الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: (تِلْكَ صَلَاةُ المُنَافِقِ؛ يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَي الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لا يَذكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا)(1)، وهذا النِّفاقُ الأصغرُ الذي لم يُخرِجْهُ مِن المِلَّةِ، ولو كان أكبرَ، لم يَقُمْ لأدائِها.
التلازُمُ بينَ الرِّياءِ وتأخيرِ وقتِ الصلاةِ:
وثَمَّةَ تلازُمٌ بينَ تأخيرِ الصلاةِ عن وقتِها وبينَ الرِّياءِ، وكلَّما كان الرِّياءُ في قلبِ العبدِ عظيمًا، كان تَراخِيهِ عن الصلاةِ شديدًا، فإنِ اكتمَلَ الرِّياءُ، اكتمَلَ التَّرْكُ، وقد جعَلَ اللَّهُ الرِّياءَ مُلازِمًا للتساهُلِ في الصلاةِ في كتابه؛ كما في قولِه هنا:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 4 - 6]؛ فبمقدارِ الرِّياءِ يكونُ السهوُ عنها، وكذلك قرَن اللَّهُ الرِّياءَ بالتكاسُلِ عن الصلاةِ في قولِه تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء: 142]، وكذلك هو في الحديثِ السابقِ فيمَن اعتاد تأخيرَ الصلاةِ إلى قُبَيْلِ المغربِ، قال صلى الله عليه وسلم:(تِلْكَ صَلاةُ المُنَافِقِ).
تاركُ الصلاةِ وحُكْمُهُ:
والصلاةُ الرُّكنُ الثاني مِن أركانِ الإسلامِ، وهي أولُ الواجباتِ البدَنيَّةِ، وشريعةٌ في كلِّ الرِّسالاتِ، وفرَضَ اللَّهُ خَمسَها في السماءِ بلا واسطةٍ؛ بخلافِ بقيَّة الشرائعِ المفروضةِ والمسنونةِ.
وأمَّا تركُ الصلاةِ، فقد استفاضَتِ النصوصُ على كفرِ فاعلِهِ مرفوعةً وموقوفةً، وقد رَوَى مسلمٌ؛ مِن حديثِ جابرٍ؛ قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ)(2).
(1) أخرجه مسلم (622).
(2)
أخرجه مسلم (82).
فجعَلَ الصلاةَ حائلًا بِينَ الرجُلِ وبينَ الكفرِ، وإنْ ترَكَها بالكليَّةِ، فقد زالَ الحائلُ بينَهما، ودخَلَ الرجُلُ إلى الكفرِ.
وقد جعَلها النبيُّ صلى الله عليه وسلم فَيْصَلًا بينَ مَن أَسْلَمَ وَجهَهُ للَّهِ وبينَ مَن أسلَمَ وَجْهَهُ لغيرِهِ ممَّن نطَقَ الشهادتَيْنِ، فقال كما في السُّننِ:(الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَينَهُمُ الصَّلَاةُ؛ فَمَنْ تَرَكَهَا، فَقَدْ كَفَرَ)(1)، وبهذا كان يقولُ الصحابةُ ويفرِّقونَ بينَهم وبينَ الكفارِ؛ كما قال مجاهدُ بن جَبْرٍ لجابرٍ رضي الله عنه:"مَا كَانَ يُفَرِّقُ بَينَ الكُفْرِ وَالْإِيمَانِ عِنْدَكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: الصَّلَاةُ"(2).
ويقولُ عبدُ اللَّهِ بنُ شقِيقٍ العُقَيْلِيُّ: "كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ"(3).
وعلى هذا كان التابعونَ، وكانوا يُطلِقُونَ على التاركِ الكفرَ، كما قال أيُّوبُ: تَرْكُ الصَّلَاةِ كُفْرٌ لا يُخْتَلَفُ فيِهِ (4).
ولا يُوجَدُ مِن كلامِ الصحابةِ ولا التابعينَ ما يُخرِجُ هذا العمومَ أو يُقيِّدُهُ ويُخصِّصُهُ، إلَّا حملُ ذلك على التَّرْكِ بالكليَّةِ، وأمَّا مَن كان يُؤدِّي بعضَ الصلواتِ ويترُكُ يعضًا، فهذا ليس تاركًا لها بالكليَّةِ؛ وإنَّما يدخُلُ في الوعيدِ في هذه الآيةِ:{الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} ، وقد جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قَبِلَ إسلامَ مَن لم يُؤدِّ الصلاةَ كلِّها، كما صحَّ عن نَصْرِ بنِ عاصمٍ اللَّيْثِيِّ، عن رجلٍ منهم: "أنَّه أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَ عَلَى أَنْ يُصَلِّيَ
(1) أخرجه أحمد (5/ 346)، والترمذي (2621)؛ والنسائي (463)، وابن ماجه (1079).
(2)
أخرجه المروزي في "تعظيم قدر الصلاة"(893).
(3)
أخرجه الترمذي (2622).
(4)
أخرجه المروزي في "تعظيم قدر الصلاة"(978).
صَلَاتَيْنِ، فَقَبِلَ مِنْهُ"؛ رواهُ أحمدُ (1).
ولم يكنِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لِيُقِرَّهُ على الكفرِ، وإنَّما قَبِلَ منه الإسلامَ ولو كان مُسرِفًا على نفسِهِ أهوَنَ مِن بقائِهِ على الكفرِ.
