الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة المدثر
سُوْرَةُ المُدَّثِّر سورةٌ مكيَّةٌ باتِّفاقِهم (1)، وقد نزَلت بعدَ سورةِ "اقرَأْ"، وفي البخاريِّ ومسلم؛ أنَّ جابرًا عَدَّها أولَ شيءٍ: نزَلَ (2)، والأكثرُ على أنَّها نزَلت بعدَ "اقرَأْ"، وقد روى جابرٌ رضي الله عنه؛ قال: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (بَيْنَا أنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَجُئِثتُ مِنْهُ رُعْبًا، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُوني زَمِّلوني، فَدَثَّرُوني؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ})(3).
وفي السورةِ: بدايةُ البعثِ وإرسالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى قومِه، وفيها وصايا مِن اللَّهِ له قبلَ رسالتِهِ ومعها ممَّا يُعِينُهُ على مَرْضاةِ اللَّه ويُثبِّتُهُ على أمرِهِ ونهيِه، وفيها تذكيرٌ بالآخرةِ وتزهيدٌ في المكذِّبينَ لها وتحقيرٌ لحُجَجِهم وأهوائِهم، وفي هذا تثبيثٌ للدَّاعي على دَعْوتِه؛ أنْ يَعلَمَ قَدْرَ مَن يُقابِلُهُ، وعِظَمَ عاقبةِ النبيِّ وسوءَ عاقبةِ عدوِّه.
* * *
(1)"تفسير ابن عطية"(5/ 392)، و"زاد المسير"(4/ 358)، و"تفسير القرطبي"(21/ 354).
(2)
أخرجه البخاري (4924)، ومسلم (161/ 257).
(3)
أخرجه البخاري (4925).
* قال اللَّه تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4].
أمَر اللَّهُ نبيَّه بالنِّذارةِ بقولِه: {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2]، ثمَّ أمَرهُ بتطهيرِ ثيابِه، وحمَلَ عامةُ المفسِّرينَ مِن السلفِ تطهيرَ الثيابِ على التطهيرِ المعنويِّ، فيجبُ تطهيرُ الثيابِ مِن الإثمِ والحرامِ، والجوارحِ مِن أعمالِ السُّوءِ، وقد كانتِ العربُ تسمِّي الغادرَ دَنِس الثيابِ؛ يقولُ غَيلَانُ بن سَلَمة:
وَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوبَ فَاجِرٍ
…
لَبِسْتُ وَلَا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ (1)
وقلةٌ مِن السلفِ كابنِ سِيرينَ (2) حمَلُوهُ على تطهيرِ الثيابِ بالماءِ مِن الأنجاسِ والأقذارِ؛ وبهذا القولِ قال الشافعيُّ، ولفظُ التطهيرِ يَحتملُهُ هنا مِن جهةِ اللُّغةِ، لا مِن جهةِ الوضعِ.
وقد استدَلَّ بعضُ الفقهاءِ كالشافعيِّ بهذه الآيةِ على وجوبِ تطهيرِ الثيابِ مِن النجاساتِ، وقد اختلَفَ العلماءُ في وجوبِ تطهيرِ الثوبِ مِن النَّجَسِ للصلاةِ على قولَيْنِ، وهما قولانِ في مذهبِ مالكٍ:
قيل: إنَّ التطهيرَ سُنَّةٌ للصلاةِ ليس بواجبٍ لها؛ وإنَّما هو مِن تمامِها وكمالِها، ومَن صلَّى بلِباسٍ غيرِ طاهرٍ، فصلاتُهُ صحيحةٌ؛ وذلك أنَّ مَن صلَّى بالاستجمارِ مِن غيرِ غَسْلِ للمَحَلِّ، فإنَّ صلاتَهُ صحيحةٌ، مع القطعِ بوجودِ شيءٍ مِن النَّجَسِ الذي يُمكِنُ إزالتُهُ بالاستنجاءِ بالماءِ.
وقال جماعةٌ مِن الفقهاءِ -وهو قولُ الشافعيِّ وأحمدَ-: إنَّه يجبُ تطهيرُها؛ لفعلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حينَما خلَعَ نَعْلَيهِ وهو في الصلاةِ لمَّا أنبَأَهُ جبريلُ أنَّ بهما قَذَرًا؛ كما روى أبو داودَ؛ مِن حديثِ أبي سعيدٍ
(1)"تفسير الطبري"(23/ 405).
(2)
"تفسير الطبري"(23/ 409).
الخُدْرِيِّ رضي الله عنه؛ قال: بَينَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ، إِذ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فلَمَّا رَأَى ذَلِكَ القَوْمُ، أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ، قَالَ:(مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ؟ )، قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ، فَأَلْقَينَا نِعَالَنا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ جِبْرِيلَ صلى الله عليه وسلم أَتَانِي فَأَخبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا -أَوْ قَالَ: أَذًى-)، وَقَالَ:(إِذَا جَاء أَحَدُكُمْ إِلَى المَسجِدِ، فَلْيَنْظُرْ: فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى، فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا)(1).
وأمَّا الاستجمارُ، فهذا تخفيفٌ مِن الشارعِ في شيءٍ لا ينبغي أن يُنقَضَ به الأصلُ؛ وذلك أنَّ التخفيفَ فيه كتخفيفِ الشارعِ في بولِ الغلامِ، وتخفيفُهُ لا يَعني حَمْلَ غيرِهِ عليه، ولا أنَّه في ذاتِهِ طاهرٌ.
والتخفيفُ في الاستجمارِ أظهَرُ في الحاجةِ مِن التخفيفِ في بولِ الغلامِ؛ لعموم البَلْوَى به مِن كلِّ أحدٍ، والتيسيرُ فيه رحمةٌ ويُسْرٌ؛ دفعًا للحرَجِ والمشقَّةِ، وهي مِن جنسِ العَرَايَا في البيوعِ، وإباحتُها لا يعني نَقْضَ الأصلِ بها؛ ولكنَّها تُحمَل على التيسيرِ والتخفيفِ.
* * *
* قال اللَّه تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5].
بعدَما أمَرَ اللَّهُ نبيَّه بتطهيرِ ظاهرِهِ مِن الأعمالِ التي لا يُحِبُّها اللَّهُ، أمَرَهُ بمفارَقهِ بِقَاعِها، وهي الأصنامُ وأماكنُها، والمرادُ بالرَّجْزِ هي أصنامُهم وأوثانُهم؛ وذلك أنَّ مفارَقةَ العملِ السيِّئِ لا تتمُّ إلَّا بمفارَقةِ أماكِنهِ التي يُقامُ فيها؛ فإنَّ إنكارَ المُنكَرِ لا يكونُ مع مخالطِته بلا حاجةٍ ولا ضرورةٍ.
(1) أخرجه أحمد (3/ 92)، وأبو داود (650).
وقد تقدَّم الكلامُ على الهَجْرِ وأحوالِهِ عندَ قولهِ تعالى: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41]، وفي العقيدةِ "الخراسانيَّةِ" كلامٌ حولَ ذلك.
* * *