الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولا: أن الفتنةَ والشُّغْلَ بالبيعِ أكثَرُ مِن الفتنةِ بالشراءِ؛ فإنَّ ذِهْنَ مَن يبيعُ سِلْعةً ينشغِلُ بها أكثَرَ ممَّن يبحثُ عن سلعةٍ يَشترِيها، والبائعُ يهتمُّ بتدويرِ مالِه، بخلافِ المُشترِي، فغالبًا الناسُ تَشترِي لتستهلِكَ، والبائعُ يبيعُ سلعتَهُ ليشترِيَ مِثلَها ويبيعَهُ ويتكسَّبَ.
ثانيًا: أنَّ المقصودَ بها أهلُ الحوانيتِ والدكاكينِ والمَتاجِرِ، وهؤلاء يَبِيعونَ فيها أكثَرَ مما يَشترونَ، والبائعُ ثابِتٌ والمُشترِي عابرٌ، والتاجِرُ في مَتجَرِهِ يَشغَلُهُ البيعُ أكثَرَ مِن الشراءِ؛ لأنَّه يشترِي الشيءَ الكثيرَ مرةً واحدةً ثمَّ يبيعُهُ مُجَزَّأً، فيَعرِضُونَ سِلَعَهُمْ للناسِ طُولَ اليومِ، وهذا خِطابٌ لهم أنَّهم إن سَمِعوا النداءَ للصلاةِ أنْ يُجيبوا، ولا تَشغَلَهُمْ مَتاجرُهم وأسواقُهم عن الصلاةِ.
ثالثًا: أنَّ البائعَ يتحكَّمُ في السلعةِ والسوقِ أكثَرَ مِن المُشترِي، والبائعُ أقدَرُ على حِرْمانِ المشترِي مِن الانتفاعِ مِن السلعةِ، وهو يتمكَّنُ مِن الاحتكارِ والتسعيرِ والإضرارِ بالسوقِ والناسِ.
رابعًا: أنَّ البائع غالبًا تاجرٌ، وأمَّا المشترِي فكثيرًا ما يكونُ محتاجًا وربَّما فقيرًا؛ فهو يَشترِي لانتَفاعِهِ لنفسِه.
أمْرُ الناسِ وأهلِ الأسواقِ بالصلاةِ:
ويَظهَرُ مِن هذا تعظيمُ قَدْرِ صلاةِ الحماعةِ، وتأكيدُ تركِ الأسواقِ لها، وهذه الآيةُ نزَلَت في تركِ أهلِ الأسواقِ أسواقَهُمْ لأداءِ الصلاةِ، وقد أمَرَ اللَّهُ بالجماعه عندَ التقاءِ الصفينِ في القتالِ؛ فكيف لا يُؤمَرُ بها عندَ التقاءِ المتبايِعَينِ في الأسواقِ؟ !
ولم تكنِ الأسواقُ تُفتَحُ في المدينةِ بعدَ الأذانِ تعظيمًا لهذه الشعيرةِ، فقد روى ابنُ مَرْدَويهِ في "تفسيرِه"، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عبَّاسٍ رضي الله عنه؛ قال: " {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} : كانوا رجالًا يَبتغونَ مِن
فضلِ اللَّهِ يَشتَرُونَ ويَبِيعُونَ، فإذا سَمِعُوا النداءَ بالصلاةِ، ألقَوْا ما بأيدِيهِم وقاموا الى المساجدِ فصَلَّوْا" (1).
ورَوَى عليُّ بنُ أبى طَلْحةَ، عن ابنِ عبَّاسٍ؛ قال:"عن الصلاةِ المكتوبةِ"(2).
وأخرَجَ عبدُ الرزاقِ وابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتمٍ، عن عمرِو بنِ دِينارٍ، عن سالمٍ، عن ابنِ عمرَ:"أنَّه كان في السوقِ فأقيمَتِ الصلاةُ، فأغلَقوا حوانيتَهم، ثمَّ دخَلُوا المسجدَ، فقال ابنُ عمرَ: فيهم نزَلتْ {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} "(3).
