الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
* قال تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55].
في الآيةِ ذكَرَ اللَّهُ فضلَ إسماعلَ، وأنَّه كان يأمُرُ أهلَه بالصلاةِ والزكاة، وكان عندَ ربِّه مَرْضِيًّا لذلك الفعلِ مه وغيرِه، و
أمرُ الأهلِ بالصلاةِ
والزكاةِ مهمةُ الأنبياءِ والأولياءِ والصالِحِين، وقد أمَرَ اللَّه نبيَّه بذلك في قولِهِ:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].
أَمْرُ الأهلِ بالصلاةِ:
وهو تكليفٌ لجميعِ المُسلِمِينَ أن يتعاهَدوا أهلَهُمْ بأعظَمِ الأركانِ بعدَ الشهادتَيْنِ؛ وذلك أنَّ أَولى الناسِ بالنُّصْحِ الأَقْرَبُونَ، وأَولى الأَقْربِينَ أهلُ البيت، وقد قال اللَّهُ تعالى:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]، فأولُ ما يجبُ على الإنسانِ خلاصُ نفسِهِ ونجاتُها، ثمَّ خلاصُ أهلِه ونجاتُهم، ثمَّ نجاةُ الأَقرَبِين؛ كما قال تعالى لنبيِّه:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، فأمَرَه بالأقربينَ قبلَ الأَبْعَدِينَ.
وقولُه تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ} : أهلُ الرجُلِ: زوجتُهُ وأولادُهُ؛ فقد قال اللَّه عن إبراهيمَ: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} [الذاريات: 26]، وقال عن موسى:{فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} [طه: 10]؛ يعني: زوجتَهُ، وقد ذكَرَ اللَّهُ أهلَ لُوطٍ ثمَّ استثنَى زوجتَهُ منهم، فقال:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ} [الأعراف: 83]؛ يعني: لمَّا كانتْ زوجتُهُ مِن أهلِه، استثناها لكفرِها، ومِثلُهُ قولُ نوحٍ:{إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45]، فقال تعالى:{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46]، فأَقَرَّه على كونِهِ مِن أهلِه نَسَبًا، وأخرَجَهُ منهم لِكُفْرِه.
ويُطلَقُ الأهلُ على مَن تأهَّلَ في البيتِ واشترَكَ في سُكْناه، ومِن
ذلك قولُهُ تعالى عن رُكَّابِ السفينةِ: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف: 71]، ومِن ذلك قولُهُ تعالى:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26]؛ يعني: مِن أهلِ بيتِها، ومِثلُهُ قولُهُ تعالى:{لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ} [يوسف: 62].
وكان السلفُ يَتعاهَدونَ كلَّ أهلِ بيوتِهم بالصلاةِ والزكاةِ واستصلاحِ أمرِهم ولو كانوا خَدَمًا وجَوَارِيَ وعبيدًا، وقد روى الببهقىُّ؛ مِن حديثِ عاصمٍ؛ قال: جاء رجلٌ إلى الحسَنِ، فقال له: يا أبا سعيدٍ، إنَّ لي جاريةً حسَنةً الصوتِ، لو عَلَّمْتُها الغناءَ لعلِّي آخُذُ بها مِن مالِ هؤلاءِ، قال الحسَنُ: إنَّ إسماعيلَ كان يأمُرُ أهلَهُ بالصلاةِ والزكاةِ، وكان عندَ ربِّه مَرضِيًّا، فأعاد عليه الرجُلُ القولَ ثلاثَ مرَّاتٍ، كلَّ ذلك يقولُ له الحسَنُ: إنَّ إسماعلَ كان يأمُرُ أهلَهُ بالصلاةِ والزكاةِ (1).
وقد أمَرَ اللَّهُ بأمرِ الأولادِ بالصلاةِ وتعاهُدِهم عليها، ويجبُ ذلك على الوليِّ عندَ تمييزِ الولدِ بالكلامِ أمرًا، وضَرْبًا غيرَ مبرِّحٍ عندَ العِصْيانِ عندَ العاشرةِ؛ كما في قولِهِ صلى الله عليه وسلم:(مُرُوا أوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي المَضَاجِعِ)(2).
وظاهرُ الحديثِ: أنَّ الولدَ لا يؤمَرُ بها قبلَ السابعةِ، ولا يُضرَبُ قبلَ العاشرةِ، ولكن قبلَ السابعةِ يُعرضُ له:(لو صَلَّيتَ معنا، وماذا ترى بالصلاةِ مع الناسِ؟ )، وهذا لي حالِ قُرْبِهِ مِن التمييزِ، ولا يؤتى به إلى مواضعِ الصلاةِ وصفوف المُصلِّينَ إنْ كان يقطعُها ويُذهِبُ خشوعَهُمْ ببكائِهِ ولَعِبِه.
(1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 226).
(2)
أخرجه أحمد (2/ 187)، وأبو داود (495).
