الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مشروعيَّةُ الوَكَالةِ والنِّيَابةِ:
وفي هذه الآية: دليلٌ على جواز الوَكالةِ، وهو أن ينوبَ أحدٌ عن أحدٍ فيما يُريدُهُ منه، ومِن معنى الوكالةِ: قولُهُ تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60]؛ فإنَّها تتضمَّن نيابةً ووكالةً، وقريبٌ منها قولُهُ:{اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} [يوسف: 55]، وقولُهُ:{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا} [يوسف: 93]، وقوله تعالى:{فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ} [النساء: 35].
والأصلُ في الوكالة: الجوازُ بلا خلافٍ؛ كما حكاهُ ابنُ عبد البَرِّ (1)، وابنُ قُدَامةَ (2)؛ وذلك لظاهِرِ القرآنِ والسُّنَّةِ، وقد أنابَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن نفسِهِ ووكَّل غيرَهُ عنها، في بيعٍ وشراءٍ ونكاحٍ وقضاءِ دَيْنٍ؛ ومِن ذلك ما رواهُ الشيخانِ؛ من حديثٍ أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: كَانِ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِنٌّ من الإِبِلِ، فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ:(أَعْطُوهُ)، فَطَلَبُوا سِنَّهُ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إلَّا سِنًّا فَوْقَهَا، فَقَالَ:(أَعْطُوهُ)، فَقَالَ: أَوْفَيْتَنِي أَوْفَي اللَّهُ بِكَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً)(3).
وقد وكَّل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عُرْوةَ البارِقيَّ ليشترِيَ شاةً بدِينارٍ، فاشتَرَى شاتَيْنِ بدينارٍ، وباع واحدةً بدينارٍ، وجاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم بدينارٍ وشاةٍ (4).
وكان أبو رافع وكيلًا بين النبيِّ صلى الله عليه وسلم وميمونةَ حينَ تزوَّجَها (5)، ووكَّل عمرَو بن أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ في نِكاح أمِّ حَبِيبةَ رَمْلةَ بنتِ أبي سُفْيانَ (6).
وقد وكَّل النبيُّ صلى الله عليه وسلم في إثباتِ الحدودِ واستيفائِها؛ كما أرسَلَ
(1)"التمهيد"(2/ 108).
(2)
"المغني"(7/ 197).
(3)
أخرجه البخاري (2305)، ومسلم (1601).
(4)
أخرجه البخاري (3642).
(5)
أخرجه أحمد (6/ 392)، والترمذي (841)، والنسائي في "السنن الكبرى"(5381).
(6)
أخرجه الحاكم في "المستدرك"(4/ 22)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 139).
أُنَيْسًا، فقال له:(وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِن اعْتَرَفَتُ فَارْجُمْهَا)(1).
والجمهورُ: على جوازِ ذلك في الحدودِ إثباتًا واستيفاءً؛ خلافًا لأبي حنيفةَ؛ فقد فرَّق بينَ الإثباتِ والاستيفاءِ، وقصةُ أُنيسٍ فيهما جميعًا.
وأرسَلَ أقوامًا من أصحابِهِ بكُتُبِهِ إلى الملوكِ والرؤساءِ، وجَلْبِ الزكاةِ، وإبلاغ القبائل أمرَهُ ونهيَهُ.
ولا تصحُّ الوكالةُ إلَّا بصيغةٍ صحيحةٍ صريحةٍ تتضمَّنُ الإيجابَ والقَبولَ بينَ الطرَفَيْنِ، وأن يكونَ الموكَّلُ فيه مملوكًا للموكِّلِ؛ فلا تُقبَلُ الوكالةُ ممَّن لا يَملِكُ التصرُّف فيه؛ فإنَّه إنْ لم يصحَّ منه، فلا يصحُّ مِن غيرِهِ وكالةً عنه.
