الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة السجدة
سورةُ السَّجدةِ سورةٌ مكيَّةٌ، واستثنى بعضُ السلفِ منها بِضعَ آياتٍ؛ منهم مَنْ جعَلَها ثلاثًا، ومنهم مَن جعَلَها خمسًا (1)، وسياقُ آياتِها سياقُ المكيَّاتِ في موضوعِها؛ ففيها بيانُ تنزيلِ القرآنِ والحِكْمةِ منه، وتذكيرُ الإنسانِ بضَعْفِ خِلْقَتِه، وتدبيرُ اللَّهِ للغَيْثِ وتسييرُه له، وبيانُ عاقبةِ الإنسانِ وتذكيرُهُ بوقوفِهِ بينَ يدَيْ رَبِّهِ وأحوالِ الناسِ في الآخرةِ، والتذكيرُ ببعضِ الرُّسُلِ السابقِين.
* * *
* قال تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15].
ذكَر اللَّهُ خِصالَ المؤمنينَ، وذكَرَ منها أنَّهم يَخِرُّونَ سُجَّدًا للَّهِ، ويُسبِّحون في سجودِهم، وفي هذه الآيةِ: مشروعيَّةُ التسبيحِ بحمدِ اللَّهِ في السجودِ.
حُكْمُ التسبيحِ في السُّجُودِ والرُّكُوعِ:
ولا خلافَ في مشروعيَّةِ التسبيح بحمدِ اللَّهِ في السجودِ؛ لثُبُوتِهِ في القرآنِ وعملِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، وإنَّما الخلافُ عندَ الفقهاءِ في وجوبِ
(1) ينظر: "تفسير ابن عطية"(4/ 357)، و"زاد المسير"(3/ 437)، و"تفسير القرطبي"(17/ 5).
التسبيحِ في السجودِ، ومِثلُه الركوعُ، على قولَيْنِ للفقهاءِ، هما روايتانِ عن أحمدَ:
الأولى: الوجوب؛ وهو قولُ داودَ، وهو مذهبُ الحنابلةِ، ورجَّحه جماعةٌ من محقِّقي المذهبِ، وقال به داودُ؛ وذلك لِما رواهُ أحمدُ وأبو داودَ؛ مِن حديثِ عُقْبةَ بنِ عامرٍ رضي الله عنه؛ قال: لمَّا نزلَتْ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74 و 96، والحاقة: 52]، قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(اجْعَلُوهَا فِي رُكوعِكم)، فلمَّا نزَلَتْ:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، قال:(اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ)(1)، وحمَلُوا الأمر الواردَ في الحديثِ على الوجوبِ.
الثانيةُ: الاستحبابُ؛ وهو قولُ جمهورِ الفقهاءِ؛ وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يعلِّمْهُ المُسِيءَ في صلاتِه، وما عَلَّمَهُ إلَّا ما تصحُّ به الصلاةُ.
وحديث عُقبةَ متكلَّمٌ فيه، يَرويهِ موسى بنُ أيوبَ، عن عمِّه إياسِ بنِ عامرٍ، عن عُقْبةَ، وإياسٌ مستورٌ قليلُ الحديثِ لا يُعرَفُ راوٍ عنه غيرُ ابنِ أخيه، وموسى في حديثهِ المرفوعِ عن عمِّه كلامٌ؛ فقد ضعَّف ابنُ مَعِينٍ حديثَهُ المرفوعَ عن عمِّه (2).
ثمَّ أيضًا فإنَّ قولَهُ تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] في سورة الأعلى، وقولَه تعالى:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74 و 96، والحاقة: 52] في سورةِ الواقعةِ والحاقَّةِ، وهذه السَّوَرُ الثلاثُ مكيَّةٌ، وتقييدُ الأمرِ بها عندَ نزولها دالٌّ على أنَّ الوجوب كان بمَكَّةَ، ومِثلُ هذه الأذكارِ وجنسُ هذه الواجباتِ مِن الأقوالِ في الصلاةِ: لم يُفرَضْ إلَّا في المدينةِ، ولو كان فرضًا قديمًا لاشتهَرَ فرضُه، وتمَّ تعليمُهُ الناسَ مع تعليمِ الصلاةِ لكلِّ أحدٍ.
(1) أخرجه أحمد (4/ 155)، وأبو داود (869)، وابن ماجه (887).
(2)
ينظر: "الضعفاء الكبير" للعقيلي (4/ 154).
وأمَّا التسبيحُ الواردُ في السجودِ الذي أُشِيرَ إليه في الآيةِ، فقد جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في صِيَغٍ، منها ما يَشترِكُ فيه الركوعُ والسجودُ، ومنها ما ينفرِد به السجودُ؛ ومِن ذلك:
- ما في "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديث عائشةَ رضي الله عنها؛ قالت: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي)؛ يَتَأَوَّلُ القُرْآنَ (1).
- ومنها: ما في مسلمٍ؛ مِن حديثِ عائشةَ؛ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: (سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبِّ المَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ)(2).
- ومنها: عندَه مِن حديثِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سَجَدَ، قال:(اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدتُّ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ:(اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ)(3).
- ومنها: ما في "المسنَدِ"؛ من حديثِ ابنِ عبَّاسٍ؛ قال: بِتُّ عندَ خالتي مَيْمُونةَ؛ قال: فانتبهَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِن اللَّيْلِ، فذكَرَ الحديثَ، وفيه قال: ثمَّ ركعَ، قال: فرأَيْتُهُ قال في ركوعِهِ: (سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ)، ثمَّ رفَعَ رأسَهُ، فحَمِدَ اللَّهَ ما شاءَ اللَّهُ أَنْ يَحْمَدَه، قال: ثمَّ سجَدَ، قال: فكان يقولُ في سُجُودِه: (سبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى)، قال: ثمَّ رفَعَ رأسَهُ، قال: فكان يقولُ فيما بينَ السَّجْدَتَيْنِ: (رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاجْبُرْنِي، وَارْفَعْنِي، وَارْزُقْنِي، وَاهْدِنِي)(4).
(1) أخرجه البخاري (817)، ومسلم (484).
(2)
أخرجه مسلم (487).
(3)
أخرجه مسلم (771).
(4)
أخرجه أحمد (1/ 371).