الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[حديث أمر أبي بكر زيد بن ثابت بنسخ المصحف]
29 -
[2807] حَدَّثَنَا أَبو الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شعيب، عنِ الزهريِّ حِ، وحَدَثَنَا إِسْمَاعِيل قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سلَيْمَانَ، أرَاه عَنْ محَمَّدِ بنِ أِبِي عَتِيقٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، رضي الله عنه، (1). قَال: " نَسَخْت الصّحفَ فِي المَصَاحِفِ فَفَقَدْت آية مِنْ سورِةِ الأَحْزَابِ كنْت أَسْمَع رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقْرَأ بِهَا، فَلَمْ أَجِدْهَا إِلّا مَعَ خزَيْمةَ بْنِ ثَابتٍ (2). الأنصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم شَهَادَتَه شَهَادَةَ رَجلَينِ، وَهَو قوله:(3)
(1) زيد بن ثابت بن الضحاك الصحابي الجليل، رضي الله عنه، شيخ المقرئين والفرضيين، مفتي المدينة، كاتب الوحي، كان أحد الأذكياء، هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وعمره إحدى عشرة سنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمن اليهود على كتابه، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله " أتحسن السريانية؟ " قال زيد: قلت: لا. فأمره صلى الله عليه وسلم أن يتعلم كتاب اليهود حتى كتب للنبي صلى الله عليه وسلم كتبه وأقرأه كتبهم إذا كتبوا إليه صلى الله عليه وسلم. انظر: البخاري مع الفتح 13/ 185، برقم 7195، وزيد بن ثابت أفرض الأمة، وهو من الراسخين في العلم، وعندما مات زيد رضي الله عنه جلس الناس إلي ابن عباس رضي الله عنهما فقال: هكذا ذهب العلماء دفِنَ اليوم علم كثير، وقد اعتمد عليه الصديق في جمع القرآن الكريم في الصحف، فجمعه من: الصحف، والرقاع، والأكتاف، والأقتاب، والعسب، واللخاف، وصدور الرجال. شهد زيد الخندق وما بعدها من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان وتسعون حديثا اتفق البخاري ومسلم على خمسة، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بحديث، وتوفي رضي الله عنه بالمدينة، سنة أربع وخمسين، وقيل غير ذلك. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1/ 200 - 201، وسير أعلام النبلاء للذهبي 2/ 426 - 441، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1/ 561.
(2)
خزيمة بن ثابت بن عمارة بن الفاكِه، الفقيه أبو عمارة الأنصاري، ذو الشهادتين، الصحابي الجليل، رضي الله عنه، شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم بدرا وما بعدها [قاله النووي] وقال الذهبي: والصواب أنه شهد أحدا وما بعدها، وكان خزيمة وعمير بن عدي يكسران أصنام بني خطمة، وكانت راية خطمة بيده يوم فتح مكة، وشهد مع علي رضي الله عنه الجمل وصفين ولم يقاتل فيهما، فلما قتل عمار بن ياسر رضي الله عنه بصفين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " تقتل عمارا الفئة الباغية أخرجه مسلم في صحيحه، 4/ 2236، برقم 2916، فلما قتل ابن ياسر سل سيفه خزيمة وقاتل حتى قتل، وذلك سنة سبع وثلاثين، وله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وثلاثون حديثا، ومن أجل مناقبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل شهادته شهادة رجلين، فكان يسمى ذا الشهادتين، ومن حرصه على تقييد العلم وجدت آية سورة الأحزاب مكتوبة عنده عندما جمع زيد بن ثابت القرآن. رضي الله عنه ورحمه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات، للنووي 1/ 175، وسير أعلام النبلاء للذهبي 2/ 485، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1/ 425.