وتصحُّ الوكالةُ العامَّةُ من غيرِ تعيينِ شيءٍ معيَّنٍ ولا وصفِهِ؛ كالوكالةِ في البيعِ والشراءِ كافَّةً في قولِ الحنفيَّةِ والمالكيَّةِ؛ خلافًا للحنابلةِ والشافعيَّةِ الذين منَعُوا من التوكيلِ العامِّ؛ لأنَّه يتضمَّنُ جهالةً فاحِشةً تُضِرُّ بالناسِ.
ويجوزُ توكيلُ جماعةٍ على أمرٍ واحدٍ، ولا ينفرِدُ الواحدُ منهم بالأمرِ عن غيرِهِ حتى يَتَّفِقوا فيه؛ لعمومِ الأدلَّةِ؛ وهذا قولُ جمهورِ الفقهاءِ.
وقد ذهَبَ الحنفيَّةُ إلى أنَّه ينفرِدُ كلُّ واحدٍ عن الباقِينَ ولو كانتِ الوكالةُ للجميعِ.
ولا يملكُ الوكيلُ توكيلَ غيرِهِ إلَّا أنْ يشاءَ الموكِّلُ.
* * *
(1) أخرجه البخاري (2314)، ومسلم (1697).
كان في أهل الكهفِ عِبْرةٌ وعِظَةُ للناس، فعظَّمُوهُمْ وأَكْبَرُوا مَنْزِلَتَهم؛ حتى قال بعضُ كِبَارِهم من الأمراء والسلاطين: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مسجدًا؛ التماسًا لصلاحِهم؛ لأنَّ اللَّه لا يجعلُ المعجزةَ والكرامةَ إلَّا لِمَنْ أحَبَّ؛ وهذا الأمرُ قاله كُبَراؤُهم: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} ؛ يعني: أهلَ الغلَبةِ من ذوي الأمرِ والقهرِ.
وهذا الفعلُ استدَلَّ به بعضُ الجُهَّالِ على جواز اتِّخاذِ القبورِ مساجدَ، وعلى جوازِ دَفْنِ الصالِحِينَ فيها؛ وهذا لا حُجَّةَ فيه؛ فإنَّ الذين طلبوا ذلك ليسوا المُسلِمِين الصالِحِينَ؛ وإنَّما أهلُ القهر والتسلُّطِ والاستبدادِ، كما في ظاهرِ الآية:{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} ، وقد قال ابنُ عبَّاسٍ كما في روايةِ العُوْفِيِّ عنه:"إنَّ قائلَ ذلك عدوُّهم"(1).
وما يُذكَرُ في القرآنِ من أحوالِ الأُمَمِ السابقةِ لا يجوزُ أخذُهُ إنْ خالَفَ ما جاءت به شِرْعةُ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، ولو جَاز ذلك، لَجَازَ اتِّخاذُ الأصنام؛ وذلك لقولِهِ تعالى:{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)} [سبأ: 13]، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عن التصاوير واتِّخاذِ الأصنام؛ بل يأمُرُ بكَسْرِها وطَمْسِها؛ كما ثبَتَ في "الصحيح"، عن أبي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ، قَالَ: "قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى
(1)"تفسير الطبري"(15/ 217).
مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ ! أَلَّا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ" (1).
ولا يختلف العلماءُ على النهي في اتِّخاذ القبورِ مساجدَ ولا وضعِها فيها، وفي "الصحيحَيْنِ"؛ من حديثِ عائشةَ مرفوعًا:(لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)، قالتْ عائشةُ: لَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ؛ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا) (2).
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُسمِّي مَنْ يفعلُ ذلك شِرَارَ الخَلْقِ؛ كما في "الصحيحَيْنِ"؛ من حديثِ عائشةَ رضي الله عنها أنَّ أمَّ سَلَمةَ رضي الله عنها ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، يُقَالُ لَهَا: مَارِيَةُ، فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الْعَبْدُ الصَّالِحُ -أَوِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ- بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ)(3).
