الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيكونُ بحَسَبِ أهوائِهم وطمعِهم، وفي الآيةِ إشارةٌ باطنةٌ إلى أنَّ غيرَ المُصلِّين ليسوا بأهلِ شُورَي يُصْدَرُ عن رأيِهم.
الشُّورَى وفضلُها وشيءٌ مِن أحكامِها:
وفي ذِكْرِ الشُّورَى في هذه السورةِ المكيَّةِ بيانٌ لفضلِ الشُّورَى، وأنَّها مِن الأمورِ التي دعَت إليها الشريعةُ في أولِ الأمرِ والناسُ قليلٌ، ومعلومٌ أنَّ الناسَ بمكةَ مع قلَّتِهم على يقينٍ، فالمؤمِنُ منهم لم يُؤمِنْ إلَّا بإقبالٍ وقوةِ إيمانٍ وصِدْقٍ، ومع ذلك حَمِدَ اللَّهُ تشاوُرَهُمْ وأَثنى عليه، مع أنَّهم لو أُمِروا بشيءٍ، لم يُخالِفُوه، وإذا كان هذا في زمنِ قوةِ الإيمانِ واليقينِ وقلةِ العددِ، فهو مع ضَعْفِ الإيمانِ وكثرةِ العددِ آكَدُ.
وقد قال بعضُ السلفِ: "إنَّ الآيةَ قُصِدَ بها الأنصارُ في المدنيةِ"؛ وبهذا قال ابنُ زيدٍ (1)؛ فحَمِدَهم اللَّهُ لنبيِّه وهو بمكةَ لمّا أسْلَموا وأَبْدَوْا خيرًا في اتِّباعِ الحقِّ، وتشاوُرًا في أمرِهم.
وفي قولِهِ تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} أنَّ الشُّورَى في أمرِهم، لا في أمرِ اللَّهِ، فما قَضَى اللَّهُ فيه، لا يجوز أنْ يُجعَلَ بينَ الناسِ شُورَى؛ فذلك مُحادَّةٌ للَّهِ؛ قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، فليس للمُسلِمينَ فيما قضَى اللَّهُ ورسولُهُ فيه إلَّا اختيارُ قضائِهما، وأمَّا أَمْرُهُمُ فشُورَى بينَهم، لا يَفصِلُ أحدٌ عن جماعتِه فيه.
وما قضَتْ فيه الشريعةُ واختارَتْهُ، ولكنَّها وسَّعتْ في زمانِهِ ومكانِهِ كالجهادِ، فللمُسْلِمينَ التشاوُرُ في تعيينِ جهةِ القتالِ وزمانِه؛ لأنَّ التشريعَ لا يُشاوَرُ فيه، وكالوِلَايةِ! قضَى اللَّهُ أنْ لا سُلْطَانَ على المُسلِمِينَ إِلَّا
(1)"تفسير الطبري"(20/ 523).
منهم، فلا يجوزُ التشاوُرُ بينَ وِلايةِ كافرٍ ومسلمٍ باختيارِهم، ما لم يُقهَرُوا، ولكن لهم التشاوُرُ بينَ المُسلمِينَ فيَختارُونَ مَن يصلُحُ منهم.
