الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لمَّا أنزَلَ اللَّهُ على نبيِّه أَمْرَهُ أمَّهاتِ المؤمنينَ بالاحتجابِ، وعدمِ الخِطَابِ وإعطاءِ المتاعِ إلَّا مِن وراءِ حجابٍ، استثنَى المَحَارِمَ مِن قَرَابَاتِهِنَّ؛ حتى لا يُظَنَّ أنَّ الحُكْمَ عامٌّ لكلِّ أحدٍ مِن الناسِ ولو كان مَحْرَمًا، فرفَعَ اللَّهُ الحرَجَ عنهنَّ بهذا البيانِ، فأجاز لَهُنَّ إدخالَ مَحَارِمِهِنَّ؛ مِن آبائِهنَّ، وأبنائِهنَّ، وإخوانِهنَّ، وأبناءِ إخوانِهنَّ، وأبناءِ أخواتِهنَّ، وجميعِ النساءِ، وما ملكَتِ الأَيمانُ مِن المَوَالي.
* * *
* قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب 56].
في هذه الآيةِ: فضلُ الصلاةِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ حيثُ أخبَرَ اللَّهُ أنَّه يُصلِّي على نبيِّه، وملائكتُهُ يُصَلُّونَ معه؛ وهذا شرفٌ عظيمٌ، ومنزلةٌ جليلةٌ؛ أنْ يكونَ هذا مِن اللَّهِ وملائكتِه لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وفي الآيةِ إشعارٌ: أنَّكم أيُّها المؤمنونَ أحَقُّ وأَوْلى بالصلاةِ عليه مِن غيركم؛ لأنَّ اللَّهَ امتَنَّ به عليكم، وأكرَمَكُمْ به وبرسالتِه، وأخرَجَكُمْ به مِن الظُّلُماتِ إلى النورِ.
الصلاةُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم: معناها، وحُكْمُها:
وصلاةُ اللَّهِ على نبيِّه؛ تعني: ثناءَهُ عليه في المَلَأِ الأعلى؛ كما قاله أبو العاليةِ (1).
(1) أخرجه البخاري معلقًا قبل حديث (4797)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(10/ 3151).
وصلاةُ المؤمنينَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليستْ شفاعةً له منهم، ولكنَّه جزاءٌ له على فضلِهِ عليهم، ولكرمِ اللَّهِ وشرفِ نبيَّه جعَلَ اللَّهُ المؤمنينَ ينتفعونَ بصَلَاتِهم عليه؛ كما في "صحيحِ مسلمٍ"؛ قال صلى الله عليه وسلم:(مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)(1)، وفي الترمذيِّ مرفوعًا:(أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ القِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً)(2).
وظاهرُ الأمرِ بالصلاةِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الآيةِ: الوجوبُ، وقد حكى ابنُ عبدِ البَرِّ الإجماعَ على وجوبِ الصلاةِ على النبيِّ للآيةِ (3)، ويُريدُ بذلك أصلَ الصلاةِ، وأمَّا مواضعُ الصلاةِ، فعلى خلافٍ معروفٍ.
وقد ذهَبَ جماعةٌ مِن الأئمَّةِ: إلى أنَّ الصلاةَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم فرضٌ على المؤمنِ بالرسالةِ إجمالًا، مِن غيرِ تعيينِ زمانٍ ولا مكانٍ؛ وهذا نُسِبَ إلى أبي حنيفةَ ومالكِ والثوريِّ والأوزاعيِّ.
وأوجَبَه الشافعيُّ -وأحمد في روايةٍ- في كلِّ تشهُّدٍ أخيرٍ في الصلاةِ.
ولا يَتعيَّنُ في الصلاةِ، ولا في وقتٍ من الأوقاتِ.
واختلَفَ العلماءُ في حُكْمِ الصلاةِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم عندَ ذِكْرِهِ في المَجالِسِ، على أقوالٍ:
منهم مَن قال: بوجوبِ الصلاةِ عندَ ذِكْرِهِ كلَّ مرةٍ، ولو تكرَّرَ الذِّكْرُ في المَجْلِسِ الواحدِ؛ وإلى هذا ذهَبَ الطحاويُّ والحَليِمِيُّ وابنُ بَطَّةَ وغيرُهم.
ومنهم مَن قال: باستحبابِ الصلاةِ عندَ ذِكْرِه، وعدمِ وجوبِه.
والأظهَرُ: أنَّه يجبُ عندَ ذِكْرِهِ في المَجْلِسِ مرَّةً، وإنْ تكرَّرَ بعدَ
(1) أخرجه مسلم (384).