وإنَّما اختلَفَ العلماءُ في تفسيرِ ما أُطلِقَ مِن كلامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم والصحابةِ والتابعينَ ومرادِهم في كفرِ تاركِ الصلاةِ، فمنهم مَن حمَلَهُ على الكفرِ الأكبرِ، ومنهم مَن حمَلَهُ على الأصغرِ.
والمعروفُ عن أحمدَ والمشهورُ عندَ الأصحابِ: كفرُ تاركِ الصلاةِ، وليس في كلامِ أحمدَ ما يُخالِفُ ذلك، وعامَّةُ الرُّواةِ عنه ينقُلُونَ كفرَ تاركِ الصلاةِ، وأمَّا ما نقَلَهُ عنه صالحٌ في "المسائلِ" أنَّه سأَلَهُ عن زيادةِ الإيمانِ ونُقصانِه، فقال له: كيف يَزِيدُ ويَنقُصُ؟ قال: زيادتُه بالعملِ، ونقْصانُه بتركِ العملِ؛ مِثْلُ تركِهِ الصلاةَ والزكاةَ والحجَّ وأداءَ الفرائضِ (2).
فهذا لا يُخالِفُ ما تقدَّم تقريرُه؛ وذلك أنَّ أحمدَ أخرَجَ حديثَ نصرِ بنِ عاصمٍ في "مسندِه"، وظاهرُه: أنَّه لا يُخالِفُه، فالنُّقْصانُ يكونُ بتركِ صلواتٍ، لا تركِ الصلاةِ كلِّها.
وقد اختَلَفَ القولُ في ذلك عن مالكٍ والشافعيِّ؛ فنُقِلَ عنهم الكفرُ وعدمُهُ، وإن لم يأتِ عنهما نصٌّ في التصريحِ، وإنَّما هي حكاياتٌ مِن الأئمَّةِ عنهم، والمشهورُ في المَحْكِيِّ عنهما في تاركِ الصلاةِ: أنَّ كفرَهُ ليس بأكبَرَ.
وأمَّا أبو حنيفةَ، فجماهيرُ أصحابِهِ ينقُلُونَ عنه عدمَ الكفرِ.
وفي كتابِ "صفةِ صلاةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم" مزيدُ كلامٍ على هذه المسألةِ.
* * *
(1) أخرجه أحمد (5/ 363).
(2)
"مسائل الإمام أحمد"، رواية ابنه صالح (2/ 119).
* قال اللَّه تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7].
ذكَر اللَّهُ حَبْسَ النفقةِ عن أهلِها بعدَما ذكَر الغَفْلةَ عن الصلاةِ، فجعَلَ حَبْسَ النفقةِ صفةً للغافِلِينَ عن صلاتِهم الساهِينَ عنها؛ وذلك أنَّ كمالَ الصلاةِ علامةٌ على قوةِ الإيمانِ بالآخِرةِ، ومَن قَوِيَ إيمانُه بالآخرةِ، انبسطَت يدُهُ بالصدقةِ، لعِمَارةِ آخِرتِه، وقدَّم لها ما ينتظرُهُ فيها مِن أجرٍ، ومَن ضعُفَتْ صلاتُه، ضعُف إيمانُه، وانقبَضَت يدُهُ عن الصدقةِ بمقدارِ ضَعْفِ إيمانِه؛ فإنَّ الإنسانَ في الدُّنيا يَعْمُرُ بيوتَها بمقدارِ أَمَلِه بالبقاءِ فيها، فتجدُهُ لا يعمُرُ بيتًا في بلدٍ يعبُرُها مسافرًا، وكلَّما كان يقينُهُ بالبقاءِ فيها أطوَلَ، كانتْ عمارتُهُ لها أشَدَّ.
وقوله تعالى: {الْمَاعُونَ} على وزن (فَاعُول)؛ مشتقٌّ مِن المَعْنِ، وهو الشيءُ القليلُ اليسير؛ فكلُّ ما يحتاج إلبه الناسُ ويُعِينُهم في استمتاعِهم يُسمَّى ماعونًا، ثمَّ غلَبَ استعمالُهُ على الآنيَةِ؛ لأنَّها أغلبُ ما ينتفِعُ به الناسُ في الطعامِ والشرابِ (1). ومِن السلفِ: مَن حمَلَ قَولَه: {الْمَاعُونَ} في الآيةِ على منعِ كلِّ خيرٍ ولو كان نفقةَ دِرْهَمٍ ودِينارٍ.
بل مِن السلفِ: مَن حمَلَهُ على إعانةِ الناسِ بمهنتِهم إنْ طلَبُوا عَوْنًا.
ومِن هنا تنوَّعُ كلامُ السلفِ في تفسيرِ الماعونِ في الآيةِ:
فمنهم: مَن قال: هي الزكاةُ؛ كعليٍّ وابنِ عمرَ ومجاهدٍ وابنِ الحَنَفِيَّةِ وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ والحسنِ والزُّهْريِّ (2).
ومنهم: مَن قال: هو القِدْرُ والدَّلْوُ الفأسُ وما في حُكْمِه مِن
(1) انظر: "الصحاح" للجوهري، و"لسان العرب"، و"تاج العروس"، مادَّة (م ع ن).
(2)
"تفسير الطبري"(24/ 666 - 670)، و"تفسير ابن كثير"(8/ 495).