الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
456 - " بَابُ ما جَاءَ في عَذَابِ الْقَبْرِ
"
532 -
عن عَائِشَةَ رضي الله عنها:
أنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فذكَرَتْ عذابَ الْقَبْرِ، فَقَالَتْ لَهَا: أعاذَكِ اللهُ من عذَابِ الْقَبْرِ، فسألَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن عَذَابِ الْقَبْرِ، فَقَالَ:" نَعَمْ عَذَابُ القبْرِ " قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فما رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعدُ صَلَّى صَلَاةً إلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.
ــ
456 -
" باب ما جاء في عذاب القبر "
532 -
معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث " أن يهودية دخلت عليها، فذكرت عذاب القبر " وفي رواية أبي وائل عن مروان عن عائشة رضي الله عنها: " دخلت عجوزان من يهود المدينة فقالتا إن أهل القبور يعذبون في قبورهم "، قال الحافظ: وهو محمول على أن إحداهما تكلّمت وأقرّتها الأخرى، قال: ولم أقف على اسم واحدة منهما. قالت عائشة في هذه الرواية فكذبتهما، وإنما كذبتهما لأنّها لم تسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما يثبت ذلك، " فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر " هل هو حق أم لا، " فقال: نعم عذاب القبر " أي نعم عذاب القبر للكفار والمنافقين والعصاة حق ثابت لا شك فيه، كما جاء في رواية أخرى " أن النبي صلى الله عليه وسلم أجابها بقوله: "عذاب القبر حق"، وقد جاء ذلك مبيناً ومفصلاً في الأحاديث الصحيحة وسيأتي إيضاحه فيما يستفاد من الحديث. " قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر "، أي فكان بعد ذلك لا يصلّي صلاة فرضاً أو نفلاً إلَّا تعوذ في آخرها بعد التشهد من عذاب القبر.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إثبات عذاب القبر للكفار والمنافقين والعصاة، وكونه حقيقة ثابتة، وقضية معروفة مسلم بها في جميع الأديان السماوية، بدليل أن اليهودية ذكرته لعائشة، وأخبرتها عنه.
وقد تكاثرت فيه الأحاديث والأخبار الصحيحة. فروي عن عائشة رضي الله عنها " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أهل القبور يعذّبون في قبورهم عذاباً تسمعه البهائم " أخرجه الشيخان وابن أبي شيبة. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنيناً يلدغه حتى تقوم الساعة " أخرجه أحمد وأبو يعلى (1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المؤمن في قبره في روضة ويرحب له قبرُه سبعون ذراعاً، وبنور له كالقمر ليلة البدر، أتدرون فيما أنزلت هذه الآية (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده إنّه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنيناً ينفخون في جسمه ويلسعونه، ويخدشونه إلى يوم القيامة " أخرجه أبو يعلى (2). وعن يعلى بن مرة قال:" مررت مع النبي على مقابر، فسمعت ضغطة في قبر فقلت: يا رسول الله سمعت ضغطة في قبر، قال: وسمعت يا يعلى: قلت: نعم، قال: فإنه يعذب في يسير من الأمر، قلت: وما هو؟ قال: كان يمشي بين الناس بالنميمة، وكان لا يتنزّه عن البول " أخرجه البيهقي في " دلائل النبوة ". وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل الله ويدعوه حتى صارت واحدة، فامتلأ قبره عليه ناراً، فلما ارتفع عنه أفاق، فقال: علام جلدتموني، قالوا: إنك صليت بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره " أخرجه أبو الشيخ (3) وعن أبي سعيد الخدري في حديث طويل جاء فيه: "وإذا دفن
(1) قال الهيثمي في " مجمع الزوائد "(3/ 55) وأبو يعلى موقوفاً، وفيه دراج، وفيه كلام، وقد وثق (ع).
(2)
انظر " مجمع الزوائد "(3/ 55) في سنده دراج أبو السمح، وهو صدوق في حديثه عن أبي الهيثم ضعيف (ع)
(3)
" شرح الصدور للسيوطي ".
العبد الفاجر أو الكافر يقول القبر له: لا مرحباً ولا أهلاً، أما إنك كنت لمن أبغض من يمشي على ظهري إليّ، فإذ وُلِّيتُكَ اليوم، وصرت إلي فسترى صنيعي بك، فيلتئم عليه، حتى تلتقي وتختلف أضلاعه، وقال صلى الله عليه وسلم بأصابع يديه فشبكهما: ثم يُقَيَّض له تسعون تنيناً، أو قال: تسعة وتسعون، لو أن واحداً منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئاً ما بقيت الدنيا، فتنهشه وتخدشه حتى يبعث إلى الحساب، والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار " (1). فهذه الأحاديث كلها أثبتت عذاب القبر للكافر والعاصي. وقد كثرت الأحاديث في عذاب القبر حتى قال غير واحد: إنها متواترة، ولا يصح عليها التواطؤ (2). وقال ابن القيم (3): عذاب القبر قسمان: دائمٌ، وهو عذاب الكفار وبعض العصاة. ومنقطع وهو عذاب من خفت جرائمهم من العصاة، فإنه يعذب بحسب جريمته، ثم يرفع عنه، وقد يرفع عنه بدعاء أو صدقة ونحو ذلك. اهـ. قال العلماء (4): عذاب القبر هو عذاب البرزخ، أضيف إلى القبر لأنه الغالب، وإلا فكل ميت إذا أراد الله تعذيبه نَالَهُ ما أراد به، قُبِرَ أو يُقْبَر، ولو صلب. أو غرّق في البحر، أو أكلته الدواب، ْأو أحرق حتى صار رماداً أو ذري في الريح، ومحله الروح والبدن جميعاً، باتفاق أهل السنة، وكذا القول في النعيم، كما أفاده السيوطي. ثانياًً: أنه يستحب التعوذ من عذاب القبر في آخر كل صلاة بعد التشهد، وقبل السلام، لقول عائشة رضي الله عنها في حديث الباب:" فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدُ صلّى صلاةً إلاّ تعوذ من عذاب القبر ". أمّا الصيغة المأثورة في ذلك فهي كما جاء في حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو:
(1)" جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد " ج 1.