وأخرَجَ سعيدُ بنُ منصورٍ وابنُ جريرٍ، عن ابنِ مسعودٍ:"أنَّه رأى ناسًا مِن أهلِ السوقِ سَمِعُوا الأذانَ، فترَكُوا أمتعتَهُمْ وقاموا إلى الصلاةِ، فقال: هولاء الذين قال اللَّهُ: {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} "(4).
وكان هديُهُ عليه الصلاة والسلام تنبيهَ الناسِ في الطريقِ وإقامتَهُمْ إلى الصلاةِ، وألَّا يكِلَهُمْ إلى إيمانِهم وصلاحِهم، ولا إلى سماعِهم النداءَ؛ كما جاء عن مسلمِ بنِ أبي بَكْرةَ، عن أبيه؛ قال:"خرَجْتُ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم لصلاةِ الصبحِ، فكان لا يمُرُّ برجُلٍ إلَّا ناداهُ بالصلاةِ أو حرَّكَهُ برِجْلِهِ"؛ رواهُ أبو داودَ (5).
ورُوِيَ هذا في أحاديثَ كثيرةٍ بمعناهُ؛ فقد روى أحمدُ في "مسندِه"،
(1)"الدر المنثور"(11/ 84).
(2)
"تفسير الطبري"(17/ 322)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2608).
(3)
"تفسير عبد الرزاق"(2/ 61)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2607)، و"الدر المنثور"(11/ 85).
(4)
تكملة كتاب "التفسير من سنن سعيد بن منصور"(6/ 450)، و"تفسير الطبري"(17/ 322).
(5)
أخرجه أبو داود (1264).
عن عبدِ اللَّهِ بنِ طِهْفَةَ؛ أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا خرَجَ، جعَلَ يُوقِظُ الناسَ:(الصلاةَ، الصلاةَ! )(1).
وقد كانتِ الأسواقُ في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم تُفتَحُ مع صلاةِ الفجرِ، فبيَّنَ بعضُ الصحابةِ خطورةَ التخلُّفِ عن صلاةِ الجماعةِ، والمبادَرَةِ إلى الأسواقِ قبلَها؛ فقد روى ابنُ أبي عاصمٍ في "الوُحْدَانِ"، ومِن طريقِهِ أبو نُعَيْمِ بسندٍ صحيحٍ، عن مِيثَمٍ رجلٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"يَغْدُو المَلَكُ برايتِهِ مع أولِ مَن يَغدُو إلى المسجدِ، فلا يزالُ بها معه حتى يَرجعَ فيَدْخُلَ بابَ مَنْزِلِهِ، وإنَّ الشيطانَ لَيَغْدُو برايتِهِ مع أوَّلِ مَنْ يَغدُو إلى السُّوقِ"(2).
وكان عملُ الصحابةِ رضي الله عنهم عدمَ البيعِ وقتَ الصلاةِ، بلِ الانصرافَ مِن السوقِ وتركَهُ إلى المساجدِ؛ فروَى أحمدُ بسندٍ جيِّدٍ، عن زيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنِيِّ، قال:"كُنَّا نُصلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم المَغْرِبَ، وننصرِفُ إلى السُّوقِ"(3).
يعني: أنَّهم قطَعوا الضَرْبَ في الأسواقِ عصرًا بدخولِ وقتِ المغرِبِ، ثمَّ انصرَفوا إلى سُوقِهِمْ مرةً أُخرى.
وكان الأمرُ بذلك والطوافُ على الناسِ وتنبيهُهُمْ في أولِ الأمرِ في المدينةِ وفي آخرِ حياتِهِ صلى الله عليه وسلم، وفي أسفارِهِ أيضًا، كما في حَجَّةِ الوداعِ؛ كما رواهُ أبو نُعَيْمٍ في "معرفةِ الصحابةِ"، عن مسلم بنِ يَسَارٍ، عن أَبيهِ؛ قَالَ: خرَجْتُ مع مَوْلايَ فَضَالَةَ بنِ هِلَالٍ في حَجَّةِ الوداعِ، فسَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ:(الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ! )(4).
(1) أخرجه أحمد (5/ 426).
(2)
أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(2715)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة"(6354).
(3)
أخرجه أحمد (4/ 114).
(4)
أخرجه أبو نعيم في "معرفة الصحابة"(6654).
