الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صِيَغُ الاستعاذةِ:
وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يستعيذُ بألفاظٍ وصِيَغٍ متعدِّدةِ، وذلك بحَسَبِ المُوجِبِ والمُقتضِي مِن الأحوالِ؛ منها قولُهُ:(أَعُوذُ بِوَجْهِكَ)(1)، ومنها:(أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ)(2)، ومنها قولُهُ:(أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ)(3)، وله استعاذةٌ عندَ دخولِ الخلاءِ، وهي قولُهُ:(اللَّهُمَّ، إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ)(4)، وله استعاذةٌ عندَ الفَزَعِ، وهي قولُهُ:(بِاسْمِ اللَّهِ، أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنْ يَحْضرُونِ)(5)، وله استعاذةٌ عندَ تعويذِه بَنِيهِ؛ كما صنَع مع الحسَنِ والحُسَيْنِ، وهي قولُهُ:(أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّه، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّه، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّه)، وذكَر أنَّ إبراهيمَ كان يُعوِّذُ بها إسماعيلَ وإسحاقَ (6)، وكان للنبيِّ صلى الله عليه وسلم استعاذةٌ عندَ دخولِهِ المسجدَ، وهي قولُه:(أعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)(7)، ورُوِيَ له استعاذةٌ عندَ نزولِ المَنزِلِ (8)، وعندَ دخولِ البلدِ (9)، وعندَ خطَراتِ النَّفْسِ ولَمَّةِ الشيطانِ (10).
وأمَّا الاستعاذةُ عندَ القراءةِ، فأصحُّ شيءٍ في ذلك هو ظاهرُ القرآنِ، وقولُه صلى الله عليه وسلم:(أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)؛ كما جاء في حديثِ
(1) أخرجه البخاري (4628).
(2)
أخرجه مسلم (2708) و (2709).
(3)
أخرجه مسلم (486).
(4)
أخرجه البخاري (142)، ومسلم (375).
(5)
أخرجه أحمد (2/ 181)، وأبو داود (3893)، والترمذي (3528)، والنسائي في "السنن الكبرى"(10533).
(6)
أخرجه البخاري (3371).
(7)
أخرجه أبو داود (466).
(8)
أخرجه مسلم (2708).
(9)
أخرجه النسائي في "السنن الكبرى"(8775).
(10)
أخرجه الترمذي (2988)، والنسائي في "السنن الكبرى"(10985).
أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ (1)، وابنِ عمرَ، ولم يَختلِفِ العلماءُ على هذه الصيغةِ، وقد حكى الإجماعَ عيها غيرُ واحدٍ؛ كالشاطبيِّ وغيرِه.
وجاء في "المسنَدِ" و"السُّننِ": الاستعاذةُ عندَ القراءةِ بقولِه: (أعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ مِنْ هَمْزِهِ، وَنَفْخِهِ، وَنَفْثِهِ، ثُمَّ يَقْرَأُ)(2)، كما جاء في بعضِ ألفاظِ حديثِ أبي سعيدٍ وورَدَ ذِكْرُهُ في قيامِ الليلِ؛ كما في "السُّننِ"، ومنهم مَنْ حكى الإجماعَ على ذِكْرِ "السميعِ العليمِ" فيه؛ كأبي عمرٍو الدانيِّ، وهذا في بعضِ ألفاظِ حديثِ أبي سعيدٍ، ومِن حديثِ جُبَيْرِ بنِ مُطعِمٍ (3)، وابنِ مسعودٍ (4)، وأبي أُمامةَ (5)، وقد تكلَّمْنا على هده الأحاديثِ في كتاب "العِلَلِ".
وأمَّا الاستعاذةُ، فلا يُجهَرُ بها، كما هو الأصحُّ في البسملةِ، وهي أَوْلَى بالإسرارِ مِن البسملةِ.
* * *
* قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} [النحل: 106].
نزَلتْ هذه الآيةُ في عَمَّارِ بنِ ياسرٍ لمَّا عذَّبَتْهُ قريشٌ، وأكرَهُوهُ على قولِ الكفرِ؛ كما رواهُ الحاكمُ والبيهقيُّ، عن أبي عبيدةَ بنِ محمدِ بنِ عمارِ بنِ ياسرٍ، عن أبيه؛ قال: أَخَذَ المُشْيكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، فَلَمْ
(1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(2589).
(2)
أخرجه أحمد (3/ 50)، وأبو داود (775)، والترمذي (242)
(3)
أخرجه أحمد (4/ 80)، وأبو داود (764)، وابن ماجه (807).
(4)
أخرجه أحمد (1/ 403)، وابن ماجه (808).
(5)
أخرجه أحمد (5/ 253).
يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرِ، ثُمَّ تَرَكُوهْ، فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:(مَا وَرَاءكَ؟ )، قَالَ: شَرٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ! قَالَ: (كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟ )، قَالَ: مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ، قَالَ:(إِنْ عَادُوا فَعُدْ)(1).
والإكراهُ المقصودُ: هو الذي لا اختيارَ ولا قُدْرةَ للإنسانِ معه؛ كالتهديدِ بقتلِه، أو إتلافِ عضوٍ منه، أو تعذيبِهِ بما لا يُطيقُه، مِن قادرٍ على ذلك، ويَفِي عادةً لو توعَّدَ.
ولم يَختلِفِ العلماءُ على أنَّ الإسلامَ يصحُّ مع الإكراهِ على الكفر، ومَن أُكرِهَ على الكفرِ ولا حَيْدةَ له عنه، فلا شيءَ عليه في ذلك ما دام قلبُهُ مطمئنًّا بالإيمانِ.
والتفاضُلُ في بابِ الإكراهِ يَختلِفُ؛ فبعضُ المَقاماتِ يجبُ فيها الصبرُ ولو قُتِل الإنسانُ؛ كمَن يتيدَّلُ الدِّينُ بإظهارِه الكفرَ، وهذا كمَقَامِ الأنبياءِ؛ ولهذا لم يرخِّصِ اللَّه لنبيٍّ في التلبُّسِ بالكفرِ ولو قُتِلَ على إيمانِه، ومِثْلُهم أعيانُ ورَثَتِهم الذين تعيَّنَ على الواحدِ منهم الوقوفُ بالحقِّ والثباتُ عليه، فيكونُ مَقامُهُ في قومِهِ كمَقامِ النبيِّ في أُمَّتِهِ؛ تفرُّدًا وانقيادًا للناسِ معه، والناسُ في هذا مقاماتٌ؛ فمَقَامُهُمْ في الناسِ كمَقَامِهِمْ في العُذْرِ، وكلَّما ارتفَعَ مَقامُهم، نقَصَ عذرُهم.
ومع وجودِ الرخصةِ ففد حكَى بعضُ العلماءِ الإجماعَ على أنَّ مَن اختار القتلَ وهو قادرٌ على الثباتِ عندَ الشِّدَّةِ، فإنَّه أفضلُ ممَّن اختار الرخصةَ.
ولا فرقَ في الإكراهِ بينَ الأقوالِ والأفعالِ على الصحيحِ؛ وهو قولُ الجمهورِ، والأشْهَرُ عن أحمدَ، ويتعيَّنُ مع فعلِ أو قولِ الكفرِ والمعصيةِ
(1) أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 357)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 208).
كراهيتُها بالقَلْبِ؛ وإلا كان استحلالًا؛ وهو معنى قوله: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} .
وأمَّا ما جاءَ مِن حديثِ عُبادةَ (1)، وأبي الدرداءِ (2):"لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ قُطِّعْتُمْ، أَوْ حُرِّقْتُمْ، أَوْ صُلِّبْتُمْ"، فهذا عامٌّ مخصوصٌ بالقلبِ؛ وذلك لظاهرِ الآيةِ:{وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} .
* * *
* قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)} [النحل: 115].
تقدَّم الكلامُ على المحرَّماتِ مِن بهيمةِ الأنعامِ في مَواضِعَ، منها عندَ قولِهِ تعالى:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173]، وقولِهِ تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3].
* * *
* قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)} [النحل: 126].
في هذا: أمرٌ بالعدلِ حتى عندَ العقابِ والانتصارِ للنَّفْسِ، فيجبُ العدلُ مع الظالمِ كما يجبُ العدلُ للمظلومِ، ولمَّا كانتْ كثيرٌ مِن النفوسِ
(1) أخرجه المروزي في "تعظيم قدر الصلاة"(920).
(2)
أخرجه ابن ماجه (4034).
يَغيبُ عنها العدلُ عندَ انتصارِها لنفسِها؛ لِمَا جُبِلَتْ عليه مِن التشفِّي والأثَرةِ، أمَرَها اللَّهُ بالعدلِ وتحرِّي الإنصافِ عندَ الانتصارِ وعقابِ الظالمِ، وأن يكونَ ذلك بالمِثْلِ، وقد جاء بمعنى هذه الآيةِ آياتٌ كثيرةٌ؛ منها قولُهُ تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقولُهُ تعالى:{ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)} [الحج: 60].
وقد تقدَّم الكلامُ على الانتصارِ للنفسِ بمِثْلِ ما بُغِيَ عليها عندَ قولِهِ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وسيأتي بيانُ أحوالِ الانتصارِ للنفسِ عندَ قولِهِ تعالى في سورةِ الشعراءِ:{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)} [الشعراء: 227].
* * *