(2)
" شرح القسطلاني على البخاري " ج 2.
(3)
" شرح الصدور، للسيوطي.
(4)
أيضاً " شرح الصدور " للسيوطي.
533 -
عن أسمَاءَ بِنْتِ أبي بَكْرٍ رضي الله عنها قَالَتْ:
" قَامَ فينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيباً، فذكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِْ التي يُفتَتَنُ بِهَا المَرْءُ، فلَما ذَكَرَ ذَلكَ ضَج الْمُسْلِمُونَ ضَجَّةً ".
ــ
" اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال " أخرجه الشيخان. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله صلى الله عليه وسلم: " نعم عذاب القبر ".
533 -
معنى الحديث: تقول أسماء بنت أو بكر رضي الله عنها: " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً، فذكر فتنة القبر "، يعني وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يخطب في الناس ويعظهم ويذكرهم الدّار الآخرة، حتى تطرّق إلى القبر وأحواله، وذكر فتنة القبر، والمراد بفتنة القبر: سؤال الملكين منكر ونكير للعبد عن ربه ونبيّه ودينه وسمي بذلك لأنه فتنة عظيمة يختبر بها إيمان العبد ويقينه، فمن وفق في هذا الاختبار فاز، ومن فشل هلك. قالت:" فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة " أي صاحوا صيحة عظيمة هلعاً وخوفاً من فتنة القبر. الحديث: أخرجه البخاري والنسائي.
فقه الحديث: دل الحديث على إثبات سؤال الملكين للعبد في قبره، وقد سمّاه النبي صلى الله عليه وسلم فتنة " لما ذكرناه في شرح الحديث " ودل عليه القرآن الكريم في قوله تعالى:(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ)، أي ويثبتهم عند سؤال الملكين، ويوفقهم إلى الجواب الصحيح ويكون السؤال لكل ميت مسلماً كان أو كافراً، طائعاً أو عاصياً. قال ابن القيم: وفي الكتاب والسنة دليل على أن السؤال للكافر والمسلم قال الله تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ) قلت: ويدل على ذلك أحاديث كثيرة منها ما روي
عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً: " إذا وضع العبد في قبره أتاه ملكان فانتهراه، فقام يهب كما يهب النائم فيقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: الله ربي، والإسلام، ديني، ومحمد نبيي، فينادى منادٍ أن قد صدق فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، يقول: دعوني أخبر أهلي، فيقال له: اسكن ".
أخرجه البيهقي. وفي رواية عن أنس رضي الله عنه: " فإن كان كافراً يقولان: من ربك قال: لا أدرى. قالا: من نبيك قال: لا أدرى قالا: من إمامك؟ قال: لا أدري، فيضربانه بعمود ضربة حتى يلتهب عليه القبر ناراً ويضيق عليه حتى تختلف أضلاعه " أخرجه الديلمي. قال القسطلاني: وهل يسأل الطفل، الذي لا يميّز، جزم القرطبي في " تذكرته " أنه يسأل، وهو منقول عن الحنفية، وجزم به غير واحد من الشافعية. وقد صح أن المرابط في سبيل الله لا يفتتن، كما في حديث مسلم وغيره، وكذلك شهيد المعركة، والصابر في الطاعون الذي لا يخرج من البلد الذي وقع فيه قاصداً بإقامته ثواب الله، راجياً صدق موعوده، لحديث البخاري والنسائي عن عائشة مرفوعاً:" فليس من رجل يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلاّ ما قد كتبه الله له إلاّ كان له مثل أجر شهيد " ووجه الدليل أن الصابر في الطاعون نظير المرابط في سبيل الله، وقد صح أن المرابط لا يفتتن. والصحيح الذي رجحه ابن القيم أن سؤال القبر لا يختص بهذه الأمّة، وإنما هو لجميع الأمم، لأنه ليس في الأحاديث الصحيحة ما يقتضي ذلك. ولا شك أن سؤال القبر عذاب للكافر والمنافق، لأنهما إذا سئلا ولم يجيبا عُذِّبا أشد العذاب، وضربا بمطارق من حديد، كما في الحديث عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" وأما المنافق والكافر، فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول: لا أدرى، كنت أقول ما يقوله الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين ". أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " فذكر فتنة القبر "، أي سؤال الملكين.