الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأمَّا مَنْ يجعلُ العينَ تحرُمُ يذلك؛ لقولِه تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} بعدَما ذكَر اللَّهُ تحريمَ نبيِّه على نفسِه، فإنَّ قولَه تعالى:{تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} ليس المرادُ به التحليلَ بعدَ تحريمٍ، وإنَّما المرادُ له الحِلُّ بعدَ عَقْدٍ؛ فاليمينُ تُعقَدُ؛ كما في قولِهِ تعالى:{عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]، فالكفارةُ تَحُلُّ ما انعقَدَ عليه القلبُ، وليس الحُكْمَ الذي انعقَدَ على العَيْنِ.
تحريمُ الحلالِ يمينٌ وكَفَّارتُه:
ومَنْ قصَدَ بتحريمِهِ حلالَ الطعامِ والشراب واللِّباسِ على نفسِهِ أنْ تكونَ يمينًا تَمنعُهُ عن تلك الأشياءِ، لقد اختُلِفُ في جعلِ تحريمِ الحلالِ يمينًا، وفي المحلوفِ به فيها:
فمِن العلماءِ: مَن كرِهها؛ كأحمدَ وجماعةٍ مِن أصحابِه؛ حيثُ حُمِلَتْ على مشابهةِ الحَلِفِ بغيرِ اللَّهِ.
وجمهورُ العلماءِ: على جوازِها؛ لأنَّ الحالفَ لم يَحلِفْ بمخلوقٍ؛ وإنَّما هو الزامٌ للنَّفْسِ بشيءٍ أمامَ اللَّهِ، وحالُه كحالِ النَّذْرِ.
قولُهُ تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} : لمَّا ذكَر اللَّهُ تعالى تحريمَ الحلالِ، ذكَر أَنَّه ينعقدُ على إلزامٍ كاليمينِ الصريحةِ، فجعَل له حَلًّا في قولِه:{تَحِلَّةَ} ، ثمَّ سمَّاهُ اللَّهُ تعالى يمينًا في قولِه:{أَيْمَانِكُمْ} .
ولكنَّ السلفَ مختلِفونَ في تحريمِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على نَفْسِه: هل كان تحريمًا مجرَّدًا فتكونَ التَّحِلَّةُ متعلِّقةً بالتحريمِ المجرَّدِ، أو اقترَنَ بيمينٍ فتكونَ التَّحِلَّةُ. في الآيةِ على اليمينِ لا على التحريمِ:
فمِن السلفِ: مَن قال: إنَّه حرَّم على نَفْسِهِ فجعَلَها اللَّهُ يمينًا ولم يكنْ معها يمينٌ؛ وهذا ظاهرُ قولِ الحسنِ وقتادةَ (1).
(1)"تفسير الطبري"(23/ 88).
ومنهم مَن قال: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حلَفَ يمينًا مع تحريمِه؛ وهذا قولُ الشَّعْبيِّ ومسروقٍ وابنِ زيدٍ (1).
وقد اختلَفَ العلماءُ في كفارةِ تحريمِ الحلالِ المجرَّدِ عن لفظِ اليمينِ: هل يَلزَمُ عليه كفارةٌ أو لا؟
ذهَب الحنفيَّةُ والحنابلةُ: إلى لزومِ الكفارةِ فيه؛ لِمَا تقدَّم حيثُ جعَلَ اللَّهُ تحريمَ الحلالِ يمينًا، ثمَّ جعَلَ له تَحِلَّةً، وله قال عمرُ؛ رواهُ عنه عِكْرِمةُ (2)، وقد صحَّ عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّه قال:"إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، فَهِيَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] "؛ رواهُ مسلمٌ (3).
وجاء عن ابنِ مسعودٍ (4)، وعائشةَ (5): أنَّ فِيه كفارةَ يمينٍ، وقد صحَّ هذا عن جماعةٍ مِن التابعينَ، منهم مسروقٌ والحَسَنُ وقتادةُ (6).