(3)
[الحديث 2807] أطرافه في: كتاب المغازي، باب غزوة أحد، 5/ 37، برقم 4049. وكتاب تفسير القرآن، 9 سورة براءة، باب قوله (لَقَدْ جَاءَكمْ رَسول مِنْ أَنْفسِكمْ عَزِيز عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيص عَلَيْكمْ بِالْمؤْمِنِينَ رَءوف رَحِيم)، 5/ 250، برقم 4679. وكتاب تفسير القرآن، 23 سورة الأحزاب، باب (فَمِنْهمْ مَنْ قَضَى نَحْبَه وَمِنْهمْ مَنْ يَنْتَظِر وَمَا بَدَّلوا تَبْدِيلا)، 6/ 26، برقم 4784. وكتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، 6/ 119، 120، 121، برقم 4986، وبرقم 4988. وكتاب فضائل القرآن، باب كاتب النبي صلى الله عليه وسلم، 6/ 121، برقم 4989. وكتاب الأحكام، باب يستحب للكاتب أن يكون أمينا عاقلا، 8/ 151، برقم 7191. وكتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء، وهو رب العرش العظيم، 8/ 223، برقم 7425.
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23](1).
وفي رواية: " فَألحَقْنَاها في سورَتهَا فيِ المصْحَفِ "(2).
وفي رواية: أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: " أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبو بَكْرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَة وَعِنْدَه عمَر بن الخطاب رضي الله عنه، فَقَالَ أَبو بَكْرٍ: إِنَّ عمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ القَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ اليَمَامَةِ بِقرّاءِ القرْانِ، وَإِنِّي أَخْشَى إِنِ اسْتَحَرَّ القَتْل بِالقرَّاءِ بِالمَوَاطِن فَيَذْهَب كَثِيْر مِنِ القرْآنِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمرَ بجَمْع القرْانِ. قَالَ أَبو بَكْرٍ: قلْت لِعمَرَ: كَيْفَ تَفْعَل شيئا لَمْ يَفْعَلْه رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ عمر: هَذَا وَاللهِ خَيْر. فَلَمْ يَزَلْ عمَر يرَاجِعنِي حَتَّى شَرَحَ الله صَدْرِي لِذَلِكَ، وَرَأَيْت فِي ذَلِكَ الذِي رَأَى عمَر. قَالَ زَيْد: وَعمَر عِنْدَه جَالِس لَا يَتكَلَّم - فَقَالَ أَبو بَكْرٍ: إٍنكَ رَجل: شَابّ عَاقِل، وَلَا نَتَّهمكَ، وَكنْتَ تَكْتب الوَحْيَ لِرَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فتَتبّع القرْآنَ فَاجْمَعْه. فَوَاللهِ لَوْ كلّفوني نَقْلَ جَبَلٍ مِن الجبَالِ مَا كَان أَثْقَلَ عَليَّ مِمّا أَمَرَني بهِ مِنْ جَمْعِ القرآنِ. قلْت: كَيْفَ تَفْعَلانِ شيئا لَمْ يَفْعَلْه رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ أبو بَكْرٍ: هوَ واللهِ خَيْر. فَلَمْ أَزَلْ أرِاجِعه حَتَّى شَرَحَ الله صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَه صَدْرَ أَبِي بكْرٍ وَعمَرَ رضي الله عنهما. فقمْت فَتَتبّعْت القرْآنَ أَجْمَعه: مِنِ الرقَّاعِ، وَالأَكْتَافِ، وَالعسبِ [واللِّخَافِ]، وَصدورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْت آخِرَ سورةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خزَيْمَةَ الأنصَارِي. . "(3).
وفي رواية: " حَتَّى وَجَدْت مِنْ سورَةِ التَّوبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خزَيمةَ الأنصَارِي (4) لَمْ
(1) سورة الأأحزاب، الآية:(23).
(2)
من الطرف رقم 4049.
(3)
الطرف رقم: 4986، وانظر: الطرف رقم 4679.
(4)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " والأرجح أن الذي وجد معه آخر سورة التوبة: أبو خزيمة بالكنية، والذي وجد معه الآية: من الأحزاب: خزيمة، وأبو خزيمة قيل: هو ابن أوس بن زيد بن أصرم مشهور بكنيته دون اسمه، وقيل: هو الحارث بن خزيمة. وأما خزيمة فهو ابن ثابت ذو الشهادتين كما تقدم صريحا في سورة الأحزاب "[يعني رحمه الله حديث رقم 2807] فتح الباري 9/ 15، وقيل:" كانتا كلتاهما مكتوبتين عند خزيمة بن ثابت رضي الله عنه ولا محذور في ذلك " انظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري 18/ 46، وقيل: كلها عند خزيمة بن ثابت، رضي الله عنه، لكن آية الأحزاب عند النقل من الصحف إلى المصحف، وآيتي التوبة عند النقل من العسب إلى الصحف. انظر: شرح الكرماني السابق 24/ 230. والأرجح والله أعلم ما قاله ابن حجر رحمه الله؛ لموافقته للطرف رقم 4986.
أَجِدْهمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِه (1). {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ} [التوبة: 128](2) إِلى آخِرِهَا ". وَكَانَتْ الصّحف الَّتِي جمعَ فِيْهَا الْقرْآن عِنْدَ أَبِي بَكر حتى تَوَفَّاه الله، ثمَّ عِنْدَ عمَرَ حَتَّى تَوَفَّاه الله، ثمَ عند حَفْصَةَ بِنْتِ عمَرَ [رضي الله عنهم](3).
* شرح غريب الحديث: * " استحرَّ ": كثر واشتدَّ؛ لأن المكروه غالبا يضاف إلى الحر، كما أن المحبوب يضاف إلى البرد، يقولون: أسخن الله عينه، وأقرَّ الله عينه (4).
* " انشراح الصدر " سعته، وانفساحه، وتقبله للخير (5).
* " العسب " جمع عسيب: وهو جريد النخل (6).
* " الأكتاف " الكتف عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان كانوا يكتبون عليه لقلة القراطيس عندهم (7).
* " اللخاف " حجارة بيض رقاق، واحدتها لخفة، وقيل: هي الخزف (8).
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
(1) أي لم يجدها مكتوبة مع أحد غيره، أما الحفظ فكثير من الصحابة يحفظها. انظر: فتح الباري لابن حجر، 9/ 15، 8/ 518، وعمدة القاري للعيني 8/ 282.
(2)
سورة التوبة، الآيتان (128 - 129).
(3)
من الطرف رقم 4679.
(4)
انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي ص 36، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الراء، مادة:" حرر " 1/ 364.
(5)
تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي، ص 360.
(6)
المرجع السابق ص 36، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب العين مع السين، مادة:(عسب) 3/ 234.
(7)
النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الكاف مع التاء، مادة:" كتف " 4/ 150.
(8)
تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 36، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، مادة:" لخف " 4/ 244.
1 -
من صفات الداعية الفطنة والذكاء.
2 -
أهمية تقييد العلم وضبطه بالكتابة.
3 -
من صفات الداعية: العقل السليم، والنشاط، والأمانة، والخبرة.
4 -
حرص الصحابة رضي الله عنهم على العناية بالقرآن الكريم.
5 -
حرص الصحابة رضي الله عنهم على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
6 -
من أساليب الدعوة: الحوار.
7 -
أهمية اختيار الداعية الصالح للأمور المهمة.
8 -
حرص السلف الصالح على الدقة في ضبط الرواية.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: الفطنة والذكاء: جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بن ثابت رضي الله عنه شهادة رجلين؛ لِمَا رأى فيه من الفطنة والذكاء، وسبب ذلك أن «النبي صلى الله عليه وسلم اشترى فرسا من أعرابي، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع رسول الله المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق (1). رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه، فنادى الأعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعا هذا الفرس وإلا بعته، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع كلام الأعرابي فقال: " أوليس قد ابتعته منك؟ " فقال الأعرابي: لا، والله ما بعتكه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بلى قد ابتَعته منك " فطفق الأعرابي يقول: هَلمَّ شَهِيدا، فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: " بِمَ تَشْهَد؟ " فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين» (2).
(1) طفق: أخذ في الفعل وجعل يفعل، وهي من أفعال المقاربة. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الطاء مع الفاء، مادة:" طفق " 3/ 129.
(2)
أخرجه أبو داود، في كتاب الأقضية، باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به، 3/ 308، برقم 3607، عن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والنسائي، في كتاب البيوع، باب التسهيل في ترك الإشهاد على البيع، 7/ 301، برقم 4647، وصححه الألباني في صحيح أبي داود 2/ 688.
