الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخِمَارِ إلى الوَجْهِ فوقَ الجبهةِ"؛ رواهُ الحاكمُ (1).
والأصلُ: أنَّ الخِمارَ لا يَبقى على الرأسِ، بل يكونُ منه على ما دونَهُ؛ ففي "صحيحِ البخاريِّ":"أنَّ عائشةَ كانَتْ تذكُرُ نَذْرَها -الذي نذَرَتْهُ ألَّا تُكلِّمَ عبدَ اللَّهِ بنَ الزُّبيرِ- فتَبْكِي حتى تَبُلَّ دُمُوعُها خِمَارَها"(2).
قال أبو نُعَيْمٍ الأصبهانيُّ: "الجِلْبابُ فوقَ الخِمَارِ ودونَ الرِّداءِ تَستوثِقُ المرأةُ صدرَها ورأسَها"(3).
والغالبُ: أنَّ المرأةَ عندَ تغطيتِها لوجهِها تأخُذُ الخِمَارَ مِن أسفلِهِ الذي على صدرِها وتَرفَعُهُ على وجهِها، وبالنسبةِ للجلبابِ تُدْنِيهِ مِن فوقِ رأسِها وتسدِلُهُ أو تَضرِبُ به على وجهِها، ويصحُّ العكسُ، خاصَّةً إن كان الخِمارُ واسعًا، سدَلَتْ منه شيئًا مِن رأسِها على وجهِها.
أنواعُ زِينَةِ المَرْأةِ:
وللمرأةِ زينةٌ في بَدَنِها خُلِقَتْ عليها، ولها زينةٌ مُكتسَبةٌ تضَعُها:
فأمَّا زينتُها التي خُلِقَت عيها: فوَجْهُها وشَعَرُها، ولَوْنُها وصُورةً خِلْقَتِها.
وأمَّا الزينةُ المكتسَبةُ: فهي ما تَلبَسُهُ مِن حُلِيٍّ وثيابٍ، وما تضعُهُ مِن لونٍ، كحِنَّاءٍ وأصباغٍ على وجهِها ويدَيهَا وشَعْرِها.
واللَّهُ ذكَرَ في الآيةِ الزينةَ، وجعَلَها إجمالًا على نوعَيْنِ:
(1) أخرجه الحاكم في "المستدرك"(4/ 525).
(2)
أخرجه البخاري (6073).
(3)
"المسند المستخرج على صحيح مسلم"(2/ 474).
الأُولى: الزينةُ الباطنةُ التي لا تَظهَرُ لأحدٍ، وهذا في قولِه:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} ، ثمَّ أَتْبَعَها بالاستثناءِ.
الثانيةُ: الزينةُ الظاهرةُ، التي تَظهَرُ لمَنْ خَصَّهُمُ اللَّهُ بها، بقولِه:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ، وبعضُ الناظرِينَ لتفسيرِ السلفِ لقولِه:{إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يَحمِلُ تفسيرَهُمْ أنَّهم يُظهِرُونَهُ للأجانبِ غيرِ المَحارِمِ، فيَنْقُلُونَ عن جماعةٍ مِن الصحابةِ والتابعينَ قولَهُمْ في {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أنَّه (الكَفُّ والوجهُ)؛ كما رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ وابنِ عمرَ والضحَّاكِ (1)، أو (الكُحْلُ والخضَابُ والخاتَمُ)؛ كما رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ (2) ومجاهدٍ (3) وابنِ جُبَيْرٍ (4)، أو (الكُحْلُ والخاتَمُ)؛ كما رُوِيَ عن أنسٍ (5)، أو (الخِضَابُ والكُحْلُ)؛ كما رُوِيَ عن عطاءٍ (6)، أو (الكُحْلُ)؛ كما رُوِيَ عن الشعبيِّ وقتادةَ، أو (الوجهُ والثيابُ)؛ كما رُوِيَ عن الحسنِ وقتادةَ أيضًا (7)، أو (الوجهُ وثُغْرةُ النَّحْرِ)؛ كما جاء عن عِكرِمةَ (8)، أو (الكُحْلُ والثيابُ)؛ كما جاء عن الشَّعْبيِّ (9)؛ وهذا أصحُّ ما جاء عن الصحابهِ والتابعبنَ مِن تفسيرِ آيةِ الزينةِ.
