ذلك تكثير الطرق لذلك الحديث، وربما ضاق عليه مخرج الحديث، حيث لا يكون له إلا طريق واحدة، فيتصرف حينئذٍ فيه، فيورده في موضع موصولا وفي موضع معلقا، ويورده تارة تاما وتارة مقتصرا على طرفه الذي يحتاج إليه ذلك الباب، فإن كان المتن مشتملا على جملٍ متعددة لا تعلق لإحداها بالأخرى، فإنه يخرج كل جملة منها في باب مستقل فِرارا من التطويل،
وربما نشط فساقه بتمامه، فهذا كله في التقطيع (1).
ويتضح من ذلك أن البخاري رحمه الله لا يتعمد أن يخرج في كتابه حديثا معادا بجميع إسناده ومتنه، وإن وقع له شيء من ذلك فعن غير قصد (2).
8 -
فوائد تراجم الأبواب في صحيح البخاري وحِكَمها: مما جعل صحيح البخاري مقدما على غيره من كتب الحديث ما ضمَّنه أبوابه من التراجم التي تحار فيها الأفكار وأدهشت العقول والأبصار (3).
وضابط بيان أنواع التراجم في صحيح البخاري ما بينه الحافظ ابن حجر رحمه الله من أن التراجم فيه ظاهرة وخفية، أما الظاهرة فهي أن تكون الترجمة دالة بالمطابقة لما يورد في ضمنها، وإنما فائدتها الإعلام بما ورد في ذلك الباب من غير اعتبار لمقدار تلك الفائدة، كأن يقول: هذا الباب الذي فيه كذا وكذا، أو باب ذكر الدليل على الحكم الفلاني مثلا، وقد تكون الترجمة بلفظ المترجم له، أو بعضه، أو معناه، والترجمة هنا: بيان لتأويل الحديث نائبة مناب قول الفقيه مثلا: المراد بهذا الحديث العام الخصوص، أو بهذا الحديث الخاص العموم، إشعارا بالقياس؛ لوجود العلة الجامعة، أو أن ذلك الخاص المراد به هو أعم مما يدل عليه ظاهره بطريق الأعلى أو الأدنى، ويأتي في المطلق والمقيد مثل ذلك، وكذلك في شرح المشكل، وتفسير الغامض، وتأويل الظاهر، وتفصيل المجمل، وهذا الموضع هو معظم ما يشكل من تراجم هذا الصحيح؛ ولهذا اشتهر قول جمع من أهل العلم؛ " فقه البخاري في تراجمه " وأكثر ما يفعل البخاري ذلك إذا لم يجد حديثا على شرطه في الباب ويستنبط الفقه منه، وقد يفعل ذلك لشحذ الأذهان. وكثيرا ما يترجم بلفظ الاستفهام كقوله: باب هل يكون كذا أو من قال: كذا ونحو ذلك، وذلك حيث لا يتَّجِهُ له الجزم بأحد الاحتمالين، وغرضه بيان هل يثبت ذلك الحكم أو لم يثبت، فيترجم على الحكم ومراده، وما يفسر به بعد من إثباته أو نفيه، أو أنه محتمل
(1) انظر: هدي الساري لابن حجر، ص 15.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 16 و 17.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 13.
لهما. وكثيرا ما يترجم بأمر ظاهره قليل الجدوى لكنه إذا حققه المتأمل أجدى كقوله: " باب قول الرجل ما صلينا " فإنه أشار به إلى الرد على من كره ذلك. وكثيرا ما يترجم بأمر مختص ببعض الوقائع لا يظهر في بادئ الرأي كقوله: " باب استياك الإمام بحضرة رعيته " فإنه لما كان الاستياك قد يظن أنه من أفعال المهنة، فلعل بعض الناس يتوهَّمُ أن إخفاءه أولى مراعاة للمروءة، فلما وقع في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استاك بحضرة الناس، دل على أنه من باب التطيب لا من الباب الآخر. وكثيرا ما يترجم بلفظٍ يومئ إلى معنى حديث لم يصح على شرطه، أو يأتي بالحديث الذي لم يصح على شرطه صريحا في الترجمة، ويورد في الباب ما يؤيد معناه تارة بأمر ظاهر، وتارة بأمر خفي، وربما اكتفى بلفظ الترجمة التي هي لفظ حديث لم يصح على شرطه، وأورد معها أثرا أو آية، فكأنه يقول: لم يصح في الباب شيء على شرطي. وغير ذلك من الفوائد والحكم التي لا تحصى (1) وقد اعتنى بعض العلماء فجمع أربعمائة ترجمة وتكلم عليها كلاما نافعا مفيدا (2) وزاد بعضهم أكثر من ذلك (3).
(1) انظر: هدي الساري ص 13، 14.
(2)
وهو العلامة ناصر الدين أحمد بن المنير خطيب الإسكندرية (620 - 683) في كتابه: " المتواري على تراجم البخاري ". انظر الكتاب المذكور ص 33 - 433.
(3)
وهو القاضي بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة (ت 733 هـ) فقد لخص كتاب ابن منير المذكور وزاد على ما فيه أشياء مفيدة، وسماه " تراجم البخاري ". انظر ص 98 - 282 من الكتاب المذكور.