قال ابن حجر رحمه الله في فوائد حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه: " وفيه فضيلة الفطنة في الأمور، وأنها ترفع منزلة صاحبها؛ لأن السبب الذي أبداه خزيمة حاصل في نفس الأمر يعرفه غيره من الصحابة، وإنما هو؛ لِمَا اختص بِتَفَطنِهِ لما غفل عنه غيره مع وضوحه، وجوزِيَ على ذلك بأن خصَّ بفضيلة من شَهدَ له خزيمة أو عليه "(1).
وهذا يبين أهمية الفطنة والذكاء وأن الداعية ينبغي له أن يكون فطنا ذكيا، ويسأل الله عز وجل أن يوفقه لذلك.
ثانيا: أهمية تقييد العلم وضبطه بالكتابة: ظهر في هذا الحديث أهمية ضبط العلم بالكتابة؛ ولهذا ظهرت فائدة ضبط خزيمة بن ثابت رضي الله عنه آية الأحزاب بالكتابة فوجدها زيد بن ثابت عنده مكتوبة ولم يجدها عند غيره؛ ولهذه الأهمية أمر أبو بكر بجمع القرآن وكتابته في الصحف، ووافقه عمر، وزيد، رضي الله عنهم، فنفع الله بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ وقد اعتنى الصحابة، ومن بعدهم من التابعين وأتباعهم بإحسان، بضبط العلم بالكتابة، وأوصوا بذلك، فعن خالد بن خداش قال: وَدَّعْت أنس بن مالك فقلت يا أبا عبد الله أوصني. فقال: " عليك بتقوى الله في السر والعلانية، والنصح لكل مسلم، وكتابة العلم من عند أهله "(2).
وعن سليمان بن موسى قال: " يجلس إلى العالم ثلاثة: رجل يأخذ كل ما يسمع فذلك حاطب ليل، ورجل لا يكتب ويسمع فيقال له: جليس العالم، ورجل ينتقي وهو خيرهم [وذلك العالم] "(3). وقال الخليل بن أحمد: " ما سمعت شيئا إلا كتبته، ولا كتبته إلا حفظته، ولا حفظته إلا نفعني "(4).
فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يحرص على كتابة العلم عن أهله، ومراجعته
(1) فتح الباري، 8/ 519.
(2)
جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر 1/ 245، 322 برقم 275، 418.
(3)
المرجع السابق 1/ 328، برقم 429.
(4)
المرجع السابق 1/ 335، بر قم 447.
حتى يحفظه ويعمل به؛ لأن الجمع بين الكتابة والحفظ من تمام الضبط، والعلم صيد فليقيد بالكتابة.
ثالثا: من صفات الداعية: العقل السليم، والنشاط، والأمانة، والخبرة: دل الحديث على هذه الصفات الأربع، لقول أبي بكر - بحضرة عمر - لزيد بن ثابت رضي الله عنهم:" إنك رجل شاب، عاقل، ولا نتهمك، وكنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم " وهذه الصفات بشيء مْن التفصيل على النحو الآتي:
1 -
العقل السليم: قال العلامة الأصفهاني رحمه الله: " العقل يقال للقوة المتهيِّئة لقبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الإِنسان بتلك القوة: عقل. . . "(1). ثم بَيَّنَ رحمه الله أن كل موضع في القرآن الكريم رفع فيه التكليف عن العبد لعدم العقل فإشارة إلى الأول، وأن الثاني هو المعني بقوله تعالى:{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43](2). فاتضح أن العقل السليم: هو المتصف بالعلم النافع والعمل الصالح (3). وقد جاء في كلام العلامة القسطلاني على قول أبي بكر رضي الله عنه لزيد: " إنك. . . عاقل ولا نتهمك " قوله رحمه الله: " فيه تمام معرفته، وغزارة علمه، وشدة تحقيقه، وتمكنه من هذا الشأن "(4).
وهذا يبيِّن للداعية أهمية الاتصاف بالعقل السليم؛ ولهذا ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن زيد بن ثابت رضي الله عنه: " لو لم تثبت أمانته وكفايته، وعقله، لما استكتبه النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، وإنما وصفه بالعقل وعدم الاتهام دون ما عداهما إشارة إلى استمرار ذلك له، وإلا فمجرد قوله " لا نتهمك " مع قوله " عاقل " لا يكفي في ثبوت الكفاية والأمانة، فكم من بارع في العقل والمعرفة وجدت منه الخيانة "(5).