والأظهَرُ أنَّ كلامَ هؤلاء السلفِ إنَّما هو في الزِّينةِ الظاهِرةِ للمَحارِمِ مِن النَّسَبِ والرَّضَاعِ، والصحابهُ والتابعونَ كانوا على قَدْرٍ شديدٍ مِن العفافِ والسترِ، حتى إنَّهم قلَّما يُسْأَلُونَ عمَّا تُبْدِيهِ الحُرَّةُ للرجلِ الأجنبيِّ.
(1)"تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2574).
(2)
"تفسير البغوي"(6/ 34).
(3)
"تفسير الطبري"(17/ 260)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2574).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(17015).
(5)
"الدر المنثور"(11/ 23).
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(17012).
(7)
"تفسير الطبري"(17/ 261).
(8)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(17021).
(9)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(17007).
ويوضِّحُ أنَّ مرادَ الصحابةِ والتابعينَ كشفُ الزينةِ الظاهرةِ للمَحَارِمِ لا الأجانب: نصوصُهُمُ الأُخرى ونصوصُ غيرِهم الصريحةُ في ذلك، التي لا تتفِقُ وتجتمِعُ إلَّا على هذا المعنى؛ وذلك مِن أربعةِ وجوهٍ:
الوجهُ الأولُ: أنَّ جميعَ مَن صَحَّ عنه نفسيرُ الزينةِ الظاهِرةِ في آيةِ النورِ: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ، قد صحَّ عنه ما يَحمِلُ تفسيرَهُ على تخصيصِهِ للمَحَارِمِ صريحًا في موضعِ آخَرَ:
أما عبدُ اللَّهِ بنُ عبَّاسٍ: فصحَّ عنه أنَّه قال: "الزينةُ الظاهرةُ: الوجهُ وكُحْلُ العَيْن وخِضَابُ الكفِّ والخاتَمُ، فهذا تُظهِرُهُ في بيتِها لمَنْ دخَلَ عليها" -ثمَّ قال صريحًا-: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} ، والزينةُ التي تُبدِيها لهؤلاءِ الناسِ قُرْطَاهَا وقِلَادَتُها وسِوَارَاها، فأمَّا خَلْخَالُها ومِعْضَدَتُها ونَحْرُها وشَعَرُها، فلا تُبديهِ إلا لزوجِها".
أخرَجَهُ البيهقيُّ، عن عليٍّ، عن ابنِ عبَّاسٍ، وهو صحيحٌ (1).
وصحَّ عن ابنِ عبَّاسِ أيضًا لمَّا ذكَرَ المَحارِمَ: "الزِّينةُ التي تُبدِيها لهؤلاءِ: قُرْطَاهَا وقِلادتُها وسِوَارَاها، وأمَّا خَلْخَالاهَا ومِعْضَدَاهَا ونحرُها وشعرُها، فإنَّها لا تُبديهِ إِلَّا لزوجِها"؛ أخرَجَهُ ابنْ جريرٍ، عن عليٍّ، عن ابنِ عبَّاسٍ (2).
وعلى هذا اتَّسَقَ جميعُ تفسيرِ ابنِ عبَّاسِ وأقوالِهِ في كلِّ أبوابِ الفقهِ؛ كالحجِّ وآيةِ الأحزابِ، وفي آيةِ القواعدِ (العجائزِ): {فَلَيْسَ
(1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 94).
(2)
"تفسير الطبري"(17/ 264).
عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} [النور: 60]، قال:(الجلابيبُ)(1)، وهي التي على الشابَّةِ؛ كما صَحَّ عن ابنِ عبَّاسٍ قولُهُ:"أمَرَ اللَّهُ نساءَ المؤمِنينَ إذا خرَجْنَ مِن ببوتِهنَّ في حاجةٍ أن يُغَطِّنَ وجوهَهُنَّ مِن فوقِ رؤوسِهنَّ بالجلابيبِ، ويُبدِينَ عينًا واحدةً"(2)، وصحَّ عنه أيضًا قولُه:"تُدْلِي الجلبابَ على وَجْهِها"(3).