(2)
أخرجه الترمذي (484).
(3)
"الاستذكار"(6/ 255)، و"التمهيد"(16/ 191).
ذلك فُيستحَبُّ؛ لأنَّ الصلاةَ الواحدةَ تُسقِطُ الإيجابَ فيما بَقِيَ، وهو أدنى ما يُمتثَلُ به في الآيةِ، ويُستحَبُّ أنْ تكونَ الصلاةُ عندَ أولِ ذِكْرٍ له؛ حتى لا يَتَّكِلَ منَ ينشغِلُ ذهنُهُ ويَغفُلَ عما بَقِيَ مِن ذِكْرِه، وقد لا يُذكَرُ في المَجْلِسِ إلَّا مرةً، والكمالُ لأهلِ الكمالِ هو الصلاةُ عليه عندَ كلِّ ذِكْرٍ له صلى الله عليه وسلم.
وقد قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ)(1)، وقال صلى الله عليه وسلم:(البَخِيل الَّذِي مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ)(2)؛ رواهُما التِّرمذيُّ.
وتصحُّ الصلاةُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم بأيِّ لفظٍ، مختصَرًا كان أو مطوَّلًا، وأفضلُ أنواعِها الجمعُ بينَ الصلاةِ والتسليمِ؛ لظاهرِ الآيةِ:{صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، فيُقالُ مختصرًا: عليه الصلاة والسلام، أو صلى الله عليه وسلم، وأتَمُّ أنواعِ الصلاةِ: الصلاةُ الإبراهيميَّةُ.
* * *
* قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)} [الأحزاب: 59].
لمَّا جاء الخِطابُ السابقُ خاصًّا بأُمَّهاتِ المؤمنينَ، ويَشترِكُ في أصلِ الحُكْمِ عامَّةُ المؤمناتِ، جاء اللَّهُ بخِطابٍ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم يبيِّنُ حاجةَ جميعِ نساءِ المؤمنينَ إلى ذلك؛ حتى لا تُظَنَّ خَصُوصيَّةُ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم باللِّباسِ.
قال تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} :
(1) أخرجه أحمد (2/ 254)، والترمذي (3545)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الترمذي (3546)، والنسائي في "السنن الكبرى"(8046)؛ من حديث عليٍّ رضي الله عنه.
أمَر اللَّهُ بإدناءِ الجِلْبابِ، والجِلْبابُ هو ما يكونُ مِن لِبَاسٍ فَضْفاضٍ فوقَ الخِمَارِ يَستوعبُ أعلى البَدَنِ ووسطَه، ويُسدَلُ فيُغطَّى به الوجهُ والصدرُ؛ ففي "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ عائشةَ رضي الله عنها؛ قالتْ:"فَخَمَّرْتُ وَجْهي بِجِلبَابِي"(1).
والجِلْبابُ قريبٌ مِن العباءةِ اليومَ لكنَّه غيرُ مفصَّلٍ، ويُسمَّى: القِنَاعَ أو المُلَاءةَ.
والجِلْبابُ ليس غِطَاءً خاصًّا بالوجهِ وحدَه؛ ولكنَّه للوجهِ وغيرِه؛ ولذا قال: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} ؛ يعني: نأخُذُ شيئًا مِن جِلبْابِها ونُنزِلُه على وجهِها؛ كما يأتي بيانُه.
والفرقُ بينَ الخِمَارِ والجِلْبابِ: أنَّ الخِمارَ يكونُ تحتَ الجِلْبابِ، والخِمارُ تَلبَسُهُ المرأةُ وتشُدُّهُ على رأسِها وما دُونَه، ويكونُ ملاصِقًا للجسمِ مشدودًا، بخلافِ الجلبابِ؛ فهو غطاءٌ زائدٌ فوقَهُ فَضْفاضٌ يُرخَى غالبًا ولا يُشَدُّ لا على الوجهِ ولا على الصدرِ بحيثُ يُبرِزُ حجمَ العضوِ؛ ولذا جاء في "صحيح مسلمٍ"، عن أمِّ سُلَيْمٍ:"أنَّها خَرَجَتْ مُسْتَعْجِلَةً تَلُوثُ خِمَارَهَا"(2)؛ يعني: تُدِيرُهُ على رأسِها وتشُدُّه، والخِمارُ هو الذي تَصُرُّ بطرَفِه بعضُ النِّساءِ الأوائلِ دنانيرَها؛ لتَماسُكِهِ وثباتِهِ عليها.
قال أبو نُعَيْمٍ الأصبهانيُّ: "الجلبابُ فوقَ الخِمَارِ ودونَ الرِّداءِ تَستوثِقُ المرأة صدرَها ورأسَها"(3).