(1) مفردات ألفاظ القرآن الكريم، ص 577.
(2)
سورة العنكبوت، الآية (43).
(3)
انظر: مفردات ألفاظ القرآن الكريم للأصفهاني ص 578.
(4)
إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، 7/ 447.
(5)
فتح الباري 13/ 184.
2 -
النشاط: ظهر في الحديث أن النشاط صفة من صفات الداعية؛ ولهذا بين العلامة القسطلاني رحمه الله في شرحه لقوله: " إنك رجل شاب " قال في ذلك: " إشارة إلى نشاطه وقوته فيما يطلب منه، وبعده عن النسيان، وحدة نظره، وضبطه وإتقانه "(1).
وهذا يوضح للداعية أهمية النشاط وعدم الكسل، وأن يستعين بالله - تعالى -ولا يعجز ولا يكسل (2).
3 -
الأمانة: يظهر في الحديث أن الأمانة صفة من صفات الداعية؛ قال العلامة العيني رحمه الله على قوله: " ولا نتهمك وكنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ": " وكتابة الوحي تدل على أمانته الغاية، وكيف وكان من فضلاء الصحابة ومن أصحاب الفتوى "(3). وقال العلامة القسطلاني رحمه الله: " ولا نتهمك ": " بكذب ولا نسيان، والذي لا يتهم تركن النفس إليه "(4).
وهذا يبين أن الأمانة صفة لابد منها للداعية إلى الله سبحانه وتعالى قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27](5).
4 -
الخبرة: دل الحديث على أن الخبرة والممارسة صفة من صفات الداعية؛ ولهذا قال أبو بكر رضي الله عنه لزيد بن ثابت رضي الله عنه: " وكنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم " قال القسطلاني رحمه الله: " فهو أكثر ممارسة له من غيره "(6). ولا شك أن الخبرة والتجارب تعين الداعية إلى الله، عز وجل، وبها يعرف أحوال الناس، فيدعو إلى الله على بصيرة.
وهذه الصفات الأربع المتقدمة آنفا من أعظم صفات الدعاة إلى الله عز وجل؛
(1) انظر: إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 7/ 163، 7/ 447.
(2)
انظر: الحديث رقم 14، الدرس الرابع.
(3)
عمدة القاري 18/ 281.
(4)
إرشاد الساري 7/ 163، 447، وانظر: 5/ 46.
(5)
سورة الأنفال، الآية:(27).
(6)
إرشاد الساري، 7/ 163.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى - في وصف أبي بكر لزيد بن ثابت رضي الله عنهما: " ذكر له أربع صفات مقتضية خصوصيته بذلك: كونه شابا فيكون أنشط لما طلب منه، وكونه عاقلا فيكون أوعى له، وكونه لا يتهم فتركن النفس إليه، وكونه كان يكتب الوحي فيكون أكثر ممارسة له. وهذه الصفات التي اجتمعت له قد تكون في غيره، لكن مفرقة "(1).
فينبغي للداعية أن يكون عاقلا، نشيطا، أمينا، مجربا عارفا بالأمور على وجهها. والله المستعان.
رابعا: حرص الصحابة رضي الله عنهم على العناية بالقرآن الكريم: لا شك أن الله عز وجل قد تكفل بحفظ القرآن الكريم، بقوله تعالى (:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9](2) وقال عز وجل: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42](3) ومن حفظ الله له سبحانه وتعالى أن قيَّض له من يعتني به. وقد دل هذا الحديث على عناية الصحابة رضي الله عنهم بالقرآن الكريم، والقرآن الكريم كان مجموعا كله في صدور الرجال أيام حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روى البخاري - رحمه الله تعالى - عن أنس رضي الله عنه قال:" جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار: أبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد "(4). وقد كان لهؤلاء شركاء من الصحابة رضي الله عنهم يحفظونه كله، ولكن هؤلاء أشد اشتهارا به، وأكثر تجريدا للعناية بقراءته، ثم جمِعَ القرآن الكريم في المصحف بإتقان من أبي بكر وعمر وهما من الخلفاء الراشدين المأمور بالاقتداء بهم، ووافقهما عثمان، وزيد بن ثابت كاتب الوحي، ثم اتفق الملأ من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين على أن ما بين الدفتين قرآن منزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا في شيء منه (5).