ويُستحَبُّ تعاهُدُ الأهلِ بصلاةِ النافِلةِ، وخاصَّةَ الزَّوْجةَ؛ فقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتعاهَدُ أهلَهُ وَيُوقِظُ أهلَهُ لصلاةِ الوِتْرِ، وكان يحُثُّ الناسَ على ذلك، ففي "السُّننِ"؛ مِن حديثِ أبي هريرةَ وأبي سعيدِ؛ قال صلى الله عليه وسلم:(إِذَا أَيْقَظَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّبَا أَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا، كُتِبَا فِي الذَّاكِرِينَ وَالذَّاكِرَاتِ)(1).
وفيها أيضًا عن أبي هريرةَ؛ قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قامَ مِنَ الَّليْلِ فَصَلَّى، وَأْيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ أَبَتْ، نَضَحَ فِي وَجْهِهَا المَاءَ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ، وَأَيْقَظَتْ زَوجَهَا، فَإِنْ أَبَى، نَضَحَتْ فِي وَجهِهِ المَاءَ)(2).
* * *
* قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59].
ذكَرَ اللَّهُ الأنبياءَ ومَن اتَّبَعَهُمْ ممَّن اقتفَى أثرَهُم، وذكَر مَنْ خَلْفَهم ممَّن مالوا وحادُوا عن الصراطِ المستقيم، وأولُ وصفِ سوءٍ لهم ذكَرَهم به: أنَّهم: {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} ، فقرَنَ اللَّهُ إضاعةَ الصلواتِ باتِّباعِ الشهواتِ؛ لأن الصلاةَ لا يُضِيعهُا إِلَّا غارِقٌ في الشهوةِ، يستمتِعُ بالعاجلِ فيَصرِفُهُ عن الآجِلِ.
وقد كان السلف يَعُدُّونَ كلَّ شَهْوةٍ صارفةٍ عن الطاعةِ هي مِن هذا البابِ؛ وذلك أنَّ ثَمَّةَ تلازُمًا بينَ الشهواتِ وتركِ الصلاةِ؛ فكلَّما زادَتِ
(1) أخرجه أبو داود (1309)، والنسائي في "السنن الكبرى"(1312)، وابن ماجه (1335).
(2)
أخرجه أحمد (2/ 250)، وأبو داود (1308)، والنسائي (1610)، وابن ماجه (1336).
الشهواتُ، نقَصَتِ الصلاةُ، وقد رَوَى البيهقيُّ في "الشُّعَبِ"؛ مِن حديثِ محمدِ بنِ عمرٍو، عن محمدِ بنِ المُنكدِرِ؛ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عامرِ بنِ ربيعةَ، قال:"اغْتَسَلْتُ أَنَا وَآخَرُ، فَرَآنَا عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ وَأَحَدُنَا يَنْظُرُ إِلَى صَاحِبِهِ، قَالَ: إِنِّي لأَخْشَى أَنْ يَكُونَا مِنَ الخَلْفِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} "(1).
ولا يكونُ تركُ الصلاةِ بالكليَّةِ والانغماسُ في الشهواتِ في الأُمَمِ إلَّا مع بُعْدِ عهدٍ بالنبوَّةِ، فتُطمَسُ معالمُها، ويَقِلُّ المُصلِحونَ فيها، وقد صحَّ عن مجاهدٍ أنَّ ذلك يكونُ في آخِرِ الزمانِ؛ كما رواهُ ابنُ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ؛ قال في قولِه:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} : "عندَ قيامِ السَّاعةِ وذَهَابِ صَالِحي أمَّةِ مُحَّمدٍ صلى الله عليه وسلم يَنْزُو بعضُهم على بعضٍ في الأَزِقَّةِ"(2).
وقد حمَلَ بعضُ السلفِ الأضاعةَ في هذه الآيةِ على كفرِ تاركِ الصلاةِ؛ حيثُ حمَلَ الإضاعةَ على التركِ؛ لقربةِ الغَيِّ الذي لا يكونُ مِثلُهُ إلَّا لكافرٍ؛ كما جاء عن ابنِ مسعودٍ في قولِه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} ؛ قال: "الغَيُّ نهرٌّ حَمِيمٍ في النارِ يُقذَفُ فيه الذين يَتَّبِعُونَ الشهواتِ"(3).
وقد حمَل بعضُ السلفِ الإضاعةَ في الآيةِ على تأخيرِها عن وقتِها؛ كما قال بذلك القاسمُ بنُ مُخيمرةَ؛ قال في قوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} : "إنَّما أضاعوا المواقيتَ، ولو كان تركًا، كان كفرًا"(4).
(1) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(7401).
(2)
"تفسير الطبري"(15/ 570).
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(7/ 2413)، والبيهقي في "البعث والنشور"(471).
(4)
"تفسير الطبري"(15/ 567)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(7/ 2412).
وقد اتَّفَقَ السلفُ على كفرِ تاركِ الصلاةِ؛ وإنَّما خلافُهُمْ في كونِهِ كفرًا مُخرِجًا مِن الملَّةِ، أو كفرًا أصغَرَ.
وقد ذهب أحمدُ في المشهورِ عنه -وهو قولٌ للشافعيِّ- إلى كفرِ تاركِها؛ لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّركِ وَالكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ)(1)، ويأتي تفصيلُ القولِ في تاركِ الصلاةِ عندَ قولِهِ تعالى:{الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} [الماعون: 5].
* * *
(1) أخرجه مسلم (82).