الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة ص
سورةُ ص مكيَّةٌ، وقد حكى الإجماعَ غيرُ واحدٍ مِن العُلَماءِ؛ وبذلك قال ابنُ عبَّاسٍ (1)، وقد حكى الدَّانِيُّ لبعضِهم أنَّها مَدَنيَّةٌ (2)؛ وهو قولٌ غريبٌ.
ذكَرَ اللَّهُ في سورةِ ص القرآنَ، وأقسَمَ به على بيانِ عنادِ الكافرينَ واستكبارِهم بشِرْكِهم وظُلْمِهم لِأَنْفُسِهم، وذكَرَ اللَّهُ بعضَ الأممِ المُعانِدةِ كقومِ نُوحٍ وعادٍ وفِرْعَوْنَ وثمودَ وقومِ لُوطٍ وغيرِهم، وغَفْلَتَهُمْ عن الحقِّ، وبيَّن صبرَ الأنبياءِ وثباتَهم تثبيتًا لنبيِّه صلى الله عليه وسلم، وبيَّن اللَّهُ فيها إبداعَ خَلْقِهِ في الكونِ وآياتِهِ المُعجِزةَ، وما خَصَّ اللَّهُ به بعضَ الأنبياءِ مِن مُلْكٍ وقوةٍ كسُلَيْمانَ، وذكَرَ حالَ بعضِ الأنبياءِ مع ربِّهم ومع أُمَمِهم؛ ليكونَ أولئك أُسوةً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ولأمَّتِه، وذكَرَ الجنةَ ونعيمَها، وجهنمَ وعذابَها، تذكيرًا بعاقبةِ الفريقَيْنِ.
وذكَرَ بدايةَ الصِّراع والنِّزاعِ بينَ آدمَ وإبليسَ عندَ بدايةِ خَلْقِ آدمَ؛ تذكيرًا ببدايةِ الصراعِ والتربُّصِ والمَكْرِ، وأنَّه ليس بجديدٍ، وسيبقى إلى قيامِ الساعة، ولكلِّ سلفٌ مِن الصادِقِينَ ومِن المُعانِدِين.
* * *
(1) ينظر: "تفسير ابن عطية"(4/ 491)، و"زاد المسير"(3/ 557)، و"تفسير القرطبي"(18/ 121)، و"الدر المنثور"(12/ 501).
(2)
"البيان، في عد آي القرآن" لأبي عمرو الداني (ص 214).
ليس في تفصيلِ قصةِ الخَصْمَيْنِ اللَّذَيْنِ اختصَمَا عندَ داودَ شيءٌ، وسببُ فتنةِ داودَ في ذلك ليس فيه شيءٌ يثبُتُ في المرفوعِ، ولا شيءٌ عن الصحابةِ، وقد رَوَى يزيدُ بنُ أبي زيادِ الرَّقَاشيُّ عن أنسٍ فيها خبرًا، وهو ضعيفٌ (1).
وهذانِ الخَصْمانِ اختصَمَا لداودَ في أنَّ لأحدِهما تسعًا وتسعينَ نعجةً، وللآخَرِ نَعْجةً واحدةً، فطَمِعَ صاحبٌ الكثيرِ في القليلِ الذي مع أخيهِ؛ ليُكمِلَ ما لدَيْهِ فتكون مئةً.
قال الأخُ صاحبُ التِّسْعِ والتسعينَ نَعْجةَ: {أَكْفِلْنِيهَا} ؛ يعني: أَطْلِقْها وأَعْطِني إيَّاها.
وقولُه: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} ؛ يعني: غلَبَني في قولِهِ وإلحاحِهِ عليَّ، فظَلَمَني وقَهَرَني؛ إذْ أخَذَ النَّعْجةَ إلى نِعَاجِه، وترَكَ أخاهُ بلا شيءٍ.
وفي قولِه: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} دليلٌ على أنَّ ما أُخِذَ مِن الحقوقِ بسيفِ الحياءِ والإلحاحِ: لا يجوزُ، ويجبُ أنْ يُعادَ إلى صاحِبِه؛ وذلك أنَّ لكثيرٍ مِن النفوسِ كَسْرًا وضَعْفَا، فتُقهَرُ بالحياءِ؛ كمَنْ يُطلَبُ حقُّه بثمنٍ بَخْسٍ مِن رجلٍ عزيزٍ أمامَ مَلَأٍ، ويُستحَثُّ فيه كَرَمُه، وأنَّ الناسَ تُعيِّرُهُ إنْ باع بغيرِ بَخْسٍ، فببيعُ خَجَلًا مِن الناسِ؛ فهذا البيعُ باطلٌ، والمالُ أُخِذَ بغيرِ طِيبِ نَفْسٍ.
