الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيَلبَسُ الإنسانُ مِن جلودِ الأنعامِ وشَعَرِها ما يَبقى معه أعوامًا، والأكلُ منها يَستهلكُه في يومِه.
وظاهرُ القرآنِ والسُّنَّة دالٌّ على أنَّ جلودَ بهائمِ الأنعامِ المُذَكَّاةِ طاهرةٌ جائزةُ الاستعمالِ، وهذا لا خلافَ فيه.
الانتفاعُ مِن جُلُودِ المَيْتَةِ:
وقد اختلَفَ العلماءُ في جلودِ المَيتَةِ: هل يجورُ الانتفاعُ بها بعدَ دَبْغِها أم تأخُذُ عمومَ تحريم المَيتَةِ؟ على أقوالٍ:
ذهَب أكثَرُ الفقهاءِ إلى أنَّ الدِّباغَ يُطهِّرُها، والسُّنَّة دالَّةٌ على أنَّ جِلدَ المَيتةِ إذا دُبِغَ فهو طاهرٌ؛ وذلك لقولِه صلى الله عليه وسلم في حديثِ ميمونةَ لمَّا مَرَّ بمَيتةٍ:(هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ)(1)، وقولِهِ صلى الله عليه وسلم:(أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ)(2).
ولمالكٍ قولٌ أنَّ جلودَ المَيتةِ لا تَطهُرُ بالدِّباغ، ولكنَّه يُنْتفَعُ مِن الجِلدِ بالشيءِ اليابس ولا يُصلَّى عليه ولا يُؤكَلُ فيه، كما رواهُ عنه ابنُ عبد الحَكَمِ (3).
وذهَب أحمدُ إلى أنَّ المَيتةَ لا يُنتفَعُ منها بشيءٍ؛ لحديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عُكَيْمٍ (4)، وقد ضعَّفَ الحديثَ ابنُ مَعِينٍ (5) وغيرُه.
(1) أخرجه مسلم (363).
(2)
أخرجه أحمد (1/ 219)، والترمذي (1728)، والنسائي (4241)، وابن ماجه (3609).
(3)
"التمهيد"(4/ 156 - 157)، و"تفسير القرطبي"(12/ 398).
(4)
أخرجه أحمد (4/ 310)، وأبو داود (4128)، والترمذي (1729)، والنسائي (4249)، وابن ماجه (3613).
(5)
"تاريخ ابن معين" - رواية ابن محرز (1/ 123).
وأمَّا جلودُ ما دَلَّ الدليل على نجاستِه كالكلب والخِنزيرِ، فجمهورُ العلماءِ على تحريمِ الانتِفاعِ بجِلدِه، ولا يَطهُرُ بالدِّباغ، خلافًا لداودَ وسُحْنُونٍ.
وقد خصَّ مالكٌ المنعَ مِن الخِنزيرِ وحدَه، ولم يَرَ تحريمَ الانتفاعِ بجِلدِ الكلبِ، لأنَّه لا يَرى نجاسةَ بدَنِه، ويخُصُّها بلُعابِه.
وأمَّا صوفُ المَيتةِ وشعورُها، فهو حلالٌ، وبهذا قال مالكٌ وأبو حنيفةَ والشافعيُّ في أحدِ أقوالِه.
واستحَبَّ المالكيَّةُ غسْلَها؛ لِما رُوي عن أمِّ سلمةَ رضي الله عنها عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (لَا بَأْسَ بِمَسْكِ المَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ، وَلَا بَأْسَ بِصُوفِهَا وَشَعَرِهَا وَقُرُونِهَا إِذَا غُسِلَ بِالمَاءِ).
وقد رواهُ الطبرانيُّ والدارقطنيُّ (1)، ولا يصحُّ؛ ففيه يوسُفُ بن السَّفْرِ، وهو متروكُ الحديثِ.
وقال الشافعيُّ في أحدِ قولَيْهِ بنجاسةِ شَعَرِ المَيتةِ وصُوفِها، وهو الصحيحُ عندَ جماعةٍ مِن أصحابِه.
* * *
* قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6].
فيه: أنَّ التجمُّلَ ببهائم الأنعام، وإظهارَ النِّعمةِ بذلك، والاكتِفاءَ عن الخَلقِ: من الأمورِ الجائزة، وفيه أنَّ مِن مَقاصدِ اتِّخاذِ بهائمِ الأنعامِ جَمَالَها في غُدُوِّها ورَوَاحِها، وفيه جوازُ شرائِها وبيعِها لأجْلِ جَمَالِها؛ لظاهرِ الآيةِ، وذلك أنَّ الرجُلَ يُغالي بثمنِ شاةٍ أو جملٍ أو بقرةٍ لِلَونِها
(1) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(23/ 258)، والدارقطني في "سننه"(1/ 47).
وطولِها، ولو لم يكنْ ذلك لأجلِ لحمِها وصوفِها ولبنِها، فقد ذكَر المنافعَ وعَدَّها، وهي. (الأكلُ)، و (الدِّفْءُ)؛ يعني: مِن جلودِها وشَعَرِها وصوفِها ووبَرِها، و (جَمَالُها)، ثمَّ ذكَر بعدَ ذلك حَمْلَ الأثقالِ وشُربَ الألبانِ في قولِه تعالى:{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} [النحل: 7]، وقولِه:{لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66].
وما ذكَره اللَّهُ مِنَ النِّعَمِ، فيجوزُ جعلُ قيمةٍ له، ولكنَّ اللَّهَ قد جعَل الجَمَالَ بعدَ منفعةِ الأكلِ والدِّفءِ؛ لأنَّ تقديمَه عليها يكونُ مِن بابِ الفُضولِ والسَّرَفِ، ويفعلُه غالبًا أهلُ الغِنى والبَطَر، ومع جوازِ شراءِ الأنعامِ وبيعِها لجَمَالِها، إلَّا أنَّه يحرُمُ المغالاةُ في ذلك، كما يفعلُه أهلُ المُباهاةِ اليومَ ببيعِ الإبلِ والغنمِ بألوفٍ مؤلَّفةٍ وملايينَ كثيرةٍ مِمَّا يُغني قبائلَ بأَسْرِها، ويُطعِمُ فقراءَ بلدِ كاملٍ مِن أطايبِ اللحم، ويَكسُوهم مِن أجودِ الجلودِ والشعَرِ، فهو إنْ حُرِّمَ فيُحرَّمُ لأجلِ السَّرَفِ والمباهاةِ، لا لأجلِ كونِ البيعِ يكونُ للجَمَالِ؛ فإنَّ اللَّهَ ذكَرَه وعَدَّه نعمةً.
ويجوزُ اتِّخاذُ الأنعامِ والبهائمِ لأظهارِ العفَّةِ والغَناءِ عن الناسِ؛ لِما ثبَت في قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الخيلِ في الصحيحينِ: (وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا، وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا، فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً، فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ)(1).
وقد ذكَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ بعضَ الأنعامِ تُتَّخَذُ لعِزِّ أهلِها وكِفايتِهم وإظهارِ غِناهُم عن الناسِ، لا فخرًا ولا بطَرًا، كما قال صلى الله عليه وسلم:(الْإِبِلُ عِزٌّ لِأَهْلِهَا، وَالْغَنَمُ بَرَكَةٌ، وَالْخَيْرُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)؛
رواهُ ابنُ ماجَهْ (2)، وأصلُه في "الصحيحينِ" بذِكرِ الخيلِ فقط (3).
(1) أخرجه البخاري (7356)، ومسلم (987).
(2)
أخرجه ابن ماجه (2305).
(3)
أخرجه البخاري (2852)، ومسلم (1873).