وجميعُ أصحابِ ابنِ عبَّاسٍ الذين رُوِيَ عنهم ما يُشابِهُ قولَهُ - لم يكونوا يُسألونَ عن غيرِ المَحَارِمِ، والسؤالُ عنهم غيرُ واردٍ؛ لوضوحِهِ وجلائِه، وقد كانوا على نوعٍ مِن العفافِ والسِّتْرِ شديدٍ، فيُطلِقونَ إطلاقاتٍ لا يَفهَمُها مَن تأثَّرَ بواقعِ السُّفُورِ والتعرِّي، حتى أصبَحَتْ مِن النساءِ مَن تَلبَسُ عندَ الأجانبِ ما لا تَلبَسُهُ نساءُ السلفِ عندَ أبيها وأخيها وابنِها، ومَن جمَعَ أقوالَ أولئِكَ السلفِ المفسِّرينَ للزِّينةِ مِن أبوابِ السَّتْرِ والعَوْراتِ، ظهَر له مرادُهم جليًّا:
فأمَّا سعيدُ بنُ جُبيرٍ: فصحَّ عنه أنَّ تخفيفَ اللَّهِ عن القواعدِ (العجوزِ) هو وضعُ (الجلابيبِ) فقطْ؛ قال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: لا تتبرَّجْنَ بوضعِ الجلبابِ أن يُرى ما عليها مِن الزينةِ (4)، والجلابيبُ هي ما يستُرُ الوجوهَ على ما يأتي بيانُهُ في آيةِ القواعدِ:{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} [النور: 60]، وآيةِ الأحزابِ:{يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [59]، فإنْ كانتْ هذه هي الرُّخْصةَ عندَ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ للعجوزِ، فهي ليستْ رخصةً للشابَّةِ، وقد أجمَعَ العلماءُ أنَّه لا يَحِلُّ للعجوزِ إظهارُ شَعَرِها؛ حَكَى الإجماعَ
(1)"تفسير الطبري"(17/ 360)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2641).
(2)
"تفسير الطبري"(19/ 181)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(10/ 3154).
(3)
"معرفة السنن والآثار" للبيهقي (4/ 9)، و"مسائل الإمام أحمد رواية أبى داود"(ص 154) مسألة (732).
(4)
"تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2642).
ابنُ حَزْمٍ (1) والجَصَّاصُ (2).
وأمَّا عطاءُ بنُ أبي رباحٍ: فقد صحَّ عنه تفضيلُهُ سَتْرَ الشعرِ عن المَحارمِ؛ ففد قال في الرجُلِ يَرى مِن النساءِ ما يحرُمُ عليه نكاحُهُ: "رؤوسُهُنَّ إنْ سُتِرَتْ أحَبُّ إليَّ، وإنْ رأَى فلا بأس"؛ أخرَجَهُ ابنُ أبي شيبةَ، عن عبدِ الملكِ، عن عطاءٍ (3)، وهو صحيحٌ.
ثمَّ إنَّه قد صحَّ عن عطاءٍ ما صحَّ عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ في العجوزِ أنَّه تضعُ جلبابَها، والجلبابُ ما على الوجهِ.
وأما مجاهِدُ بنُ جَبْرٍ: فصحَّ عنه أنَّه لا يَرى وضعَ الخِمَارِ عندَ المرأةِ الكافِرةِ، نكيف يُحمَلُ قولُه في الزينةِ الظاهرةِ:(الخاتَمُ والكحلُ) أنَّها للرجالِ الأجانب مشرِكِينَ ومسلِمينَ؟ ! فقد روى ليثٌ، عن مجاهدٍ؛ قال:"لا تضعُ المسلِمةُ خمارَها عندَ مشرِكةٍ ولا تُقبِّلُها؛ لأن اللَّهَ تعالى يقولُ: {أَوْ نِسَائِهِنَّ}؛ فليس مِن نسائِهنَّ"؛ رواهُ البيهقيُّ عنه (4)، وروايةُ ليثٍ عن مجاهدٍ كتابٌ ونُسْخةٌ؛ ذكَرَهُ ابن حِبَّانَ.
وقد صحَّ عن مجاهدٍ كما صحَّ عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ وعطاءٍ في العجوزِ، وأنَّ اللَّهَ رخَّصَ لها بوضعِ جبابِها (5)، وهذه خصيصةُ العجوزِ عندَه عن الشابَّةِ.
