الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الشورى
سورةُ الشُّورَى مكيَّةٌ؛ رُوِيَ ذلك عن ابنِ عبَّاسٍ، وحكى بعضُهم الإجماعَ على ذلك، واستَثْنَى بعضُ السلفِ آياتٍ منها (1)، وتضمَّنتْ سورةُ الشُّورَى تذكيرًا بحقِّ اللَّهِ بإِفرادِهِ بالعبادة، والتحذيرَ مِن الإشراكِ معه شيئًا، والتذكيرَ بنعمةِ القرآنِ حُجَّةً وبيانًا وإعجازًا، وذكَرَ اللَّهُ تعالى فيها أحوالَ بعضِ الأُمَمِ السابقةِ ووصاياهُ لهم وعنادَهم لها، وبيَّن حِكمتَه في قسمةِ الرِّزقِ والمعاشِ وتهيئةِ الأرضِ والبحرِ لهم، وذكَّر فيها بالبعثِ والجزاءِ، والثوابِ والعقابِ.
* * *
أمَرَ اللَّهُ نبيَّه أنْ يَدْعُوَ إلى دِيِنِه، وأنْ يكونَ مع دَعْوتِه مستقيمًا على ما أمَرَهُ اللَّه في نفسِهِ ودَعْوتِه وفي حُكمِه في غيرِهِ؛ فقولُه تعالى:{وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} لنبيِّه، وهو المعصومُ، أنْ تكونَ استقامتُهُ وحُكْمُهُ كما أمَره اللَّهُ، فغيرُهُ مِن بابِ أَولى أَلَّا يجتهِدَ بهَوَاهُ وما يَشتهي متخلِّيًا عن الوحي المنزَّلِ.
(1) ينظر: "زاد المسير"(4/ 58)، و"تفسير القرطبي"(18/ 440)، و"بصائر ذوي التمييز"(1/ 418).
وفي قولِهِ تعالى: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أنَّ اللَّهَ أنزَلَ القرآنَ لإِقامةِ الدِّينِ وإصلاحِ الدُّنيا، ولا يُلتمَسُ عدلٌ كعَدْلِه، وتُصِيبُ العقولُ التي خلَقَها اللَّهُ كثيرًا مِن الحقِّ بفِطْرتِها، ولكنْ لا تُصيبُ الحقَّ كاملًا إلَّا بالقرآنِ.
* * *
* قال اللَّهُ تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشورى: 23].
دعا اللَّهُ المُصلِحِينَ إِلَى التجرُّدِ والإعراضِ عن دُنْيا الناسِ؛ حتى لا يظُنُّوا بهم سُوءًا؛ كطمعٍ في الدُّنيا والجاهِ؛ وذلك أنَّ أولَ ظنِّ الظالمينَ بالمُصْلِحِين حينَما يُنكِرُونَ عليهم ضلالَهُمْ: أَنَّهم يُرِيدونَ مُزَاحَمَتَهم على سُلْطَانِهم وجَاهِهِم؛ لأنَّ نفوسَهم تتشَرَّبُ مِن اتباعِ ذلك، فيَخافُ الإنسانُ على أنفَسِ شيءٍ عليه؛ لذا يَخافونَ المزاحَمةَ، فيَشُكُّونَ فِي المُصلِحِينَ، وهكذا ظَنُّوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم بمكةَ، فعرَضُوا عليه المالَ والنِّساءَ، وفي "المسنَدِ" عن عبدِ الرحمنِ بن شِبْلٍ؛ أَنَّه قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: (تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ، فَإِذَا عَلِمْتُمُوهُ، فَلَا تَغْلُوَا فِيهِ، وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ، وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ، وَلَا تَسْتَكْثِرُوا بِهِ)(1).
وقد تقدَّم الكلامُ على الحِكْمةِ مِن نهي الأنبياءِ وأَتْباعِهم عن ذلك، عندَ قَولِهِ تعالى:{وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود: 29].
(1) أخرجه أحمد (3/ 444).
وفي قولِهِ تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قد صحَّ عن ابنِ عبَّاسٍ؛ قالِ: "كان لِرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَرَابةٌ مِن جميعِ قُريْشٍ، فلمَّا كذَّبوهُ، وَأَبَوْا أنْ يُبايِعُوهُ، قال: يا قومِ؛ إذا أَبَيْتُم أنْ تُبايِعُوني، فاحفَظُوا قَرَابَتِي فيكُم، ولا يكونُ غيرُكُم مِن العَرَبِ أَوْلى بِحِفْظِي ونُصْرَتي مِنكم"؛ رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ (1).
ورَوَى البخاريُّ مِن حديثِ طاوُسٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أنّه سُئِلَ عن قولِهِ تعالى:{إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ، فقال سعيدُ بن جُبَيْرٍ: قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ، فقال ابنُ عبَّاسٍ: عَجِلْتَ! إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكْنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلَّا كَانَ لَهُ فِيهُمْ قَرَابَةٌ، فَقَالَ: إِلَّا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وبَيْنَكُمْ مِنَ القَرَابَةِ (2).
وظاهِرُ هذِهِ الآيةِ: أنَّها في صِلةِ الرَّحِمِ وأداءِ الحقِّ بيْنَ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم وبينَ قوْمِهِ قُريْشٍ؛ لأنَّ السورةَ مكيَّةٌ، والخِطابَ بينَهُ وبينَ قريشٍ لا سائِر العربِ.
* * *
* قال اللَّهُ تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38].
ذكَرَ اللَّهُ صِفاتِ المستجيبِينَ للَّه، وذَكَر أوَلَها إقامَ الصلاةِ؛ وذلِك لِأنَّها أعظَمُ الشعائِرِ الظاهِرة، وأظهَرُ التعبُّدِ يُكونُ فيها؛ ولِهذا جاء التأكيدُ عليها في الشريعةِ أشَدَّ مِن غيْرها مِن الأعمال البدنيَّة، ثمَّ ذَكَرَ التشاوُرَ بعدَما ذكَر الصلاةَ؛ لأنَّ مِن أقامَ الصلاةَ كما أمَرَ اللَّهُ، صحَّ رأيُه وسَلِمَ فِكرُهُ مِن الأهواء، فلا يُشيرُ عن طمعٍ وحظِّ نَفْسٍ، وأمَّا رأيُ غيرِهم،
(1)"تفسير ابن أبي حاتم"(10/ 3275).
(2)
أخرجه البخاري (4818).