الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حُكْمُ الخشوعِ في الصلاةِ:
والخشوعُ في الصلاةِ عظيمُ القَدْرِ؛ به رِفْعةُ العبدِ وبه وَضْعُه، وهو قلبُ الصلاةِ ولُبُّها، وهو مَنَاطُ استحقاقِ الأجرِ فيها؛ فإنَّه ليس للإنسانِ إلَّا ما عقَلَ مِن صلاتِه، وقد روى أحمدُ؛ مِن حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عَنَمَةَ؛ قال: رَأَيْتُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ دَخَلَ المَسْجِدَ فَصَلَّى، فَأَخَفَّ الصَّلَاةَ، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ، قُمْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ، لَقَدْ خَفَّفْتَ! قَالَ: فَهَلْ رَأَيْتَنِي انْتَقَصْتُ مِنْ حُدُودِهَا شَيْئًا؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِنَّي بَادَرْتُ بِهَا سَهْوَةَ الشَّيْطَانِ؛ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إِلَّا عُشُرُهَا، تُسُعُهَا، ثُمُنُهَا، سُبُعُهَا، سُدُسُهَا، خُمُسُهَا، رُبُعُهَا، ثُلُثُهَا، نِصْفُهَا)(1).
فجعَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أجرَ الصلاةِ بمقدارِ خشوعِ المُصلِّي فيها، وفَهِمَ عمارُ بنُ ياسرٍ أنَّ العِبْرةَ بحضورِ القلبِ، لا بمجرَّدِ طولِها.
وعندَ الكلامِ على حُكْمِ الخشوعِ في الشرعِ، فلا بدَّ مِن الكلامِ عليه مِن جهتَيْنِ:
الجهةُ الأُولى: حُكْمُهُ مِن جههِ أصلِه: فأمَّا أصلُه، فمختلَفٌ فيه، وفي ذلك روايتانِ عن أحمدَ، والأرجحُ: أنَّ أصلَهُ مستحَبٌّ لا واجبٌ، وحكى النوويُّ الإجماعَ على عدمِ وجوبِهِ، وفيه نظرٌ؛ فقد قال بوجوبِهِ جماعةٌ؛ فهو روايةٌ عن أحمدَ، قال بها الغزاليُّ مِن الشافعيَّةِ، ورجَّحَها ابنُ حامدٍ وابنُ تيميَّةَ مِن الحنابلةِ، وجعَلَهُ الرازيُّ شرطَ صحةٍ.
والصوابُ سُنيَّتُهُ مع جلالةِ فضلِه؛ وذلك أنَّ الخشوعَ لو قيل بوجوبِهِ، لكان في ذلك مشقةٌ؛ إذْ لا يَسلَمُ أحدٌ حِينَها مِن إثمٍ، إذْ لا
(1) أخرجه أحمد (4/ 321).
يَسلَمُ أحدٌ مِن سهوٍ يَتْبَعُهُ استرسالٌ عن عمدٍ بمقدارِ إيمانِ الإنسانِ، منهم مَن يقطعُهُ مِن أولِه، ومنهم مَن يأخُذُ منه لحظةً ومنهم لحظاتٍ، والقولُ بتأثِيمِ أولئك أمرٌ دقيقٌ، لو كان، لم تترُكِ الشريعةُ التشديدَ فيه.
ويَظهرُ أنَّ نصوصَ الكتابِ والسُّنَّةِ جاءتْ ببيانِ فضلِ الخشوعِ، ولم تأتِ بألفاظِ الوعيدِ لتاركِه؛ فدَلَّ على قصدِ الفضلِ، ووجودِ الحرَجِ بالإيجابِ، ويَعْضُدُ ذلك قولُ عمرَ بنِ الخطَّابِ:"إنِّي لأُجهِّزُ جيشي وأنا في الصلاةِ"؛ أخرَجَهُ ابنُ أبي شيبةَ (1)؛ وهو صحيحٌ عنه، وعلَّقَهُ البخاريُّ فى كتابِ الصلاةِ مِن "صحيحِه"، في بابِ تفكُّرِ الرجُلِ الشيءَ في الصلاةِ (2).