وقولُه تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ} :
الأدناءُ مِن الدنوِّ، وهو القُرْبُ، ويكونُ مِن مكانٍ عالٍ أو مُوَازٍ،
(1) أخرجه البخاري (4141)، ومسلم (2770).
(2)
أخرجه مسلم (2603).
(3)
"المسند المستخرج على صحيح مسلم"(2/ 474).
والدنوُّ نزولٌ، فيسمَّى أسفلُ الشيءِ وأقرَبُه: أدناهُ، ويسمَّى النازلُ الهابطُ بالنسبةِ للعالي: أَدْنى ودانيًا؛ كما في قولِه: {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)} [الروم: 3].
والأمرُ في الآيةِ هو لتغطيةِ المرأةِ وَجْهَها، فالجِلْبابُ في الأَعلى، فأُمِرَتْ أن تُنزِلَهُ على وجهِها وتُرْخِيَهُ عليه؛ قال الزَّمَخشَرِيُّ:"يُقالُ إذا زَلَّ الثوبُ عن وجهِ المرأةِ: أَدْنِي ثَوْبَكِ على وجهِكِ"(1).
ويدُلُّ على أنَّ الإدناءَ في الآيةِ يتضمَّنُ القُرْبَ مِن علوٍّ: قولُ ابنِ عبَّاسٍ: تُدْلِي عَلَيْها مِنْ جَلَابِيبِهَا؛ كما عندَ الشافعيِّ والبيهقيِّ (2)؛ ففسَّر (الإِدْناءَ) بـ (الإِدْلاءِ)، والإِدْلاء يكونُ مِن الشيءِ العالي؛ ومنه قولُه:{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 5 - 9]، وهو قُرْبُ جبريلَ مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فكان عاليًا ثمَّ دنا فتَدَلَّى إليه، ومنه سُمِّيَ الدَّلْوُ دَلْوًا؛ لأنَّه يُدْلَى به مِن عُلْوٍ إلى أسفلِ البئرِ.
وقد فسَّرَ إدناءَ الجلابيبِ بتغطيةِ الوجهِ في هذه الآيةِ وغيرِها جماعةٌ مِن الصحابةِ؛ صحَّ عن ابنِ عبَّاسٍ وعائشةَ، ومِن التابعينَ: عَبِيدةُ السَّلْمانيُّ، ومحمدُ بنُ سِيرِينَ، وابنُ عَوْنٍ، ولا أعلَمُ أحدًا مِن الصحابةِ أو التابعينَ خالَفَ هذا المعنى:
أمَّا ما جاء عن ابنِ عبَّاسٍ، فقولُه: "أَمَرَ اللَّهُ نساءَ المؤمِنينَ إذا خَرَجْنَ مِن بُيُوتهنَّ في حاجةٍ أنْ يُغَطِّينَ وجوهَهُنَّ مِن فَوْقِ رؤوسِهِنَّ بالجلابيبِ، ويُبدِينَ عَيْنًا واحدةً؛ أخرَجَهُ ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتمٍ، عن
(1)"تفسير الزمخشري"(3/ 569).
(2)
مسند الشافعي" (ص 118)، و"معرفة السنن والآثار" للبيهقي (4/ 9).
عليٍّ، عن ابنِ عبَّاسٍ (1)، وهي صحيفةٌ قوَّاها أحمدُ، واحتَجَّ بها البخاريُّ (2).
وأمَّا ما جاء عن عائشةَ، فقولُها:"تُسدِلُ المرأةُ جِلْبابَها مِن فوقِ رأسِها على وَجْهِها"؛ أخرَجَهُ سعيدُ بنُ منصورِ في "سُنَنِه" بسندٍ صحيحٍ (3).
وأمَّا ما جاء عن عبيدةَ السَّلْمانيِّ، فما رواهُ ابنُ عونٍ، عن محمدِ بنِ سيرينَ؛ قال:"سألتُ عَبِيدةَ السَّلْمانيَّ عن قولِ اللَّهِ تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}، فغطَّى وَجْهَهُ ورأسَهُ، وأبرَزَ عينَهُ اليُسْرَى"، وبهذا فسَّره ابنُ سِيرِينَ وابنُ عونٍ؛ رواهُ ابنُ جريرٍ وغيره (4).
