الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثاني: أنَّها تُعادُ؛ وهذا الأشهَرُ عن أحمدَ، وعليه عامَّةُ أصحابِهِ.
ورُوِيَ عن أحمدَ: إعادةُ الصلاةِ على مَن صلَّى إلى القبورِ أو صلَّى بينَها.
الصلاةُ على الجنازةِ في المَقْبَرةِ:
صلاةُ الجنازةِ أَخَفٌّ مِن غيرِها؛ لأنَّه لا ركوعَ فيها ولا سجودَ، وقد اختلَفَ العلماءُ في حُكْمِها على قولَيْنِ، -وهما روايتانِ عن أحمدَ-:
الأوَّل: الكراهةُ؛ وهذا قولُ الشافعيِّ، وبه قال مِن السلفِ: عليٌّ، وعبدُ اللَّه بن عمرٍو، وعطاءٌ؛ وذلك لأنَّ صلاةَ الجنازةِ تُسمَّى صلاةً، وفيها مِن جِنْسِ الصلاةِ المعتادةِ، وقد جاء النهيُ عامًّا؛ كما رواهُ أحمدُ وأهل "السُّننِ"؛ مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قال:(الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ، إلَّا المَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ)(1).
وقد روى الطبرانيُّ، عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه:"أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يُصلَّى على الجنائزِ بينَ القبورِ"(2).
الثاني: الجوازُ؛ وهو مذهبُ أهل الرأي؛ وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُصلِّي الجنازةَ على القبورِ؛ كما صلَّى على المرأةِ التي كانتْ تَقُمُّ المسجدَ (3)، وكان أصحابُهُ يُصَلُّونَ كذلك، وقد ذكَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلًا مات، فقال:(فَدُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ)، فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ؛ رواهُ الشيخانِ (4).
وعن ابنِ عبَّاسٍ: "أنَّه مَرَّ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، فَأَمَّهُمْ،
(1) أخرجه أحمد (3/ 83)، وأبو داود (493)، والترمذي (317)، وابن ماجه (745).
(2)
أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"(5631).
(3)
أخرجه البخاري (458)، ومسلم (956).
(4)
أخرجه البخاري (1337)، ومسلم (956).
وَصَلَّوْا خَلْفَهُ" (1).
وقد صلَّى على القبرِ جماعةٌ مِن السلفِ صحابةً وتابِعِينَ؛ كعليٍّ وأنسٍ وسَلْمانَ بنِ رَبِيعةَ وأبي حَمْزةَ ومَعْمَرٍ.
ولم تكنْ تلك الصلاةُ واجِبةً على النبيِّ صلى الله عليه وسلم حتَّى يؤدِّيَها، وهناك مَن يفرِّقُ بينَ الصلاةِ في المَقْبرةِ على الميِّتِ المدفونِ فيُجِيزونَها، وعلى الميِّتِ البارِزِ قبلَ الدَّفْنِ، ولا شَكَّ أنَّ المدفونَ أخَفُّ، والتفريقُ لا يُخرِجُ الأُخرى مِن الجوازِ؛ للاشتراكِ في الصورةِ الظاهرةِ التي نُهِيَ لأجلِها عن اتِّخاذِ القبورِ مساجدَ.
وقد روى عبدُ الرزَّاقِ، عن ابنِ جُرَيْجٍ؛ قال:"قُلْتُ لِنَافِعٍ: أَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَسَطَ الْقُبُورِ؟ قَالَ: لَقَدْ صَلَّيْنَا عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَسَطَ الْبَقِيعِ، قَالَ: وَالْإِمَامُ يَوْمَ صَلَّيْنَا عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنهما أَبُو هُرَيْرَةَ، وَحَضَرَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ"(2).
ولا خلافَ عندَ أحمدَ أنَّ صلاةَ الجنازةِ أخَفُّ، وأنَّها لو صُلِّيَتْ لا تبطُلُ، وإنَّما الخلافُ عندَه في الكراهةِ، ولو بطَلَتْ، لَبطَلَتْ صلاةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على القبرِ.
وأمَّا حديثُ أنسٍ عندَ الطبرانيِّ، ففي صحَّتِه نظرٌ، والصوابُ فيه: أنَّه مِن مُرسَلِ الحسَنِ؛ رجَّحَهُ الدارقطنيُّ (3)، وهو محمولٌ إنْ صحَّ على كراهةِ اتِّخاذِ مواضعَ للصلاةِ على الجنائزِ وَسَطَ القبورِ، وقد رَوَى ابنُ أبي شيبةَ، عن أنسٍ:"أنَّه كان يَكرَهُ أن يُبنى مسجدٌ بينَ القبورِ"(4).
(1) أخرجه البخارى (1336)، ومسلم (954).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(1593).
(3)
"علل الدارقطني"(12/ 72).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(7580).
وصلاةُ الجنازةِ تختلِفُ عن غيرِها؛ فقصدُ صلاةِ الجنازةِ نفعُ الحيِّ للميِّت، وقصدُ الصلواتِ الأُخرى عندَ القبورِ نفعُ الميِّتِ للحيِّ، واختلافُ العِلَّةِ يُغايِرُ الحُكْمَ، وكان السلفُ يُفرِّقونَ بينَ صلاةِ الجنازةِ وغيرِها، وقد روى منصورٌ، عن إبراهيمَ؛ قال:"كانوا إذا خرَجُوا مِن الجنائز، لم يُصَلُّوا بينَ المقابرِ تطوُّعًا، فإذا حضَرَتْ صلاةٌ مكتوبةٌ، تَنَحَّوْا عن القبورِ فصَلَّوْا"(1).
وقد قال أحمدُ: "لا يُصلَّى في مسجدٍ ببنَ المقابرِ إلَّا الجنائرُ؛ لأنَّ الجنائزَ هذه سُنَّتُها"(2).
ولا خلافَ عندَ العلماءِ على أنَّه لا يجوزُ دفنُ الميِّتِ قبلَ الصلاةِ عليه مع القدرةِ على ذلك، وأنَّه لا يجوزُ لهم إرجاءُ الصلاةِ عليه بعدَ الدفنِ وهم مُختارُونَ لها قبلَ ذلك.
* * *
* قال تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف: 23، 24].
في هذه الآيةِ: مشروعيَّةُ الاستثناءِ عمَّا يَعزِمُ الإنسانُ على فعلِهِ أو قولِهِ في المستقبَل، وهو أن يقولَ:"إنْ شاءَ اللَّهُ"؛ فإنَّها تُقالُ بَرَكةً وتوكُّلًا على اللَّهِ واستعانةً به، وتُقالُ رفعًا للحَرَجِ عندَ اليمينِ والوعدِ بشيءٍ.
والاستثناءُ ينفعُ صاحِبَهُ في إيمانِهِ بربِّهِ ويقينِهِ به وتوكُّلِهِ عليه واستعانتِهِ به ولو كان مُنفصِلًا، فمَنْ نَسِيَهُ ينبغي له استدراكُه؛ فإنَّه يُعلِّقُ القلبَ باللَّه، ويُعِينُ على تحقيقِ الغاياتِ المطلوبةِ، وفي "الصحيحَيْنِ"؛
(1)"نسخة أبي مسهر"(55).
(2)
"فتح الباري" لابن رجب (2/ 400).