(1)"تفسير ابن أبي حاتم"(10/ 3239)، و"تفسير ابن كثير"(7/ 60).
وتقدَّم الكلامُ على أنَّه لا يجوزُ أخذُ الشيءِ بِسَيْفِ الحياءِ والإلحاحِ عندَ قولِهِ تعالى في صدرِ سورةِ النساءِ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [4]، وقولِهِ تعالى:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [29].
وقولُه تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، فيه دليلٌ على جوازِ خِلْطَةِ بهيمةِ الأنعام، والخِلْطةُ تُصيِّرُ المالَ المُختلِطَ في حُكْمِ المالِ الواحدِ إذا كان مجموعُها يبلُغُ النِّصابَ وإذا كان أصحابُ المالِ مِن أهلِ الوجوبِ، ويُشترَطُ في الخِلْطةِ الاشتراكُ في المَرَاحِ والمَسْرَحِ والمَرْعَى، فيَسْرَحْنَ جميعًا ويَرْجِعْنَ جميعًا، وفَحْلُهما واحدٌ، فإنْ كانتِ الخليطةُ كذلك فهي في حُكْمِ المالِ الواحدِ؛ سواءٌ كانت شراكةَ أعيانٍ أو أوصافٍ، وعندَ الزكاةِ لا يجوزُ التفريقُ بينَهما خشيةَ الصَّدَقةِ؛ بل تجبُ الزكاةُ فيهما جميعًا كالمالِ الواحدِ؛ وذلك لقولِه صلى الله عليه وسلم:(لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّق بَيْنَ مُجْتَمِعٍ؛ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ)(1)، (وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْن، فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ)(2).
وجماهيرُ العلماءِ على أنَّ الخِلْطةَ لا تؤثِّرُ في الزكاةِ إلَّا في بهيمةِ الأنعامِ، وأمَّا غيرُه مِن المالِ، فلو اختلَطَ، لوجَبَتِ الزكاةُ على كلِّ واحدٍ في نصيبِه، وإنْ كان الجميعُ يبلُغُ الزكاةَ ولكنْ لو تفرَّقوا جميعًا، لم يبلُغْ كلُّ واحدٍ نصابًا، لم تجبْ عليهم الزكاةُ.
* * *
(1) أخرجه البخاري (1450)؛ من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (1451)؛ من حديث أنس رضي الله عنه.
* قال اللَّهُ تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44].
أقسَمَ أيُّوبُ أنْ يَضرِبَ زوجتَهُ مِئَةَ جَلْدةٍ؛ لِفَعْلَةٍ فَعَلَتْها، قيل: إنَّها باعَتْ ضَفِيرتَها بخُبْزِ فأطعَمَتْهُ إيَّاه، فلامَها على ذلك، وكان حِينَها مريضًا صلى الله عليه وسلم، وليس في فَعْلَتِها شيءٌ يثبُتُ في السُّنَّة، ولمَّا شفَاهُ اللَّهُ، أمَرَهُ اللَّه أن ياخُذَ عُودًا فيه مِئَةُ قضيبٍ، وقبل: حُزْمةً مِن عِيدَانٍ فيها مِئَةُ عُودٍ، وقيل: الضِّغْثُ مِن الأَثْلِ، فيَضرِبُها به ضَرْبةً واحدةً كما لو ضرَبَها مِئَةً متفرِّقةَ، فجعَل اللَّهُ ذلك مخرَجًا له في يمينِهِ فلا يَحنَثُ، ورحمةً بزوجِه.
ومِن الفقهاءِ: مَن حمَلَ هذا على الحِيَلِ المشروعةِ، ومنهم: مَن لم يَجْعَلْها مِن الحِيَلِ؛ وإنَّما جعَلَها مِن حَمْلِ اليمينِ على الألفاظِ ومقاصدِها.
وقد تقدَّم الكلامُ على الحِيَلِ وأنواعِها عندَ قولِهِ تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)} [يوسف: 70].
* * *