المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة المزمل سورةُ المُزَّمِّلِ سورةٌ مكيَّةٌ، ولم يُختلَفْ في ذلك (1)، - التفسير والبيان لأحكام القرآن - جـ ٤

[عبد العزيز الطريفي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الحجر

- ‌صلاةُ الكَرْبِ، وإذا حَزَبَ الأمرُ:

- ‌سورة النحل

- ‌الانتفاعُ مِن جُلُودِ المَيْتَةِ:

- ‌أنواعُ الانتفاعِ مِن الأنعامِ والدوابِّ:

- ‌لُحُومُ الخَيْلِ والحَمِرِ والبِغَالِ:

- ‌حُكْمُ الاستعاذةِ عندَ القِرَاءةِ:

- ‌صِيَغُ الاستعاذةِ:

- ‌سورة الإسراء

- ‌سورة الكهف

- ‌حُكْمُ اقتِناءِ الكَلْبِ للحِرَاسةِ وغيرِها:

- ‌مشروعيَّةُ الوَكَالةِ والنِّيَابةِ:

- ‌الصلاةُ على الجنازةِ في المَقْبَرةِ:

- ‌الاستثناءُ في اليمينِ:

- ‌سورة مريم

- ‌تسميةُ المولودِ ووقتُها:

- ‌أمرُ الأهلِ بالصلاةِ

- ‌سورة طه

- ‌العِلَّةُ مِن أمرِ موسى بخلعِ نعلَيْهِ:

- ‌الصلاةُ في النِّعَالِ، ودُخُولُ المساجدِ بها:

- ‌قضاءُ الفرائضِ الفائتةِ وترتيبُها:

- ‌هل للصَّلَاةِ الفائِتةِ أذانٌ وإقامةٌ

- ‌حُكْمُ قضاءِ النوافلِ:

- ‌استحبابُ اتِّخاذِ البِطَانةِ الصالحةِ والوزيرِ المُعِينِ:

- ‌سورة الأنبياء

- ‌الأحوالُ التي جاء الترخيصُ فيها بالكَذِبِ للمَصْلَحةِ:

- ‌سورة الحج

- ‌حُكْمُ بيعِ رِبَاعِ مَكَّةَ ودُورِها:

- ‌تفاضُلُ المَشْيِ والرُّكُوبِ في الحَجِّ:

- ‌الهَدْيُ والأُضْحِيَّةُ والأَكْلُ منها:

- ‌نقسيمُ الهَدْيِ والأُضْحِيَّةِ:

- ‌مَرَاتِبُ التمكينِ وشروطُهُ:

- ‌سورة المؤمنون

- ‌معنى الخشوعِ:

- ‌حُكْمُ الخشوعِ في الصلاةِ:

- ‌حُكْمُ الاستمناءِ:

- ‌دعاءُ نزولِ المَنْزلِ:

- ‌سورة النور

- ‌حَدُّ الزاني والزَّانِيَةِ:

- ‌فأمَّا البِكْرُ:

- ‌وأمَّا المُحْصَنُ:

- ‌حُكْمُ الجَلْدِ مع الرجمِ للمُحْصَنِ:

- ‌حُكْمُ التغريبِ:

- ‌شهودُ الجَلْدِ والرَّجْمِ:

- ‌حُكْمُ نكاحِ الزانيةِ وإنكاحِ الزاني:

- ‌القذفُ الصَّرِيحُ والكنايةُ:

- ‌قذفُ الحُرَّةِ والأَمَةِ والكافِرةِ:

- ‌شهادةُ القاذفِ بعد توبتِهِ:

- ‌سببُ نزولِ لِعانِ الزَّوْجَيْنِ:

- ‌مَرَاحِلُ قَذْف الزَّوْجِ لزوجتِهِ:

- ‌نَفْيُ الوَلَدِ باللِّعَانِ:

- ‌قَذْفُ الزوجةِ لزوجِها:

- ‌إشاعةُ الفاحشةِ وسَبَبُ عَدَمِ جعلِ الشريعةِ لها حَدًّا:

- ‌حُكْمُ الاستئذانِ عندَ دخولِ البيوتِ وصِفَتُهُ وعددُهُ:

- ‌السلامُ عندَ دخولِ البيوتِ وصفَتُهُ وعددُهُ:

- ‌الحِكمةُ مِن تقديمِ أمرِ الرِّجالِ على أمرِ النِّساءِ بغضِّ البصرِ:

- ‌لا تلازُمَ بينَ غضِّ البصرِ وسُفُورِ النساءِ:

- ‌حُكْمُ نَظَرِ الرَّجُلِ الى المرأةِ:

- ‌أنواعُ زِينَةِ المَرْأةِ:

- ‌التدرُّجُ في فَرْضِ الحِجابِ:

- ‌حُكْمُ تزويجِ الأَيَامَى:

- ‌تركُ الأسواقِ والبَيْعِ وقتَ الصلاةِ:

- ‌أمْرُ الناسِ وأهلِ الأسواقِ بالصلاةِ:

- ‌حِجابُ القواعدِ مِن النِّساءِ:

- ‌فضلُ الاجتماعِ على الطعامِ:

- ‌سورة الفرقان

- ‌هَجَرُ القرآنِ وأنواعُه:

- ‌وهجرُ القرآنِ على مَراتِبَ وأنواعٍ ثلاثةٍ:

- ‌أَدْنَى الزمنِ الذي يُشرَعُ فيه خَتْمُ القرآنِ وأَعْلاه:

- ‌نِسْيانُ القرآنِ:

- ‌النوعُ الثاني من الهجرِ: هجرُ تدبُّرِ مَعانيهِ وأحكامِه:

- ‌النوعُ الثالثُ: هجرُ العملِ بما فيه مِن أوامرَ وأحكامِ:

- ‌سورة الشعراء

- ‌انتصارُ المظلومِ مِن ظالمِه وأحوالُه:

- ‌سورة النمل

- ‌حُكْمُ الضحكِ في الصلاةِ والتبسُّمِ:

- ‌حُكْمُ تأديبِ الحيوانِ وتعذيبِه:

- ‌وِلَايةُ المرأةِ:

- ‌البَداءةُ بالبَسْمَلَةِ والفَرْق بينَها وبينَ الحَمْدَلَةِ:

- ‌حُكْمُ قَبُولِ الهديَّةِ التي يُرادُ منها صَرْفٌ عن الحقِّ:

- ‌سورة القصص

- ‌حِفْظُ الأسرارِ وإفشاؤُها:

- ‌عَرْضُ البناتِ لتزويجِهِنَّ:

- ‌سورة العنكبوت

- ‌سورة الروم

- ‌فَرَحُ المؤمنينَ بهزيمةِ أحَدِ العَدُوَّيْنِ على الآخَرِ:

- ‌رِهانُ أبي بَكْرٍ بِمَكَّةَ، والرِّهَانُ في إظهارِ الحقِّ:

- ‌أحكامُ العِوَضِ (السَّبَقِ) واشتراطُ المحلِّلِ في الرِّهانِ:

- ‌القَيْلُولَةُ في نصفِ النهارِ:

- ‌وقد ذكَر اللَّهُ القيلولةَ في مواضعَ:

- ‌إهداءُ الهديَّةِ رجاءَ الثوابِ عليها:

- ‌سورة لقمان

- ‌الغِناءُ والمَعَازِفُ والفَرْقُ بينَهما:

- ‌سورة السجدة

- ‌حُكْمُ التسبيحِ في السُّجُودِ والرُّكُوعِ:

- ‌سورة الأحزاب

- ‌أُمَّهَاتُ المؤمنينَ ومَقامُهُنَّ:

- ‌أنواعُ أفعالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌عمومُ أصلِ الخِطَابِ بالحِجَابِ وخَصُوصيَّةُ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌الصلاةُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم: معناها، وحُكْمُها:

- ‌سورة سبأ

- ‌الاستعانةُ بالجنِّ:

- ‌حُكْمُ التماثيلِ وصُوَرِ ذواتِ الأرواحِ:

- ‌سورة فاطر

- ‌سورة يس

- ‌سورة الصافات

- ‌سورة ص

- ‌سورة غافر

- ‌سورة فصلت

- ‌سورة الشورى

- ‌الشُّورَى وفضلُها وشيءٌ مِن أحكامِها:

- ‌سورة الزخرف

- ‌لُبْسُ الصبيِّ والرجُلِ للحُلِيِّ:

- ‌سورة الأحقاف

- ‌أكثَرُ الحملِ والرَّضَاعِ وأقَلُّهُ:

- ‌سورة محمد

- ‌حُكْمُ أَسْرَى المشرِكِينَ:

