الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، إِنِّي لَصَادِقٌ، فَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ الحَدِّ"، قال ابنُ عبَّاسٍ:"فَنَزَلَ جِبْرِيلُ"(1)، فأَجْرَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم حالَ هلالٍ مجرَى كلِّ قاذفٍ، وهو الحدُّ.
وقد قال بعمومِ آيةِ اللِّعانِ في كلِّ زوجٍ قاذفٍ مسلمٍ أو كافرٍ، حرٍّ أو عبدٍ: مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ في روايةٍ.
وقال بأنَّها خاصَّةٌ بالزوجَيْنِ المُسلِمَينِ الحرَّيْنِ العدلَيْنِ أبو حنيفةَ، وجعَلَ الشروطَ في المتلاعنَيِنِ كالشروطِ في الشهودِ؛ وذلك أنَّ اللَّهَ سمَّاهما شهودًا في قولِه تعالى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} ؛ فكلُّ ما لا تصحُّ شهادتُهُ لا يصحُّ لِعانُهُ عندَهُ لأجلِ ذلك، ولكنَّ اللَّهَ يُسمِّي اليمينَ شهادةً، كما قال تعالى عن المُنافِقينَ:{قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1]، ثمَّ سمَّى اللَّهُ فِعلَهم بعدَ ذلك يمينًا بقولِه:{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2].
مَرَاحِلُ قَذْف الزَّوْجِ لزوجتِهِ:
وقذفُ الزوجِ لزوجتِهِ على مراحلَ خمسٍ:
المرحلةُ الأُولى: طلبُ الشهودِ؛ وبهذا يتَّفقُ الزوجُ مع غيرِهِ مِن الناسِ الذي يقَعونَ في القذفِ، فكلُّهم يُطالَبُ بأربعةِ شهداءَ لإثباتِ قولِهِ؛ يَشهَدونَ أنَّهم رأَوُا الفاحشةَ بأعينهم رأوُا الوطءَ الصريحَ كالمِيلِ في المُكْحُلَةِ، فإن جاءَ الزوجُ بالشهودِ، أُقِيمَ الحدُّ على الزوجةِ، وهو الرجمُ، ولا تُطالَبُ بالشهادةِ لنفسِها، ولا يَدْرَأُ عنها العذابَ شيءٌ، بعدَ بيِّنِة الشهودِ، ويَنتهي أمرُ القذفِ بذلك.
خلافًا للشافعيِّ، فإنَّه يَرى أنَّها تَدفَعُ عن نفسِها العذابَ بالشهادةِ
(1) سبق تخريجه.
واللَّعْنةِ ولو أتى الزوجُ بالشهودِ عليها، ففَرْقٌ بينَ شهودِ الزوجِ على زوجتِهِ وبينَ شهودِ الرَّجُلِ الأجنبيِّ عليها؛ فشهودُ الأجنبيِّ يُقامُ به عليها الحدُّ بالإجماعِ، وأمَّا شهودُ زوجِها، فاستثناهُمُ الشافعيُّ في حُكْمِ اللِّعانِ.
وأمَّا إنْ كان لدى الزوجِ شهودٌ، فهل له أن يختارَ اللِّعَانَ ويَدَعَ إقامةَ البيِّنِة، ليتحقَّقَ نفيُ الولدِ، ويُرفَعَ عنها الحدُّ فلا تُرجَمَ؟ فقد اختُلِفَ في ذلك:
وقد ذهَب مالكُ والشافعيُّ: إلى أنَّه يَحِقُّ للزوجِ اختيارُ اللِّعَانِ وإن قامَتِ البيِّنةُ عندَه بالشهودِ.
وذهَبَ أبو حنيفة وداوُد: إلى عدَمِ جوازِ اللِّعانِ إن قامَتِ البيِّنةُ بالشهودِ على زِناها.