ويدُلُّ على ذلك: أنَّ اللَّهَ تعالى لمَّا ذكَرَ تحريمَ الحلالِ، لم يرتِّبْ عليه حُكمًا؛ وإنَّما نَهَى عنه، ورتَّب الحُكْمَ على اليمينِ؛ سواءٌ كانتْ بلفظِ اليمينِ أو لفظِ الحرامِ؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى قال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87]، ولم يذكُرْ حُكْمًا غيرَ النهي، ثمَّ لمَّا ذكَر اليمينَ بعدَها، رتَّب عليها حُكْمَ الكفارةِ؛ فقال
(1)"تفسير الطبري"(23/ 84).
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(1701)، وابن أبي شيبة في "مصنفه"(18189)، وأحمد في "مسنده"(1/ 225)، والدارقطني في "سننه"(4/ 40)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 350).
(3)
أخرجه مسلم (1473).
(4)
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(1693)، وابن أبي شيبة في "مصنفه"(18200)، وابن المنذر في "الأوسط"(9/ 190) والطبراني في "المعجم الكبير"(9632).
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(18191)، والدارقطني في "سننه"(4/ 66)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 351).
(6)
ينظر: "تفسير ابن كثير"(8/ 159).
تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} الآيةَ [المائدة: 89]، وجعَلَ كلَّ يمينٍ لفظًا وما قُصِدَ به اليمينُ معنًى، أخَذَ حُكْمَها في الكفارةِ، والصحابةُ لم يَجْعَلوا في الحرامِ سوى الكَفَّارةِ.
وذهَب المالكيَّةُ والشافعيَّةُ: إلى أنَّ تحريمَ الحلالِ ليس فيه كفارةٌ حتى يكونَ بلفظِ الحَلِفِ باللَّهِ الصريحِ، واستُدِلَّ لذلك بما تقدَّم مِن أنَّ اللَّهَ نَهَى عن تحريمِ الحلالِ، ولم يُوجِبْ عليه كفارةً، ولمَّا ذكَرَ اليمينَ أَوْجَبَ فيها كفَّارةً، وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَلَفَ مع تحريمِهِ ولم يكنْ تحريمًا مجرَّدًا؛ كما جاء في قولِ الشَّعْبيِّ وقتادةَ -في روايةٍ- وزيدِ بنِ أسلَمَ (1)، والتَّحِلَّةُ في آيةِ التحريمِ على يمينِهِ، لا على تحريمِه.
والأظهَرُ: وجوبُ الكفارةِ في التحريمِ؛ وذلك أنَّ المنعَ مِن الفعلِ بالتحريمِ كالمنعِ منه باليمينِ، وهو قولُ الصحابةِ، وليس بينَهم اختلافٌ، وأمَّا ما جاء عن بعضِ السلفِ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حلَفَ مع تحريمِه، فلا يَلْزَمُ القولَ بأنَّه حلَفَ أنَّ التحريمَ لا يكونُ يمينًا وَحْدَهُ عندَهم، ولكنَّ اليمينَ تصريحٌ وتأكيدٌ، وقد كان قتادةُ يَرْوِي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حلَف مع تحريمِه، ومع ذلك يُوجِبُ الكفارةَ في التحريمِ، ومِن الرُّواةِ مَن ينقُلُ الحَلِفَ ويجعلُه هو معنى التحريمِ ومقتضاهُ، ولا يريدُ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حلَفَ بنفسِهِ بلفظٍ مستقِلٍّ عن التحريمِ، وقد رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ قولُه: فَصَيَّرَ الحَرَامَ يَمِينًا (2).
* * *
(1)"تفسير الطبري"(23/ 84).
(2)
"تفسير الطبري"(23/ 87).
* قال اللَّه تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3].
لمَّا أطلَعَ اللَّه نبيَّه على ما تظاهَرَتْ به عائشةُ وحفصةُ، عرَّف النبيُّ صلى الله عليه وسلم حفصةَ بعضَ ذلك، وأعرَضَ عن بعضِه الآخَرِ؛ أي: أخبَرَها بشيءٍ مِن أمرِها، ولم يُخبِرْها بشيءٍ آخَرَ.
وفي هذا: أنَّ السُّنَّةَ التغافُلُ عمَّا لا يحسُنُ ذِكْرُه، أو ما كان ذِكْرُهُ يُحْيِيهِ ويُعظِّمُ شأنَ المذكورِ وهو دون ذلك، ويُكتفَى بذِكْرِ بعضِه، لِيَسْرِيَ العلاجُ على باقِيه.