وأمَّا قولُ عامرٍ الشَّعْبيِّ: (الكحلُ والثيابُ)، وقولُ عِكرِمةَ مَولى ابنِ عبَّاسٍ:(الوجهُ وثُغْرةُ النَّحْرِ): فقد صحَّ عنهما أنَّهما كانا يَنْهَيانِ أن تضَعَ المرأةُ خِمارَها عندَ عمِّها وخالِها؛ خلافًا لجمهورِ العلماءِ، فكيف
(1)"المحلَّى"(10/ 32).
(2)
"أحكام القرآن" للجصاص (5/ 196).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(17279).
(4)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 95).
(5)
"تفسير الطبري"(17/ 363)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2640).
يُحمَلُ قولُهما في {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} : أنَّ المرأةَ تُبدِي وجهَها وكفَّيْها وكُحْلَها للأجانبِ الأبعدِيَن، وهما يُشدِّدَانِ في المحارمِ غيرِ المذكورِينَ في الآية؟ ! فقد روى داودُ، عن الشَّعْبيِّ وعِكْرِمةَ في قولِه:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} حتى فرَغ منها، قالا:"لم يُذكَرِ العمُّ والخالُ؛ لأنَّهما يَنعَتانِ لأبنائِهما، وقالا: لا تضعُ خِمَارَها عندَ العمِّ والخالِ"؛ أخرَجَهُ ابنُ أبي شيبةَ (1) وابنُ جريرٍ (2) وابنُ المنذِرِ (3).
ويعضُدُ هذا: ما رواهُ جابرٌ، عن عامرٍ:"أنَّه كَرِهَ أن ينظُرَ إلى شَعَرِ كلِّ ذي مَحْرَمٍ"؛ أخرَجَهُ ابنُ أبي شيبةَ (4).
ثمَّ إنَّه قد صحَّ عن الشَّعْبيِّ (5) ما صحَّ عن ابنِ جُبَيْرٍ وعطاءٍ ومجاهدٍ في العجوزِ.
وأمَّا الحسَنُ البصريُّ: فإنَّه لا يَرَى أن يَرَى الأخُ أختهُ بلا خمارٍ على رأسِها؛ فقد صحَّ عن هشامٍ، عن الحسنِ، في المرأةِ تَضَعُ خِمَارَها عندَ أخيها؟ قال:"واللَّهِ؛ ما لها ذاك"؛ أخرَجَهُ ابنُ أبي شيبةَ (6)؛ وهو صحيحٌ، وهذا دليلٌ أنَّه يَقصِدُ المحارِمَ، وما كانوا يُسألونَ عن غيرِ المَحارمِ، ولا يَقصِدونَ غيرَهم، لشِدَّةِ ورعِهم.
وقد صحَّ عن الحسنِ البصريِّ مِثْلُ ما صحَّ عن ابنِ جُبَيْرٍ وعطاءٍ ومجاهِدٍ والشَّعْبيِّ في العجوزِ، وأنَّ اللَّهَ خصَّها بوضعِ الجلبابِ (7).
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(17293).
(2)
"تفسير الطبري"(19/ 173)
(3)
"تفسير ابن كثير"(6/ 47).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(17282).
(5)
"تفسير الطبري"(17/ 363).
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(17281).
(7)
"تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2641).
وأمَّا الضحَّاكُ: فيدُلُّ على أنَّه يتكلَّمُ عن المَحارِمِ، ما رواهُ مزاحمٌ عنه أنَّه قال:"لو دخَلْتُ على أمِّي، لقلتُ: غطِّي رأسَكِ"؛ أخرَجَهُ ابنُ أبي شيبةَ (1).
وأمَّا قتادةُ: فصَحَّ عنه ما صَحَّ عن ابنِ جُبَيْرٍ وعطاءٍ ومجاهدٍ والشعبيِّ والحسنِ في العجوزِ (2).
وعلى هذا المعنى لم يخرُجْ واحدٌ مِن أصحابِ ابنِ عبَّاسٍ وغيرِهم مِن التابعِين؛ فقد روى عِكْرِمةُ وأبو صالحٍ: أنَّ الزينةَ الظاهِرةَ (الدِّرْعُ)(3)، والدِّرْعُ: ثَوْبُ البيتِ لا ثَوْبُ الخروجِ؛ كما هو معروفٌ، لأنَّ الدرعَ يَظهَرُ معه الشَّعرُ والنَّحْرُ، وهو محرَّمٌ بالإجماعِ.