والشُّورَى فيما لم يَقْضِ اللَّهُ فيه سُنَّةٌ؛ كالذي يَتعلَّقَ بمصالحِ العبادِ والبُلْدانِ من الأموالِ والأعمالِ والنُّظُمِ، وإذا عرَضَ الأميرُ الأمرَ على المُسلِمِينَ، فتَشاوَرُوا، فهل يكونُ رأيُهم مُلزِمًا للأميرِ أو مُعْلِمًا له؟ إنْ أجمَعَ أهلُ الشُّورَى على أمرٍ، فلا يجوزُ للأميرِ مخالفتُهُ إذا كان أمرًا عامًّا ومصلحةً للناسِ؛ وذلك لِمَا في خروجهِ عن إجماعِهم مِن فتنةٍ عليه وعليهم جميعًا، وأمَّا إنِ اختلَفُوا فيما بينَهم وغلَبَ بعضُهم على بعضٍ كثرةً وسَوَادًا في الرأي، فلا يخلو مِن حالَيْنِ:
الأُولى: إن كان الأميرُ عالمًا بصيرًا مستنبِطًا، فالشُّورى بالنسبةِ له مُعْلِمَةٌ تُعطيهِ عِلْمًا إلى عِلْمِه، فقد يَرى ما لا يرَوْنَ، فيجوزُ له مخالفتُهم ما دام عالمًا فيما استشارَهم فيه.
الثانيةُ: إن كان الأميرُ جاهلًا فيما استشارَهم فيه، فالشُّورَى مُلزِمةٌ له على الصحيحِ؛ لأنَّه إنْ صدَرَ بأمرِهِ سيصدُرُ عن جهلٍ وهوًى، ولا يكادُ اليومَ يُوجَدُ في الأمَّةِ حاكمٌ عالمٌ، وإنْ عَلِمَ في بابٍ، فإنَّه على خلافِ ذلك في عامَّةِ الأبوابِ، وقد أمَرَ اللَّهُ بإرجاعِ الأمر إلى العالِمِينَ المُستنبِطِينَ؛ كما قال تعالى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، ومن لا يَعْلَمْ لا يَستنبِطْ، ومَن لا يَستنبِطْ لا يَفصِلُ، وإنْ كان عِلمُهُ بغيره، فيَحكُمُ ويَفصِلُ بمَنْ يَستشيرُهُ ويُعْلِمُه، واللَّه أعلَمُ.
وقد تقدَّم الكلام على الشُّورَى وأحكامِها وأحوالِها، عندَ قولِه تعالى:{جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وقولِهِ تعالى:{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233]، وقولِه تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12].
* قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 39 - 41].
شرَع اللَّهُ لِمَنْ بُغِيَ عليه أن يَنتصِرَ لنفسِه، وألَّا يَبْغِيَ عندَ انتصارِهِ فَتغلِبَهُ نفسُهُ فيَزِيدَ في حقِّه مِن مالِ أو عِرْضٍ أو دمٍ، فيَتزايَدَ الناسُ في طلبِ البغي الذي لا ينتهي، فيَتعاظَمَ ويَشْتدَّ الظُّلْمُ بتَزَايُدِهِمْ في انتصارِهم لأنفُسِهم، وكثيرًا ما يدخُلُ المظلومُ بابَ الانتصارِ لنفسِهِ حتى يُصبِحَ ظالمًا وقد كان مظلومًا، وما يَزالونَ يتزايدونَ في الانتصارِ لأنفسِهم كما يَتَرَابَى أهلُ الأموالِ رِبَا الأموالِ؛ ولهذا حَثَّ اللَّهُ على تقديمِ العفوِ؛ حتى لا يقعَ الناسُ في شيءٍ مِنِ ذلك، فيكونَ شرًّا عامًّا بدلًا مِن شرٍّ وبَغْيٍ خاصٍّ.
وهذه الآية نظيرُ قولِهِ تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)} [النحل: 126]، وقولِهِ تعالى:{ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)} [الحج: 60]، وقد تقدّم الكلامُ على الانتصارِ للنَّفْسِ بمِثلِ ما بُغِيَ عليها في سورةِ البقرةِ عندَ قولهِ:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 194]، وقد تقدَّم أيضًا الكلامُ على أحوالِ الانتصارِ للنَّفْسِ، ومتى يجب أن ينتصِرَ الإنسانُ مِن الظالمِ ومتى يُستحَبُّ له العفوُ والصَّفحُ، في سورةِ الشُّعَراءِ عندَ قولِهِ تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)} [الشعراء: 227].
* * *