- ‌سورة الفتح

- ‌حُكْمُ تترُّسِ المشرِكِينَ بالمُسلِمِينَ:

- ‌سورة الحجرات

- ‌تعظيمُ أقوالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه:

- ‌الفَرْقُ بينَ البُغَاةِ والخَوَارجِ:

- ‌الكِبْرُ واحتقارُ سببٌ للفِتَنِ بينَهم:

- ‌التعويضُ عن الضررِ المعنويِّ:

- ‌الأحوالُ التي تجوزُ فيها الغِيبَةُ:

- ‌غِيبةُ الكافرِ:

- ‌سورة ق

- ‌سورة الذاريات

- ‌سورة الطور

- ‌سورة النجم

- ‌سورة القمر

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌الطهارةُ عندَ القراءةِ ومَسِّ المُصْحَفِ:

- ‌سورة الحديد

- ‌سورة المجادلة

- ‌ألفاظُ الظِّهارِ المُتَّفَقُ والمُختلَفُ فيها:

- ‌كفارةُ الظِّهارِ:

- ‌أنواعُ النَّجوَى المنهيِّ عنها:

- ‌ما يُستحَبُّ للداخِلِ إلى المَجالِسِ:

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌الإحسانُ إلى الكافرِ بالهديَّةِ وقَبولُ شفاعتِه:

- ‌إسلامُ الزوجَيْنِ أو أحدِهما:

- ‌سورة الجمعة

- ‌مَن تجبُ عليه الجُمُعةُ:

- ‌حُكْمُ الجُمُعةِ للمسافرِ:

- ‌العَدَدُ الذي تَنعقِدُ به الجُمُعةُ:

- ‌قيامُ الخطيبِ في الخُطْبةِ:

- ‌سورة الطلاق

- ‌طلاقُ السُّنَّة وطلاقُ البِدْعةِ:

- ‌السُّكْنَى للمطلَّقةِ:

- ‌السُّكْنى للمُطلَّقةِ المَبْتُوتةِ:

- ‌الإشهادُ على إرجاعِ المطلَّقةِ:

- ‌عِدَّةُ الحاملِ مِن الطلاقِ والوفاةِ:

- ‌سورة التحريم

- ‌تحريمُ الحلالِ لا يجعلُهُ حرامًا:

- ‌تحريمُ الحلالِ يمينٌ وكَفَّارتُه:

- ‌سورة القلم

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة المزمل

- ‌سورة المدثر

- ‌سورة القيامة

- ‌حُكْمُ الرُّقْيَةِ:

- ‌حُكْمُ التداوي مِن المرضِ:

- ‌سورة الإنسان

- ‌سورة عبس

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطففين

- ‌سورة الانشقاق

- ‌سورة الماعون

- ‌التلازُمُ بينَ الرِّياءِ وتأخيرِ وقتِ الصلاةِ:

- ‌تاركُ الصلاةِ وحُكْمُهُ:

- ‌حُكْمُ العاريَّةِ وحَبْسٍ ما يُعِينُ المحتاجَ:

- ‌سورة الكوثر

- ‌حُكْمُ الأُضْحِيةِ ووقتُها:

- ‌سورة النصر

- ‌سورتا المعوِّذَتَيْنِ

الفصل: ‌ ‌سورة المزمل سورةُ المُزَّمِّلِ سورةٌ مكيَّةٌ، ولم يُختلَفْ في ذلك (1)،

‌سورة المزمل

سورةُ المُزَّمِّلِ سورةٌ مكيَّةٌ، ولم يُختلَفْ في ذلك (1)، وكانتْ خطابًا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في مكةَ في بدايةِ نزولِ الوحي عليه، إلَّا قولَهُ تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} [المزمل: 20]، فقد تأخَّرَ نزولُهُ عن أولِ السُّورةِ على خلافٍ في موضعِه؛ فقيل: بمكةَ، وقيل: بالمدينةِ؛ كما قالَهُ ابنُ عبَّاسٍ (2) وعطاءٌ، وفي هذه السُّورةِ توجيهُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى العبادةِ، وصِفةُ التعامُلِ مع الوحي المنزَّلِ عليه.

* قال اللَّه تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 2 - 4].