وقد جاء في أولِ الأمرِ ما رواهُ ابنُ خُزَيمةَ في "صحيحِه"، والطبرانيُّ، عن خالدٍ الحَذَّاءِ، عن أبي قِلابةَ، عن أنسٍ؛ قال:"كانتِ الصلاةُ إذا حضَرَتْ على عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، سعى رجلٌ إلى الطريقِ، فنادَى: الصلاةَ الصلاةَ! "(1).
وكان هذا العملُ في زمنِ الخلفاءِ الراشدِين: يُنَبِّهونَ على الصلواتِ النائمين، فضلًا عن القائِمِنَ والقاعِدِينَ في الأسواقِ، ويأمُرُونَهم بذلك؛ فقد اشتهَرَ هذا في فعلِ الخلفاءِ عمرَ وعليٍّ يقومونَ به بأنفُسِهِمْ لا يُنِيبُونَ عليه أحدًا؛ قال أبو زَيْدٍ المجاجيُّ في شرحِهِ على "مختصرِ ابنِ أبي جَمْرةَ":"ذكَرَ غيرُ واحدِ ممَّن ألَّفَ في السِّيَرِ أنَّ عمرَ بنَ الخطَّابِ وعليًّا كانا مِن عادتِهما إذا طلَعَ الفجرُ، خرَجَا يُوقِظانِ الناس لصلاةِ الصبحِ"(2).
وروَى كثيرٌ مِن أهلِ المسانيدِ والسِّيَرِ؛ كالطبريِّ وابنِ عساكِرَ والخطيبِ، بأسانيدَ أكَثرَ مِن أن تُساقَ في موضعٍ، ومتونٍ أشهَرَ مِن أن يَتطرَّقَ إليها احتمالُ الشكِّ بضَعْفٍ، منها عن ثابتٍ البُنانيِّ، عن أبي رافعٍ:"كان عمرُ يَخْرُجُ يُوقِظُ الناس للصَّلاةِ صلاةِ الفجرِ".
وروَى ابنُ سعدٍ بإسنادٍ صحيحٍ إلى الزُّهريِّ: "خرَجَ عمرُ يُوقِظُ الناسَ للصَّلاةِ صلاةِ الفجرِ، وكان عُمَرُ يَفعلُ ذلك"(3).
وإذا كان هذا حالَ النائمِ في زمنِهِ، فكيف باليَقْظانِ يبيعُ ويَشترِي ويَفترِشُ الطرُقاتِ؟ ! بل قد كان الأعرابيُّ يَقدَمُ المدينةَ ومعه الجَلَبُ ليبيعَهُ في سوقِ المدينةِ وقتَ الصلاةِ ولا يجدُ الناسَ في السوقِ، فيَلزَمُ الصلاةَ معهم، ويخرُجُ بعدَها إلى السوقِ، كما رواهُ ابنُ أبي الدُّنيا في "إصلاحِ
(1) أخرجه ابن خزيمة فى "صحيحه"(369)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(5984).
(2)
"التراتيب الإدارية" لعبد الحي الكتاني (1/ 134).
(3)
"الطبقات الكبرى"(3/ 345).
المالِ"، عن أَصْبَعَ بنِ نُبَاتَةَ؛ قال: "خرَجتُ أنا وأبي من ذِرْوَدٍ -وهو جبلٌ مِن أطرافِ الباديةِ- حتى ننتهيَ الى المدينةِ في غَلَسٍ والناسُ في الصلاةِ، فانصرَفَ الناسُ مِن صلاتِهم، فخرَجَ الناسُ على أسواقِهم، ودفَع الينا رجلٌ معه دِرَّةٌ له، فقال: يا أعرابيُّ، أتبيعُ؟ فلم أزَلْ أساوِمُ به حتى أرضاهُ على ثَمَنٍ، وإذا هو عمرُ بنُ الخطَّابِ، فجعَلَ يطوفُ في السُّوقِ يأمُرُهُم بتقوى اللَّهِ عز وجل يُقبِلُ فيها ويُدبِرُ" (1).