المرحلة الثانيةُ: إذا لم يكنْ لدى الزوجِ شهودٌ على قَذْفِهِ لزوجتِه؛ فإنَّه يُطلبُ منه الشهادةُ لنفسِهِ بالصِّدْقِ أربعًا، ويَلعَنُ في الخامسةِ نفسَهُ إنْ كان كاذبًا، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ، وشهادتُهُ ولعنُهُ لنفسِهِ ليس بيِّنةً على زوجتِهِ بوقوعِها في الفاحشةِ، ولكنَّه يَرفَعُ عنه الحدَّ فقطْ، وقد يكونُ كاذبًا وقد يكونُ صادقًا.
وإنِ امتنَعَ الزوجُ عن الشهادةِ واللعنِ، فإنَّه يُجلَدُ حدَّ القذفِ ثمانينَ جَلْدةً؛ كما يُجلَدُ كلُّ قاذفٍ بلا بيِّنةٍ؛ وبهذا قال جمهورُ العلماءِ.
خلافًا لأبي حنيفةَ؛ فإنَّه رأَى تعزيرَهُ بحبسٍ، ولم يجعلْ في نُكُولِهِ حَدًّا؛ لعدمِ النصِّ عليه، ولكنَّه معنًى ثْبَتَ بدَلَالةِ السياقِ بلا نصٍّ، بدَلَالةِ ذِكْرِ اللَّهِ نُكُولَ المرأةِ أنَّه يُوجِبُ الحَدَّ عليها بقولِهِ تعالى، {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} وظاهرُ السياقِ: أنَّ الشهادةَ تَدرأُ عنه العذابَ كذلك.
المرحلةُ الثالثةُ: طلبُ الشهادةِ مِن الزوجةِ بعدَ شهادةِ الزوجِ لتُبرِّئَ نَفْسَها مِن تُهَمَتِه، فإنْ شهِدَت على زوجِها بالكذبِ أربعًا، وشَهِدَت في الخامسةِ أنَّ عليها الغضبَ إنْ كان زوجُها صادقًا-: بَرِئَتْ مِن الحدِّ؛ وذلك قولُه تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)} .
وإن لم تَشهَدْ على نفسِها، وامتنعَتْ ناكِلةً، فقد اختُلِفَ في الحدِّ المقصودِ في قولِه تعالى:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} :
فجمهورُ العلماءِ: على أنَّ المرادَ بالعذابِ هو حدُّ الزِّنى.
خلافًا لأبي حنيفةَ؛ فإنَّه لم يَجعَلِ العذابَ في الآيةِ حَدًّا؛ وإنَّما جعَلَهُ تعزيرًا فقال بحَبْسِها حتى تُلاعِنَ، ودفَعَ عنها الدمَ بأنَّ الأصلَ عِصْمةُ الدمِ؛ كما في حديثِ:(لَا يَحِلُّ دَمُ امرِئٍ مُسْلِمٍ)(1)، ولا بدَّ مِن بيِّنةٍ، والنكولُ ليس ببيِّنةٍ تُوجِبُ سفكَ الدمِ، وإلى قولِهِ ذهَبَ بعضُ الفقهاءِ مِن الشافعيَّةِ؛ كالجُوَيْنِيِّ، وبعضُ الفقهاءِ مِن المالكيَّةِ؛ كابنِ رشدٍ.
ولا يختارُ الموتَ ويترُكُ اليمينَ في مِثلِ هذه الحالِ إلَّا مَن قام الحقُّ عليه، ومنَعَهُ مِن اليمينِ عاقبتُها وشؤمُها في الدارَيْنِ.
المرحلة الرابعةُ: التفريقُ بينَ المتلاعنَيْنِ بعدَ اللِّعانِ؛ وذلك لقولِهِ صلى الله عليه وسلم لعُوَيمِرٍ العَجلَانِيِّ: (لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا)(2)، وقد اختلَفَ العلماءُ في سببِ التفريقِ: هل هو حُكْمٌ لازِمٌ في الشرعِ فيكونَ أبديًّا، أو لأجلِ حُكْمِ الحاكمِ فيه؟ على قولَيْنِ:
قال بالتفريقِ شرعًا مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ، وقال بالتفريقِ بحُكْمِ الحاكمِ أبو حنيفةَ.
(1) أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676).
(2)
أخرجه البخاري (5313)، ومسلم (1493).