وقد كان السلفُ من الصحابةِ يُطبِقونَ على منعِ بناءِ المساجدِ في المقابرِ، وعلى منعِ وضع القبورِ في المساجدِ، ومنعِ الصلاةِ إليها ولو كان خارجَ المسجدِ؛ لأنَّه إنَّما نُهِيَ عن اتِّخاذِ القبورِ مساجِدَ؛ لعِلَّةِ العبادةِ فيها، ولو لم تكن مَحَلَّ عبادةٍ، لم يُنْهَ عن ذلك، ونُهِيَ عن البناءِ على القبورِ؛ خشيةَ التعظيمِ الذي يَتْبَعُهُ عبادةٌ ولو بعدَ قرونٍ، وقد كان الصحابةُ يَنْهَوْنَ عن الصلاةِ إلى القبرِ ولو لم يكنِ الرجُلُ قاصدًا؛ لأنَّ في ذلك مشابَهَةَ بالمشرِكينَ، وقد روى مسلمٌ؛ من حديثٍ أبي مَرْثَدٍ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(لَا تَجْلِسُوا عَلَى القُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا)(4).
(1) أخرجه مسلم (969).
(2)
أخرجه البخاري (4441)، ومسلم (529).
(3)
أخرجه البخاري (434)، ومسلم (528).
(4)
أخرجه مسلم (972).
وروى ابنُ ماجَه وغيرُهُ، عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه:"أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُبْنَى على القبورِ، أو يُقعَدَ عليها، أو يُصلَّي عليها"(1).
وقد رُوِيَ ثابتٌ البُنَانِيُّ، عن أنسٍ رضي الله عنه؛ قال:"كنتُ أُصلِّي قريبًا مِن قبرٍ، فرآني عمرُ بنُ الخطَّاب، فقال: القَبْرَ القَبْرَ! فرفَعْتُ بَصَرِي إلى السماءِ وأنا أحسَبُهُ يقولُ: القَمَرَ! ؟ "(2).
وقد رَوَى قتادةُ، عن أنسٍ؛ أنَّه مَرَّ على مَقْبَرةٍ وهم يَبْنُونَ مسجدًا، فقال أنسٌ:"كَانَ يُكْرَهُ أَنْ يُبْنَى مَسْجِدٌ فِي وَسَطِ الْقُبُورِ"(3).
وقال أشعثُ: عن ابنِ سِيرِينَ: "كانوا يَكْرَهونَ الصلاةَ بينَ ظَهْرَانَيِ القبورِ"(4).
وعلى هذا ينُصُّ الأئمَّةُ على اختلافِهم، وقد نقَلَ النوويُّ (5) وغيرُهُ فُتْيَا العلماءِ على إزالةِ ما يُبْنَى على القبورِ ومِن قِبَابٍ ممَّا صنَعَهُ جُهَّالُ الملوكِ، والملبِّسون مِن العلماءِ، حتى نقَل الهيتميُّ فُتيا الأئمَّةِ بإزالةِ ما بُنِيَ على قبرِ الشافعيِّ وغيرِهِ بمصرَ (6).
وقد اختلف العلماءُ في الصلاةِ المؤدَّاةِ في المقبرة: هل تصحُّ أو تجبُ إعادتُها؟ على قولَيْنِ -هما روايتانِ عن أحمدَ-:
الأوَّل: أنَّها لا تُعادُ؛ وهذا قولُ الأكثرِ؛ وهو قولُ مالكٍ والشافعيِّ.
(1) أخرجه ابن ماجه (1564)، وأبو يعلى في "مسنده"(1020)؛ واللفظ له.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(1581)، وعلقه البخاري قبل حديث (427).
(3)
أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(2679).
(4)
"فتح الباري" لابن رجب (2/ 398).
(5)
"المجموع"(5/ 298).
(6)
"تحفة المحتاج، في شرح المنهاج"(3/ 198).