وكما ثبَتَ هذا عن غيرِ واحدٍ من التابعينَ؛ كأيُّوبَ بنِ أبي تَمِيمةَ السَّخْتيَانيِّ؛ كما رواهُ البيهقيُّ في "الشُّعبَ"، عن ضَمرةَ، عن ابنِ شَوْذَبٍ؛ قال:"كان أيوبُ يَؤُمُّ أهلَ مسجدِهِ -يعني: في البصرةِ- ويقولُ هو للناسِ: الصلاةَ الصلاةَ! "(2).
يعني: يطوف عليهم مذكِّرًا لهم.
ويُستحَبُّ في حقِّ الوالي أن يمنحَ الأعمى والعاجِزَ ما يُوصِلُهُ إلى المسجدِ جماعةً مِن قائدٍ ومَركَبٍ، ما تيسَّرَ على المُسلِمينَ المالُ ولم بشُقَّ على المصلِّي؛ فقد روى ابنُ سعدٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمةَ؛ قال:"جاء عمرُ رضي الله عنه سعيدَ بنَ يَرْبُوعٍ إلى منزلِه، فعزَّاهُ في ذَهَابِ بصرِهِ، وقال: لا تَدَعِ الجُمُعةَ ولا الصلاةَ في مسجِدِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قال: ليس لي قائدٌ، فقال الفاروقُ: فنحن نَبْعَثُ إليك بقائِدٍ، فبعَثَ إليه بغلامٍ مِن السَّبْيِ"(3).
وكانتِ الأسواقُ لا تُقامُ والصلاةُ حاضِرةُ في الحواضرِ، وإذا قَدِمَ أهلُ البَوادِي، أخَذُوا حُكْمَ الحواضرِ؛ كما رواهُ أحمدُ في "مسندِه"،
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في "إصلاح المال"(ص 75).
(2)
أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(3005).
(3)
"الطبقات الكبرى" -متمم الصحابة- الطبقة الرابعة (ص 362).
والبيهقيُّ في "الشُّعَبِ" -واللفظُ له- وغيرُهما، عن المغيرةِ بنِ عبدِ اللَّهِ اليشكُريِّ، عن أبيه؛ قال:"قَدِمتُ الكُوفةَ أنا وصاحبٌ لي لِأَجلِبَ منها نعالًا، فغدَوْنا إلى السُّوقِ ولمَّا تُقَمْ، فقلتُ لصاحبي: لو دخَلْنا المسجدَ"(1).
ورُوِيَ عن الحسنِ: "واللَّهِ، لقد كانوا يَتبايَعُونَ في الأسواقِ، فإذا حضَرَ حقٌّ مِن حقوقِ اللَّهِ، بدؤوا بحقِّ اللَّهِ حتى يَقْضُوهُ، ثمَّ عادُوا إلى تجارتِهم"(2).
وفي "الحِليَةِ" لأبي نُعَيمٍ، عن سُفْيانَ الثوريِّ:"كانوا يَشْتَرُونَ وَيَبِيعُونَ، ولا يَدَعُونَ الصلواتِ المكتوباتِ في الجماعةِ"(3).
وكان جماعةٌ مِن المفسِّرينَ مِن التابعينَ على تبايُنِ بُلْدانِهم، يَحمِلونَ قولَ اللَّهِ تعالى:{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} على تركِ البيعِ والشراءِ والانصرافِ للصلواتِ، وممَّن قال بهذا: عطاءُ بنُ أبي رَبَاحٍ، وأبو العاليةِ رُفَيْعُ بنُ مِهرانَ، وأيوبُ، والحسنُ، وقتادةُ، ومطرٌ الورَّاقُ، والربيعُ بنُ أنسٍ، والسُّدِّيُّ، والثوريُّ، ومقاتلُ بنُ حَيَّانَ، والضحَّاكُ بن مَخْلَدٍ (4).
وقد كانتِ الأسواقُ في بُلْدانِ المُسلِمينَ على ذلك؛ كانوا يَدَعُونَ أسواقَهُمْ، ويتَّجهونَ إلى الصلاةِ؛ كما قال أبو طالبِ المَكِّيُّ في "قُوتِ القلوبِ"، ذاكرًا حالَ الأسواقِ عندَ السالِفِينَ: "إذا سَمِعوا الأذانَ، ابتدَرُوا المساجِدَ، وكانتِ الأسواقُ تخلو مِن التجارِ، وكان في أوقاتِ
(1) أخرجه أحمد في "مسنده"(3/ 472)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(10620).