وصحَّ عن طاوُسٍ: "ما كان أكرَهَ إليه مِن أن يَرَى عَورةً مِن ذاتِ مَحرَمٍ، قال: وكان يَكْرَهُ أن تَسلَخَ خِمارَها عندَه"؛ رواهُ عبدُ الرزاقِ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيهِ (4)؛ وهو صحيحٌ.
وأمَّا عبدُ اللَّهِ بنُ عمرَ: فإنه قد صحَّ عنه أنَّه جعَلَ ما استثناهُ اللَّهُ للعجوزِ أن تَكشِفَهُ هو جِلْبَابَها (5)، ويتفقُ العلماءُ أنْ لا خصيصةَ للعجوزِ في ذلك، فبَقِيَ جلبابُ الوجوهِ على الشابَّةِ، ولا يليقُ بفقهِ الصحابةِ ولا بعقولِهم وفَهْمِهم ضربُ أقوالِهم في البابِ البيِّنِ الواضحِ، كحجابِ المرأةِ ولباسِها.
وعلى هذا بوَّبَ البيهقيُّ في "سُنَنِه"؛ فقد ترجَمَ على تفسيرِ ابنِ عباسٍ لقولِه تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ؛ فقال: "بابُ ما
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(17281).
(2)
"تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2641).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(17005).
(4)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(12831).
(5)
"تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2640، و 2641).
تُبدِي المرأةُ مِن زينتِها للمذكورينَ في الآيةِ مِن مَحَارِمِها"، ثمَّ أورَدَ قولَ ابنِ عبَّاسٍ الذي فيه: والزينةُ الظاهِرةُ: الوجهُ وكُحْلُ العَيْنِ وخِضَابُ الكفِّ والخاتَمُ، فهذا تُظهِرُهُ في بيتِها لمَنْ دخَلَ عليها (1).
ونَصَّ على هذا ابنُ عبدِ البَرِّ، فجعَلَ كشفَ الزِّينةِ وإظهارَها للمَحارِمِ لا للأجانبِ، فقال:"إنَّ ذَوي المَحارِمِ مِن النَّسَبِ والرَّضاعِ لا يُحتجَبُ منهم ولا يُستتَرُ عنهم إلَّا العَوْراتُ، والمرأةُ فيما عَدَا وجهَها وكفَّيْها عَوْرةٌ"(2).
ومَن نظَرَ إلى تفسيرِ بقيَّةِ الصحابةِ في ذلك، وجَدَ أنَّه يتطابَقُ مع هذا المعنى ويُوافِقُهُ؛ كما صحَّ عن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ؛ أنَّ الزِّينةَ الظاهِرةَ (الثيابُ)(3)؛ وعلى هذا جميعُ أصحابِهِ وغيرُهم مِن العراقيِّينَ، كأبي الأحوصِ والنخَعيِّ والحسنِ وابنِ سيرينَ وغيرِهم، وقال به مجاهِدٌ (4)، ومرادُهُ بالثيابِ التي تكونُ تحتَ الجِلْبابِ ممَّا على الثيابِ الداخليَّةِ مِن رخرفةٍ وزينةٍ، فالجلبابُ يستُرُ زينةَ الملابسِ الداخليَّةِ، فلِلْمَحَارِمِ رؤيةُ ذلك؛ لأنَّ الزينةَ تكونُ بالثيابِ؛ كما في قولِه تعالى:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]؛ يعني: زينةَ ثيابِكم، وبهذا فسَّر أبو إسحاقَ السَّبِيعيُّ قولَ ابنِ مسعودٍ؛ فقد تلا هذه الآيةَ:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} لمَّا روى تفسيرَ ابنِ مسعودٍ عن أبي الأخْوَصِ عنه (5).
الوجهُ الثاني: أنَّ فِقْهَ السلفِ في غيرِ التفسيرِ في بقيَّةِ أبوابِ السَّتْرِ والنظرِ دالٌّ على هذا المعنى؛ فقد صحَّ عن ابنِ شهابِ الزُّهْريِّ قولُهُ:
(1)"السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 94).
(2)
"التمهيد"(8/ 236).
(3)
"تفسير الطبري"(67/ 256)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2573).
(4)
"تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2574).
(5)
"تفسير الطبري"(17/ 257).
