الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الموضعُ الأولُ: في أشياءَ غيرِ اختياريَّةٍ؛ وذلك كألوانِهم وقبائلِهم وخِلْقتِهم؛ فهذا أعظَمُ عندَ اللَّهِ؛ لأنَّهم لم يَختارُوا هذا الشيءَ لأنفُسِهم؛ وإنَّما اختارَهُ اللَّهُ لهم.
الموضعُ الثاني: في أشياءَ اختياريَّةٍ؛ كلِبَاسِهم وبيوتِهم وعاداتِهم؛ فهذا محرَّمٌ؛ لأنَّه لا يُوجَدُ أُمَّةٌ إلَّا ولها عادةٌ ولِباسٌ يختَلِفُ عن الأُخرى، وكلُّ أمَّةٍ تَرى أنَّها أَمْثَلُ مِن غيرِها في اختيارِها، ولو جاز لأمَّةٍ تعييرُ أمَّةٍ بما اختارتْهُ لنفسِها، لوقَعَ الناسُ بعضُهم في بعضٍ.
ولا يجوزُ السُّخْرِيَّةُ مِن الناسِ حتى وإنْ وقَعُوا في حرامٍ ومعصيةٍ؛ لأنَّ السُّخْرِيَّةُ شيءٌ مذمومٌ لذاتِه؛ لأنَّه يتضمَّنُ علوَّ النَّفْسِ وكِبْرَها، ويجعلُها تَنسى فضلَ ربِّها عليها أنْ وَفَّقَها إلى الخيرِ وحَرَمَ غيرَها، وربَّما تُستدرَجُ حتى تَحِيدَ ولو بسُوءِ القصدِ، فتغترُّ ثمَّ يكونُ عقابُها عندَ اللَّهِ أشَدَّ ممَّن سَخِرَتْ منه، والواجبُ فيمَن وقَعَ في حرامٍ نصحُهُ وأمرُهُ ونهيُهُ بما يُصلِحُه، والشفقةُ عليه لا السُّخْرِيةُ منه، فمَن أضَلَّهُ قادرٌ على أنْ يُضِلَّ غيرَه.
والسَّبُّ والتعييرُ فيه التعزيرُ؛ كلُّ كلمةٍ بحسَبِ معناها وأثرِها في المقصودِ بها، وبمقدارِ انتشارِها بينَ الناسِ، ويقدِّرُ القاضي الضررَ في ذلك، ويُوقِعُ التعزيرَ بمقدارِه.
التعويضُ عن الضررِ المعنويِّ:
وأمَّا التعويضُ المادِّيُّ عن الضررِ المعنويِّ، فمَحَلُّ خلافٍ عندَ الفقهاءِ؛ فقد اختلَفُوا فيمَن وُقِعَ في عِرْضِه أو أُسِيءَ إليه بأيِّ نوعٍ مِن الإساءةِ المعنويَّةِ: هل له أن يُعوَّضَ عنها بالمالِ أو لا؟ في المسألةِ خلافٌ على قولَيْنِ:
ذهَبَ جمهورُ العلماءِ: إلى أنَّه لا يُعوَّضُ عن الأضرارِ المعنويَّةِ؛ وإنَّما يُكتفَى بتعزيرِ المُخطِئِ والجاني، وإنِ اقتضَى رفعُ الضررِ المعنويِّ إعلانَ عقوبتِهِ حتى يرتفعَ الضررُ المعنويُّ عن المتضرِّرِ، فيُعلَنُ؛ زجرًا له، ورفعًا للحَرَجِ عن المتضرِّرِ.
وإنَّما منَع الجمهورُ مِن ذلك، لأنَّهم لا يُجيزونَ التعزيرَ بالمالِ، وهذه المسألةُ فرعٌ عن ذلك.
وقال بعضُ الفقهاءِ: بجوازِ التعويضِ بالمالِ؛ وهو قولٌ منسوبٌ لأبي حنيفةَ، ومحمدِ بنِ الحسنِ.