(2)
"أحكام القرآن" للجصاص (5/ 189).
(3)
"حلية الأولياء"(7/ 15)، و"شعب الإيمان"(2661).
(4)
ينظر: "تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2607 - 2609)، و"تفسير ابن كثير"(6/ 69)، و"صحيح البخاري"(3/ 55).
الصلاةِ معايشُ للصِّبْيانِ وأهلِ الذِّمَّةِ، وكانوا يستأجِرُونَهم التجارُ بالقراريطِ والدوانيقِ؛ يَحْفَظُونَ الحوانيتَ إلى أوانِ انصرافِهم مِن المساجدِ" (1).
وقال أبو حامدٍ الغزاليُّ في "الإحياءِ": "كان السلفُ يَبتدِرونَ عندَ الأذانِ، ويُخلُونَ الأسواقَ للصِّبْيانِ وأهلِ الذِّمَّةِ، وكانوا يُستأجَرُونَ بالقراريطِ لحفظِ الحوانيتِ في أوقاتِ الصلواتِ"(2).
وقال ابنُ تيميَّةَ في "الفتاوى": "إذا تعمَّدَ الرجُلُ أن يَقعُدَ هناك ويترُكَ الدخولَ إلى المسجِدِ كالذين يقعُدُونَ في الحوانيتِ، فهؤلاءِ مُخطِئونَ مُخالِفونَ للسُّنَّة"(3).
وأكثرُ المؤرخينَ لا يَنُصُّونَ عليه؛ لاشتهارِهِ؛ وإنَّما يذكُرونَه على سبيلِ مناقبِ الأفرادِ المخصوصِينَ ببعضِ الوِلَاياتِ، وبَلَغَ عملُ الحكَّامِ به أقاصيَ بلادِ الإسلامِ حتى بلادِ المغرِبِ الأقصى؛ كالسُّلطانِ أبي عنانَ المَرِينِيِّ حاكمِ المغرِبِ الأوسطِ كلِّه في القرنِ الثامنِ، كما ذكَرَهُ أبو زيدٍ الفاسيُّ في تاريخِهِ "تاريخ بيوتاتِ قاسٍ" لدى كلامِه على بيتِ بَنِي زَنْبَقٍ؛ ذكَر أنَّ السُّلْطانَ يُنِيبُ أبا المكارمِ منديلَ بنَ زَنْبَقٍ؛ ليُحرِّضَ الناسَ في الأسواقِ على الصلاةِ في أوقاتِها، ويَضرِبَ عليها بالسِّياطِ والمَقَارعِ بأمرِ أميرِ المؤمنينَ أبي عنانَ (4).
والأمرُ بذلك إلى اليومِ في الحجازِ ونجدٍ وسائرِ جزيرةِ العربِ؛ يُؤمَرُ به ويُعمَلُ، وأكثرًا الناسِ يَدَعُونَ متاجِرَهم رَغْبةً لا رَهْبةً.
* * *
(1)"قوت القلوب"(2/ 437)
(2)
"إحياء علوم الدين"(2/ 85).
(3)
"مجموع الفتاوى"(23/ 411).
(4)
"بيوتات فاس الكبرى" لإسماعيل بن الأحمر (ص 50)، و"التراتيب الإدارية"(1/ 134).
أمَرَ اللَّهُ باستئذانِ المَوَالِي عندَ دخولِهم بيوتَ أسيادِهم، والأحرارِ الصِّغَارِ الذين لم يبلُغُوا الحُلُمَ، في أوقاتٍ ثلاثةٍ:
الأولُ: قبلَ صلاةِ الفجرِ؛ لأنَّه موضعُ نومٍ وتكشُّفٍ.
الثاني: عندَ الظهيرةِ؛ لأنَّها موضعُ القيلولةِ وما فيها مِن راحةٍ تُوضَعُ فى مِثْلِها الثيابُ.
الثالثُ: بعدَ صلاةِ العشاءِ؛ لأنَّه موضعُ وضعِ لِبَاسٍ وراحةٍ ومُعَاشَرةٍ.