وعلى هذا كان عمل نساءِ الصحابةِ جميعًا في الصَّدْرِ الأولِ؛ كما في "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ حفصةَ بنتِ سِيرينَ، عن أُمِّ عطيَّةَ وغيرِها؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا أمَر بحضورِ النساءِ للعِيدَيْنِ، سُئِلَ: أَعَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِذَا لم يَكُنْ لَهَا جِلبَابٌ أَلَّا تَخْرُجَ؟ قَالَ: (لِتُلْبسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا، ولْتَشْهَدِ الخَبْرَ وَدَعْوَةَ المُسْلِمِينَ)(5).
وقولُه تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)} تمييزٌ بينَ حِجابِ الحرائرِ والإماءِ؛ وذلك أنَّ فُسَّاقًا في المدينةِ كانوا يُؤذُونَ الحرائرَ يظُنُّونَهُنَّ إماءً، فأمَرَهُنَّ اللَّهُ بالحِحَابِ؛ حتى يُعرَفْنَ ويَتَمَيَّزْنَ
(1)"تفسير الطبري"(19/ 181)، و"تفسير ابن أبى حاتم"(10/ 3154).
(2)
ينظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 438 - 439).
(3)
كما في "فتح الباري" لابن حجر (3/ 406).
(4)
"تفسير الطبري"(19/ 181)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(10/ 3155)، و"تفسير ابن كثير"(6/ 482).
(5)
أخرجه البخاري (334)، ومسلم (890/ 12).
بلِباسِهِنَّ عن غيرِهِنَّ؛ دفعًا للفتنةِ، ودفعًا للتعدِّي عليهِنَّ ممَّن في قَلْبِهِ مرضٌ.
وعَدَّ جماعةٌ مِن الأئمَّةِ: أنَّ آيةَ الأحزابِ نزَلتْ بعدَ آيةِ الزِّينةِ في النُّورِ في قولِه: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]؛ كابنِ جريرٍ وغيرِه؛ ويُفسِّرونَ آيةَ النورِ على إبداءِ الزينةِ الظاهرةِ، ويُفسِّرونَ آيةَ الأحزابِ على الحِجَابِ التامِّ وتغطيةِ المرأةِ وَجْهَها، فيجدُ مَن ينظُرُ في كثيرِ مِن كتُبِ التفسيرِ أنَّ كلامَ المفسِّرِ الواحدِ في آيةِ النورِ يَخْتلِفُ عن كلامِه في تفسيرِ آيةِ الأحزاب، فيُقرِّرُ هناك ما لا يُقررُه هنا؛ كابنِ جريرٍ: في النورِ يقولُ كلامًا في إبداءِ الزينةِ وظهورِ الوجهِ (1)، وهنا في الأحزابِ يأمُرُ بتغطيتِه (2)؛ لأنَّه يرى آيةَ النورِ قبلَ آيةِ الأحزابِ، فيُفسِّرُها على ما أُنزِلَتْ عليه، لا على ما استقَرَّ عليه الحُكْمُ، ومَن لَا يفهمُ هذا، الْتَبَسَ عليه كلامُ الأئمَّةِ؛ حتى أصبَحَ كلامُ كثيرِ مِن الأئمَّةِ عندَ تفسيرِ وآيةِ النورِ محلَّا للتتبُّعِ والأخذِ بالمُشتبِهِ عندَ مَن يَجْهَلُ ذلك، وقَدْ بَسَطْنَا الكلامَ على مسألةِ لباسِ المرأةِ وسترِها في كتابِ "الحِجَاب في الشَّرع والفِطْرَة"، وفي آيَةِ الزِّيَنَةِ مِن سُورةِ النُّورِ مَزِيدُ كلامٍ في هذا الكتابِ.
* * *
* قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72].
في هذه الآيةِ: عِظَمُ الأمانةِ، وخطورةُ شأنِها، وجليلُ قَدرِها وتَبِعَتِها على أصحابِها، وأعظَمُ الأمانةِ: حقُّ اللَّهِ الذي تحمَّلَهُ الإنسانُ
(1)"تفسير الطبري"(17/ 261 - 262).
(2)
"تفسير الطبري"(19/ 181).
بالعبوديَّةِ له ولامتثالِ لأمرِهِ، ثمَّ يَلِيهِ الوفاءُ بالعهدِ والمِيثَاقِ وبَذْلُ الحقوقِ التي تكونُ للناسِ.
وفي هذه الآيةِ: بيانٌ لِجَسَارة الإنسانِ بالإقدامِ على المَخاطِرِ وتجاهُلِ العواقب؛ وذلك لظُلمِه لنفسِه، وجهلِه بعاقبةِ أمرِه.
وقد تقدَّمَ الكلامُ على العهودِ والأماناتِ الواجبةِ على العِبَادِ في صدرِ سورةِ المائدةِ وغيرِها، وعندَ قولِهِ تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء: 58].
* * *