وهذا مِن عُمَرَ لا يكونُ إلَّا مع شيءٍ ولو يسيرًا مِن الاسترسالِ المقصودِ، ولو كان يُغالِبُ أصلَه، ومنه ما لا يَقْوى عليه ولا يشعُرُ به، وقد رُوِيَ:"أنَّ عمرَ صلَّى المغرِبَ فلَم يَقرأْ، فلمَّا انصرَفَ، قالوا: يا أميرَ المؤمِنينَ، إنَّك لم تَقرأْ؟ ! قال: إِنِّي حَدَّثْتُ نَفْسِيَ وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ بِعِيرٍ وَجَّهْتُهَا مِنَ المَدِيَنَةِ، فَلَمْ أَزَلْ أُجَهَّزُهَا حَتَّى دَخَلَتِ الشَّامَ! ثمَّ أَعَادَ الصَّلَاةَ وَالْقِرَاءَةَ"(3).
ورَوَى مالكٌ بلاغًا عن عمرَ؛ قال: "إنِّي لأضطجِعُ على فِرَاشِي، فما يأتيني النَّوْمُ، وأقومُ إلى الصلاةِ فما تتوجَّهُ إليَّ القراءةُ؛ مِن اهتمامِي بأمرِ الناسِ"(4).
ورُوِيَ عنه: "إِنِّي لَأَحْسُبُ جِزْيَةَ الْبَحْرَيْنِ وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ"(5).
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(7951).
(2)
أخرجه البخاري معلقًا قبل حديث (1221).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4012).
(4)
"شرح السُّنَّة" للبغوي (3/ 257).
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(7950).
وحكايةُ عمرَ ذلك عن نفسِهِ ليستْ في سياقِ ارتكابِ المحرَّمِ والتحدُّثِ به؛ وإنَّما لبيانِ ما يُغلَبُ عليه وهو معذورٌ به ولو كان منه استرسالٌ فيه.
بل إنَّ بعضَ الأئمَّةِ يَرى أنَّ الخاطِرةَ التي تَغلِبُ صاحِبَها ولو كانتْ تطولُ لو فكَّر بها، وتركُها يُشوَّشُ عليه: لا يجبُ عليه الخروجُ منها، كما نصَّ على ذلك الشاطبيُّ، فقال:"لا يجبُ على مَن ابتُلِيَ بالخاطرِ الخروجُ منه، إذا كان خروجُهُ يُشوِّشُ خاطرَهُ أكثَرَ". ويَبقى بعدَ هذا النَّظرُ في وجوبِ إعادةِ الصلاةِ أو استحبابِها أو سقوطِها.
ومِن قرائنِ الفضلِ والاستحبابِ وعدمِ الوجوبِ: ما جاء في حديثِ عمارِ بنِ ياسرٍ السابقِ: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إِلَّا عُشُرُهَا، تُسُعُهَا، ثُمُنُهَا، سُبُعُهَا. . . "(1)، فذكَرَ نُقْصانَ الأجرِ، ولم يذكُرْ لَحَاقَ الوِزْرِ، ولو كان الفعلُ محرَّمًا، لَذَكَرَ الإثمَ، ولكنَّه بيَّنَ نُقْصانَ الأجرِ؛ لعدمِ التمامِ فيها، لا لارتكابِ محرَّمٍ.
الجهةُ الثانيةُ: حُكْمُهُ مِن جهةِ أثرِه؛ فإنَّ أثرَ الخشوعِ عظيمٌ على الإيمانِ، وأثرُ فقدِهِ كبيرٌ عليه كذلك على ما تقدَّمَ؛ فإنَّ اللَّهَ لم يُقدَّمِ الخشوعَ على بقيَّةِ أوصافِ المؤمِنينَ إلَّا لأثرِهِ عليه، وأنَّ تفويتَهُ سببٌ لإطلاقِ اللِّسانِ باللَّغْوِ، وعدمِ حِفْظِ الفروجِ، وتضييعِ الزكاةِ، وتضييعِ الأماناتِ، وخَرْمِ العهودِ، فتركُ الخشوعِ المتسبِّبُ في ذلك يأثَمُ به صاحبُه، وإنْ لم نَقُلْ بوجوبِ أصلِ الخشوعِ، ولكنَّ القَدْرَ الذي يفحُشُ حتى يُفضِيَ إلى ضَعْفِ الإيمانِ، والابتلاءِ بالمحرَّماتِ، وتضييعِ الأماناتِ والعهودِ: محرَّمٌ، فيجبُ مِن الخشوعِ القَدْرُ الذى يَحفَظُ للعبدِ خشيةَ اللَّهِ، ويحُولُ بينَهُ وبينَ ما حَرُمَ، وهذا القَدْرُ -وإن تعسَّرَ على كثيرٍ مِن الناسِ
(1) سبق تخريجه.