والخِطابُ تَوجَّهَ إلى المَوَالي والصِّغَارِ؛ وذلك أنَّهم يُعلَّمُونَ حُكمَ اللَّهِ فيهم إن لم يُدركُوهُ بأنفُسِهم.
وقد بيَّنَ اللَّهُ العلةَ مِن الأمرِ بالاستئذانِ، وهي ظهورُ العَوْراتِ وما يَكرَهُ الإنسان رؤيتَهُ، وذلك في قوله:{ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} .
وأصل لفظِ العورةِ يُطلَقُ على النقصِ والخللِ، ولمَّا كان صاحبُ النقصِ يَكْرَهُ أن يُرى وينكشِفَ نقصُهُ، دخَلَ في معنى (العَورةِ) كلُّ ما يَشترِكُ في كراهةِ رؤيتِهِ عقلًا أو شرعًا أو عُرفًا ولو كان في حقيقتِهِ كامِلًا:
ففي العُرْفِ لا يُحبُّ الناسُ أن تُرى بيوتُهُمْ مِن الداخلِ إلَّا بإذنِهم؛ فقال اللَّهُ على لسانِ المُنافِقينَ: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13] تُدخَلُ ونحن نَكْرَهُ ولا أحدَ يَمنَعُ، فتُسمَّى البيوتُ المفتوحةُ عَوْرةً ولو كانتِ البيوتُ لا عَيبَ فيها ولا نقصَ.
ويُطلَقُ على الجهةِ التي يَكرَهُ الإنسانُ أن يُدخَلَ عليه منها عَوْرةٌ؛ كبابِ البيتِ ونافذتهِ وثَقْبِ البابِ، وجهةِ الحيِّ والمدينةِ التي لا حارسَ عليها مِن عدوٍّ أو سارقٍ؛ قال لَبِيدٌ:
حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ
…
وَأَجَنَّ عَورَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا
ومن هذا جاء النهيُ في هذه الآيةِ حتى لا يُرى صاحب البيتِ مِن خادمِهِ ومولاتِهِ والصغيرِ على حالِ يَكرَهُها ولو لم تكن خَطَأً أو حرامًا؛ كتخفُّقهِ مِن لِباسِهِ أو مباشرتِهِ لزوجتِه، وقد صحَّ عن ابنِ عبَّاسٍ قولُهُ:"إذا خلا الرجلُ بأهلِهِ بعدَ العِشاءِ، فلا يدخُل عليه خادمٌ ولا صبيٌّ إلَّا بإذنِهِ حتى يُصلِّيَ الغَدَاةَ"(1).
وقد عَدَّ بعضُ السلفِ الآيةَ منسوخةً؛ وذلك لأنَّهم رأَوْا أنَّها نزَلَت في حالِ ضَعْفِ الحالِ وعدم الستر والأبوابِ والغُرَفِ التي تُحكَمُ وتُغلَقُ بأبوابٍ وأقفالٍ، قالوا:"ولذلك يرتفِعُ الحرَجُ عن المَوَالي والصِّغَارِ".
والصحيحُ: إحكامُها، وارتفاعُ العلةِ لا يعني ارتفاعَ الحُكْمِ؛ فقد تعودُ العلةُ؛ فيعودُ الحُكمُ معها، ثمَّ إنَّها لم تَرتفِع بإطلاقٍ وإنِ ارتفَعَت مِن عامَّةِ الناسِ لليسارِ والنعيمِ الذي هم فيه.
وقد روى أبو داودَ، عن عُبَيدِ اللَّهِ بنِ أبي يزيدَ، سَمِعَ ابنَ عبَّاسٍ يقولُ: لَم يُؤمَرْ بهَا أَكْثرُ النَّاسِ؛ آيَةَ الإذنِ، وإنِّي لَآمُرُ جَارِيتِي هَذِهِ تَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ" (2).
وروى أيضًا عن عِكْرِمةَ: "أنَّ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالُوا: يَا بْنَ عَبَّاسٍ، كَيْفَ تَرَى فِي هَذِهِ الآيَةِ الَّتي أُمِرنَا فِيهَا بمَا أُمِرْنَا، وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أحَدٌ: قول اللَّه عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ
(1)"تفسير ابن أبى حاتم"(8/ 2634).