"لا بأسَ أن ينظُرَ الرجلُ إلى قُصَّةِ المرأةِ مِن تحتِ الخِمَارِ إذا كان ذا مَحرَمٍ، فأمَّا أن تَسلَخَ خِمارَها عندَهُ، فلا"(1).
وعن الزّهْريِّ أيضًا في المرأةِ تَسلَخُ خِمارَها عندَ ذي مَحْرَمٍ، قال:"أمَّا أنْ يرى الشيءَ مِن دونِ الخِمَارِ، فلا بأسَ، وأمَّا أن تَسلَخَ الخِمارَ، فلا"؛ أخرَجَهُ عبدُ الرزاقِ، عن مَعمَرٍ، عنه (2)؛ وهو صحيحٌ.
ومَن جمَعَ أقوالَ السلفِ في جميعِ الأبوابِ، ونظَرَ فيها في سياقٍ واحدٍ، أدرَكَ حَجْمَ وَرَعِهم وتحفُّظِ نسائِهم، وأدرَكَ أنَّهم يَدُورُونَ في دائرةٍ أخرى مِن العِفَّةِ والاحتياطِ على غيرِ ما يَحمِلُهُ كثيرٌ مِن الكتَّابِ عنهم، فإنَّهم لا يُرِيدونَ مِن معنى الزينةِ التي تتعلَّقُ بالوجهِ وما حولَهُ للأجانبِ الأبعدِين، وهم لا يختلِفونَ في جوازِ كشفِ المرأةِ لوجهِها للأقرَبِينَ، ولا يخوضونَ في ذلك؛ وإنَّما يذكُرونَ الوجهَ اختصارًا لإجازةِ زينتِهِ تَبَعًا مِن الكُحْلِ والقُرْطِ والخِضابِ، ويذكُرونَ اليدَ اختصارًا ليدخُلَ فيها زينتُها مِن الخاتَمِ والخِضَابِ والسِّوَارِ، ولا يَعْنُونَ الوجهَ بذاتِه، ومَن نظَر في مجموعِ تفسيرِهم، أدرَكَ ذلك يقينًا.
الوجهُ الثالثُ: أن اللَّهَ رخَّصَ للقواعدِ أنْ يَضَعْنَ ثيابَهُنَّ، فقال:{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 60]، وقد اتَّفَقَ المفسرونَ مِن الصحابةِ والتابعينَ: أنَّ الثيابَ التي رخَّصَ اللَّهُ بها للعجوزِ هي (الجلابيبُ)؛ جاء ذلك بسندٍ صحيحٍ عن ابنِ عبَّاسٍ وابنِ مسعودٍ وابنِ عمرَ والشَّعْبيِّ وابنِ جُبَيْرٍ والحسنِ ومجاهِدٍ وعطاءٍ وعِكْرِمةَ وقتادةَ وغيرِهم، وهؤلاءِ كلُّهم لهم تفسيرٌ للزِّينةِ؛ كما تقدَّمَ
(1) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(12829).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(12830).
أنها: "الزينة الظاهرة"، واتفَقوا هنا على أنَّ ما تَختَصُّ به العجوزُ عن الشابَّةِ رفعُ الجلبابِ فقطْ، والجلابيبُ هي ما تَختصُّ بسَتْرِ الوجهِ مِن بَشَرةِ الجسمِ، وتكونُ فوقَ بقيَّةِ الثيابِ ثوبًا على ثوبٍ، فالجلبابُ فوقَ الخِمَارِ، ويدُلُّ على أنَّ الجلابيِبَ ما كانتْ تستُرُ الوجوهَ للشابَّةِ جُمْلةٌ مِن تفسيرِ أفصحِ الناسِ وأقرَبِهم إلى الوحي، وهم الصحابةُ والتابعونَ:
منها: قولُ عائشةَ: "تُسدِلُ المرأةُ جِلْبابَها مِن فوقِ رَأْسِها على وَجْهِها"؛ أخرَجَهُ سعيدُ بنُ منصورٍ بسندٍ صحيحٍ (1)، وقولُها في "الصحيحَيْنِ":"فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي"(2).