والأضرارُ المعنويَّةُ التي تَلحَقُ الناسَ اليومَ أشَدُّ مِن الأضرارِ المعنويَّةِ السابقةِ؛ وذلك لاختلافِ الوسائلِ، وسُرْعةِ انتشارِ الأقوالِ، وتنوُّعِ وسائلِ ذلك مرئيَّةً ومكتوبةً ومسموعةً، وما يترتَّبُ على ذلك مِن فسادِ تجاراتٍ، وكَسَادِ سِلَعٍ، وتشوُّهِ أعراضٍ، وقد ضَعُفَتِ الدِّيانةُ في الناسِ في ارتكابِ تلك الوسائلِ واتِّخاذِها للإضرارِ بالناسِ، والشريعةُ قد جاءتْ بأصلٍ كما في الحديثِ:(لَا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ)(1)؛ فما كان مِن الأضرارِ التي جَعَلَتِ الشريعةُ فيها العقوبةَ تعزيرًا، فإنَّ دَفْعَ الضررِ بالمالِ فيها جائزٌ، وقد جعَلَتِ الشارعُ أصلَ العقوبةِ بالتعزيرِ موسَّعًا بما يراهُ الحاكمُ مُصلِحًا للحالِ وزاجرًا، فإنْ كان هذا جائزًا ولو بإتلافِ النَّفْسِ بالقتلِ أو القطعِ، فإنَّ أَخْذَ ما دونَ النَّفْسِ كالمالِ مِن بابِ أَولى أظهَرُ بالجوازِ.
* * *
(1) أخرجه أحمد (1/ 313)، وابن ماجه (2341)؛ من حديث ابن عباس.
* قال اللَّهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12].
نَهى اللَّهُ عن كثيرٍ مِن الظنِّ؛ لأجلِ السُّوءِ في بعضِه، وهذا لا يكونُ إلَّا في أهلِ الدِّيالةِ والصِّدْقِ؛ وهذه الآيةُ أصلٌ في الورَعِ.
وإنَّما لم يَنْهَ اللَّهُ عن حميعِ الظَّنِّ؛ حتى لا يشملَ الظَّنَّ الحسَنَ؛ فاللَّهُ يأمُرُ بإحسانِ الظنِّ بالناسِ، وحَمْلِ أقوالِهم وأفعالِهم على محاملَ حسنةٍ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ)(1).
وإنَّما نَهَى اللَّهُ عن الظنِّ قبلَ نهيِهِ عن التجسُّسِ في قولِه: {وَلَا تَجَسَّسُوا} ؛ لأنَّ التجسُّسَ يَبدأُ بظنِّ السُّوءِ، ثمَّ يُريدُ الظانُّ أنْ يُؤكِّدَ ظنَّه، فيتجسَّسُ على غيرِه، وبمِثلِ الآيةِ رتَّب النبيُّ صلى الله عليه وسلم النهيَ، فنَهى عن الظنِّ قبلَ نهيِه عن التجسُّسِ؛ لأنَّ الظنَّ يَدفَعُ إليه؛ قال:(إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، ولا تَحَسَّسُوا، ولا تَجَسَّسُوا، ولا تَنَافَسُوا، ولا تَحَاسَدُوا، ولا تَبَاغَضُوا، ولا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا)؛ رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ، عن أبي هريرةَ (2).
والتجسُّسُ كبيرةٌ مِن كبائرِ الذنوبِ، ويكونُ التجسُّسُ بالسماعِ لمَن يَكرَهُ سماعَهُ وهو مستتِرٌ بقولِهِ عن الناسِ، أو بالبصرِ كمَن يُطلِقُ بصرَهُ عمَّن يستتِرُ بعَوْرتِهِ عن الناسِ، ويكونُ بتحسُّسِ البدَنِ وهو بلَمْسِ ما يُخفِيهِ الناسُ ويستُرُونَهُ عن الناسِ؛ وكلُّ ذلك داخلٌ في التجسُّسِ المنهيِّ عنه.
ويدُلُّ على كونِ التجسُّسِ كبيرةً: أنَّ اللَّهَ جعَلَ جزاءَ مَن يطَّلِعُ بعينِهِ
(1) أخرجه البخاري (5143)، ومسلم (2563)؛ من حديث أبي هريرة.
(2)
أخرجه البخاري (5143)، ومسلم (2563).