وقولُه تعالى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} ، فيه: أنَّه مِن الحِكْمةِ أنَّ بعضَ الأمورِ لا يصلُحُ فيها التغافُلُ التامُّ المُشعِرُ بالغَفْلةِ والبلادةِ، بل يُبيَّنُ طرَفُها المُشعِرُ بالعِلْمِ، ويُكتَمُ القَدْرُ الذي لا حاجةَ إليه، أو كانتِ الحاجةُ إلى ذِكْرِهِ ضعيفةً، أو يكونُ ضررُ إخراجِهِ أشَدَّ مِن ضررِ كَتْمِه.
والتغافُلُ ليس على مَرْتبةٍ واحدةٍ، بل هو على مَراتِبَ بحسَبِ الأمرِ الذي جاء فيه:
فمِنَ الأمورِ:
ما يُستحَبُّ التغافُلُ عنه بالكليَّةِ.
ومنها: ما يُستحَبُّ أنْ يُبدِيَ بعضًا ويَكتُمَ الآخَرَ، ويَختلِفُ قَدْرُ ما يُبدِيهِ وما يُخفِيهِ؛ كلُّ حالهٍ بحسَبِها، وهذا يَرجِعُ إلى حِكْمةِ الإنسانِ وعِلْمِه، ومِن الناسِ: مَن يظُنُّ أنَّه إنْ كان ذا حقِّ، فله أن يُبدِيَ مِن حقِّه ما يشاءُ؛ مِن غيرِ نَظَرٍ إلى ما يُصلِحُ الأمرَ ولا ما يُفسِدُه.
ويُعرَفُ العاقلُ بمِقْدارِ غَفْلتِه ومواضعِها، وكثيرٌ مِن الشرورِ علاجُها بالتعافُلِ، وذِكْرُها يُحْيِيهَا ويُذْكِيهَا حتى تعظُمَ وتسيطرَ.
وللتغافُلِ ألمٌ عاجلٌ، ولذَّةٌ آجِلةُ؛ قال الأعمشُ:"السكوتُ جوَابٌ، والتغافُلُ يُطفِئُ شرًّا كثيرًا (1) ".
وقد قال محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ الخُزَاعيُّ: "سَمِعتُ عثمانَ بنَ زائدةَ يقولُ: العافيةُ عشَرةُ أجزاءٍ، تسعةٌ منها في التغافُلِ، ثمَّ قال: فحدَّثتُ به أحمدَ بنَ حنبلٍ، فقال: العافيةُ عشَرةُ أجزاءٍ، كلُّها في التغافُلِ"(2).
ويقولُ الشافعيُّ: "الكَيِّسُ العاقِلْ، هو الفَطِنُ المُتغافِلْ"(3).
وأحوَجُ ما يكونُ الإنسانُ إلى التغافُلِ مع مَنْ يُكثِرُ خِلْطَتَه؛ كالزوجةِ والولدِ والخادمِ وذوي الأرحامِ والأصحابِ والجِيرانِ، فلو تتبَّعَ الإنسانُ كلَّ ما يَجِدُ في نَفْسِه منه، لَمَا بَقِيَ له عمرٌ، ولم تصلُحْ له حالٌ، ويتحوَّلُ مِن فِتنةٍ إلى أُخرى.
* * *
* قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم: 9].
أمَرَ اللَّهُ نبيَّه بجهادِ الكفارِ والمُنافِقينَ؛ وذلك أنَّهم أشدُّ أعداءِ الأُمَّةِ؛ فالكفارُ مِن خارجِها، والمُنافِقونَ مِن داخِلِها، وقد تقدَّم الكلامُ على جهادِ الكفارِ في مواضعَ، خاصَّةً سورةَ البقرةِ، وأمَّا جهادُ المُنافِقينَ، فقد تكرَّرت هذه الآيةُ بحروفِها في موضعَيْنِ: الأولُ في التوبةِ، الآية
(1) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(8101).
(2)
أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(8028).
(3)
أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(8030).
الثالثة والسبعين، والثاني هنا، وقد تقدَّم الكلامُ على جهادِ المُنافِقينَ وصُوَرِهِ في الموضعِ الأولِ في سورةِ التوبةِ؛ فلْيُنظَرْ.
* * *