(2)
أخرجه أبو داود (5191).
وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} إلى {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ حَلِيِمٌ رَحِيمٌ بِالمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ السَّتْرَ، وَكَانَ النَّاسُ لَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ سُتُورٌ وَلَا حِجَالٌ (جمعُ: حَجَلَةٍ، وهي بيتٌ كالقُبَّةِ يُسْتَرُ بالثيابِ، يَجْعَلُونَها للعَرُوسِ)، فَرُبَّمَا دَخَلَ الْخَادِمُ أَوِ الْوَلَدُ أَوْ يَتِيمَةُ الرَّجُلِ وَالرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّه بالاِسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ، فَجَاءَهُمُ اللَّهُ بِالسُّتُورِ وَالْخَيْرِ، فَلَمْ أرَ أَحَدًا يَعْمَلُ بِذَلِكَ بَعْدُ" (1).
وأمرُ الصبيِّ في الآيةِ ليس مُتوجِّهًا إليه؛ لأنَّه غيرُ مكلَّفٍ؛ وإنَّما يتوجَّهُ إلى وليِّهِ أن يأمُرَهُ ويُعلِّمَهُ ويُؤدِّبَهُ إنْ خالَفَهُ؛ وذلك كقولِهِ صلى الله عليه وسلم: (مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ)(2).
* * *
* قال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 59].
في هذا: تشديدٌ على الصِّغارِ بعدَ بُلوغِهم في دخولِهم على والدِيهِمْ وإخوانِهم وأخواتِهم وأعمامِهم وخالاتِهم، وأنَّ ثبوتَ المَحْرَمِيَّةِ لا يعني جوازَ الدخولِ بلا إذنِ؛ لأنَّ ثَمَّةَ عَوْراتٍ لا يصحُّ لأحدٍ أن يَراها حتى الأرحامُ سوى الزوجاتِ، وثَمَةً أحوالٌ يَكرَهُ الإنسانُ رؤيتَهُ عليها ولو مِن زَوْجِه.
وكان ابنُ مسعودٍ يقولُ: "عليكم الإذنَ على أمَّهاتِكم"(3).
(1) أخرجه أبو داود (5192).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
"تفسير الطبري"(17/ 245).
وقولُه تعالى: {بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ} خطابٌ لأطفالِ الناسِ، وليس لأطفالِ الأَبعدِينَ، فإنْ كان هذا الحُكْمُ في أطفالِهم، فأطفالُ الأبعَدِينَ مِن بابِ أَولى.
وقولُه تعالى: {فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ؛ أى: إنَّهم أخَذُوا حُكْمَ مَن سبَقَهم مِن البالغِين، على ما تقدَّمَ بيانُهُ مِن صفةِ الاستئذانِ وبَذْلِ السلامِ.
واللَّهُ قد خفَّفَ على الصِّغارِ في حالِ صِغَرِهم، ولكنَّه بعدَ البلوغِ أَلْحَقَهم بمَن سبَقَهُمْ مِن الحالِمين، فقد جعَلَ الأطفالَ الصِّغارَ والمواليَ يَستأذِنونَ في الأوقاتِ الثلاثةِ، ولكنْ جعَلَ استئذانَهُمْ بعدَ بُلُوغِهم: كلَّ وقتٍ، كما تقدَّمَ في غيرِهم.
وقد صحَّ عن ابنِ عبَّاسٍ قولُهُ: "أمَّا مَن بلَغَ الحُلُمَ، فإنَّه لا يدخُلُ على الرجُلِ وأهلِهِ -يعني: مِن الصِّبْيانِ الأحرارِ- إلَّا بإذنٍ على كلِّ حالٍ، وهو قولُه: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} "(1).
وجاء عن عطاءٍ في قوله: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} ؛ قال: "واجبٌ على الناسِ أجمَعِينَ أنْ يَستَأْذِنُوا إذا احتلَمُوا، على مَن كان مِن الناسِ"(2).
* * *
(1)"تفسير الطبري"(17/ 358)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2637).
(2)
"تفسير الطبري"(17/ 359).