ومنها: قولُ ابنِ عبَّاسٍ: "تُدْلي الجِلْبابَ على وجهِها"؛ أخرَجَهُ أبو داودَ في "المسائلِ" بسندٍ صحيحٍ (3)، وقولُه:"أمَرَ اللَّهُ نساءَ المؤمِنينَ إذا خَرَجْنَ مِن بُيُوتِهِنَّ في حاجةٍ أنْ يُغَطِّينَ وجوهَهُنَّ مِن فوقِ رؤوسِهِنَّ بالجلابيبِ، ويُبدِينَ عينًا واحدةً"؛ رواهُ ابنُ جريرٍ بسندٍ صحيحٍ (4).
ومنها: ما رواهُ عاصمٌ الأحولُ؛ قال: كنَّا ندخُلُ على حَفْصةَ بنتِ سيرينَ، وقد جعَلَتِ الجلبابَ هكذا، وتَنَقَّبَتْ به، فنقولُ لها: رَحِمَكِ اللَّهُ! قال اللَّهُ تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60]، وهو الجلبابُ؟ قال: فتقولُ لنا: أىُّ شيءٍ بعدَ ذلك؟ فنقولُ: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 60]، فتقولُ: هو إثباتُ الجِلْبابِ (5).
وإذا اتَّفَقَ الصحابةُ على أنَّ رُخْصةَ النساءِ العجائزِ وضعُ الجلابيبِ، وكشفُ الوجهِ مِن غيرِ زينةٍ، فماذا يُحِلُّونَ للمرأةِ الشابَّةِ أمامَ الأجانبِ؟ !
(1)"فتح الباري" لابن حجر (3/ 406).
(2)
أخرجه البخاري (4141)، ومسلم (2770).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
سبق تخريجه.
(5)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 93).
وقد حكى الإجماعَ غيرُ واحدٍ مِن العلماءِ على أنَّه لا يجوزُ للعجوزِ أنْ تَكشفَ شَعَرَها للأجانبِ مهما بلَغَ سِنُّها؛ حكى الإجماعَ ابنُ حَزمٍ (1)، والجَصَّاصُ (2)، وغيرُهما، فشعَرُ العجوزِ عورةٌ للأجانبِ كشَعَرِ الشابَّةِ بلا خلافٍ.
وإذا كان تفسيرُ ابنِ عمرَ وابنِ عبَّاسٍ وابنِ جُبَيْرٍ وعِكرِمةَ والحسنِ والشَّعْبيِّ والضَّحَّاكِ ومجاهدِ وقتادةَ لآيةِ: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} : أنَّها الوجهُ والكَفَّانِ ويُرادُ بها للأجانبِ، فما الفائدةُ مِن تزولِ آيةِ القواعدِ، والترخيصِ لها بالجلبابِ؟ !
الوجهُ الرابعُ: أنَّ اللَّهَ نَهى عن إظهارِ الزينةِ بقولِه: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} ، ثمَّ استثنى فقال:{إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ، ثمَّ أرادَ أنْ يُبيِّنَ المَعْنِيِّينَ بالإظهارِ مُفصِّلًا لمَراتبِهم بحسَب قُرْبِهم، فقال:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ} الآية، وقد يَستشكِلُ البعضُ ذِكْرَ الزوجِ مع أنَّه لا يُستثنى دونَهُ شيءٌ، وإنَّما ذُكِرَ مع غيرِهِ مِن المَحارمِ مِن بابِ حصرِ المعنيِّينَ؛ حتى لا يُظَن أن الخِطابَ للأبعَدِينَ، وليس المرادُ أنَّ الزِّينةَ له كالزِّينةِ لغيرِه؛ ولذا بدَأَ به للخَصُوصِيَّةِ، فالمفسِّرونَ يَعلَمونَ اختلاف مَراتبِ المذكورينَ؛ روى ابنُ وهبٍ، عن ابنِ زيدٍ؛ قال:"والزوجُ له فضلٌ، والآباءُ مِن وراءِ الرجُلِ لهم فضلٌ، قال: والآخَرونَ يتفاضَلونَ، قال: وهذا كلُّه يَجمَعُهُ ما ظهَرَ مِن الزينةِ"؛ أخرَجَهُ ابنُ جريرٍ (3).
فقولُ عبدِ الرحمنِ بنِ زيدِ بنِ أسلَمَ: "وهذا كلُّه يَجمَعُهُ ما ظهَرَ مِن
(1)"المحلَّى"(10/ 32).
(2)
"أحكام القرآن" للجصاص (5/ 196).
(3)
"تفسير الطبري"(19/ 174).