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 9/ 13، وانظر: 3/ 184.
(2)
سورة الحجر، الآية:(9).
(3)
سورة فصلت، الآية:(42).
(4)
البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، 6/ 125، برقم 5003.
(5)
انظر: أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، للإمام حَمد بن محمد الخطابي، 3/ 1852 - 1860.
فينبغي للدعاة إلى الله عز وجل العناية بالقرآن الكريم: تَعلما، وحفظا، وتدبرا، وعملا، ودعوة إليه.
خامسا: حرص الصحابة رضي الله عنهم علي الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم: دل هذا الحديث على حرص الصحابة رضي الله عنهم على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما حينما طلب منه أن يجمع القرآن: " كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " وقال هذه الكلمة زيد بن ثابت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهم: " كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ". وهذا يدل على أن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم صفة عظيمة من صفات الصحابة. وينبغي للداعية أن يتصف بهذه الصفة ويحرص عليها أشد الحرص؛ قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21](1).
سادسا: من أساليب الدعوة: الحوار: لا شك أن الحديث دل على أسلوب الحوار، وذلك لما حصل بين أبي بكر وعمر، ثم زيد بن ثابت رضي الله عنهم من الحوار الهادئ، في مسألة جمع القرآن الكريم، ثم اتفقوا بعد هذا الحوار على جمع القرآن الكريم، والحوار في الحقيقة هو مراجعة الكلام وتداوله بين طرفين (2). وقد جاء في كتاب الله عز وجل في مواضع منها قو له سبحانه وتعالى:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1](3) فعلى هذا يكون الحوار أسلوبا نافعا من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل.
فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يعتني بهذا الأسلوب، ويراعي آدابه وشروطه حتى يكون على بصيرة من أمره. والله المستعان (4).
(1) سورة الأحزاب، الآية:(21).
(2)
انظر: تفسير الطبري " جامع البيان عن تأويل آي القرآن "، 18/ 23، ومفردات القرآن الكريم للراغب الأصفهاني ص 262.
(3)
سورة المجادلة، الآية:(1).
(4)
انظر: الحوار: آدابه وضوابطه في ضوء الكتاب والسنة، يحيى بن محمد زمزمي، ص 115، ص 275، ص 425.
سابعا: أهمية اختيار الداعية الصالح للأمور المهمة: إن من الأمور المهمة التي ينبغي العناية بها أن يختار الإمام أو نائبه الداعية الصالح للأمور المهمة؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه اختار زيد بن ثابت لجمع القرآن الكريم؛ لما علم من قوته، وعلمه، وخبرته، ونشاطه لهذا الأمر العظيم؛ ولهذا قال أبو بكر رضي الله عنه لزيد رضي الله عنه:" إنك رجل، شاب، عاقل، ولا نتهمك، وكنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه "، وهذه الصفات الكريمة جعلت أبا بكر يختار زيد بن ثابت لجمع القرآن الكريم (1).
ثامنا: حرص السلف الصالح على الدقة في ضبط الرواية: إن من الصفات الحميدة، والأخلاق الكريمة، الحرص على الدقة في ضبط الرواية؛ ولهذه الأهمية اعتنى السلف الصالح رضي الله عنهم بذلك عناية فائقة، وقد ظهرت هذه الصفة في هذا الحديث؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم اعتنوا بتتبع القرآن من أفواه الرجال، ومن النظر في المكتوب في الصحف حتى يوافق ما حفظ ما كتب فبذلك يحصل اليقين الذي لا يتطرق إليه شك بوجه من الوجوه أن هذا القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. فينبغي الاقتداء بالسلف الصالح في الحرص على الدقة في ضبط الرواية (2). والله المستعان (3).
(1) انظر: الحديث رقم 67، الدرس الخامس، ورقم 136، الدرس الأول.
(2)
انظر: فتح الباري لابن حجر، 8/ 518، و 9/ 15، وعمدة القاري للعيني، 8/ 282.
(3)
انظر: الحديث رقم 21، الدرس العاشر.