أمَر اللَّهُ نبيَّه بقيامِ الليلِ وهو ما زال بمَكَّةَ وفي أولِ نزولِ الوحي؛ وهذا يدُلُّ على فضلِ صلاةِ الليلِ وعبادةِ الخَلَواتِ؛ فهي مِن أعظَمِ المثبِّتاتِ للعبدِ، وما مِن نبيٍّ مِن الأنبياءِ إلَّا أمَره اللَّهُ بالعبادةِ قبلَ الرِّسالةِ؛ لأنَّ الأصلاحَ يَتْبَعُهُ شِدَّةٌ، والشِّدَّةُ تحتاجُ إلى ثَباتٍ، ولا يُثبِّتُ المُصلِحَ شيءٌ كتقويةِ صِلَتِه باللَّهِ بالعبادةِ؛ ولهذا قال اللَّهُ لنبيِّه:{قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} ، ثمَّ بيَّن سببَ ذلك:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5].

(1) ينظر: "تفسير ابن عطية"(5/ 386)، و"زاد المسير"(4/ 352)، و"تفسير القرطبي"(21/ 313).

(2)

ينظر: "تفسير الماوردي"(6/ 124)، و"زاد المسير"(4/ 352)، و"تفسير القرطبي"(21/ 313)، و"الدر المنثور"(15/ 35).

ص: 2185

وصلاةُ الليلِ أفضلُ النوافلِ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ: الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ)(1)، وإنَّما فضَّل اللَّهُ نافلةَ الليلِ على بقيَّةِ النوافلِ لأمورٍ؛ أعظَمُها:

الأولُ: أنَّ الليلَ هو وقتُ نزولِ الخالقِ سبحانَهُ إلى السماءِ الدُّنيا، ويبسُطُ يدَهُ ويستجيبُ لمَن دعاهُ أسرَعَ وأعظَمَ مِن بقيَّةِ الأوقاتِ؛ كما في الصحيح، عن أبي هريرةَ، عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ قال:(يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ، فَيَقُولُ: أَنَا المَلِكُ، أَنَا المَلِكُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ فلا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُضِيءَ الْفَجْرُ)(2).

الثاني: أنَّ الليلَ محلُّ غفلةِ الناسِ وغفوتِهم، والعبادةُ فيه يخلو بها العبدُ بربِّه؛ وهذا أعظَمُ في خُلُوِّ القلبِ وتجرُّدِه وصِدْقِ لجوئِهِ إلى ربِّه، وعبادةُ الخَفَاءِ أعظَمُ مِن عبادةِ العَلَانِيَةِ، ولا يكادُ يشوبُ عبادةَ قيامِ الليلِ رِياءٌ وسُمْعةٌ كما يشوبُ عبادةَ العلانيَةِ في النهارِ.

الثالثُ: أنَّ في قيامِ الليلِ تثبيتًا للعبدِ وعونًا له مِن ربِّه أشَدَّ مِن غيرِه مِن العباداتِ؛ ولهذا جعَلَهُ اللَّهُ لنبيِّه أولَ أمرٍ في تعبُّدِه لربِّه مِن أركانِ أعمالِهِ.

وقولُه تعالى: {إِلَّا قَلِيلًا} ، فيه: أنَّه لا يُشرَعُ قيامُ الليلِ كاملًا، فلم يَشرَعْهُ اللَّهُ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم ولا لغيرِه؛ حيثُ إنَّ اللَّهَ جعَلَ الليلَ سُباتًا ومَنَامًا وسَكَنًا، وفطَرَ البشرَ على ذلك، ويُستثنى مِن ذلك ما كان اعتراضًا كالأزمِنةِ الفاضلةِ؛ كالعَشْرِ الأواخرِ مِن رمضانَ.

وفي "الصحيحَيْنِ" قصةُ النَّفَرِ الثلاثةِ الذين سألوا عن عبادةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّهم تَقَالُّوها حتى إنَّ أحدَهم قال: أنا أقومُ ولا أنامُ، فقال

(1) أخرجه مسلم (1163).

(2)

أخرجه مسلم (758).

ص: 2186

النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ. . . فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي)(1).

قولُه تعالى: {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} : السُّنَّةُ في قيامِ الليلِ: عدمُ قيامِهِ كلِّه؛ وإنَّما يقومُ بعضَه، وأفضَلُهُ آخِرُه، والسُّنَّةُ: أن ينامَ أولَهُ ويقومَ في نصفِهِ الأخيرِ قَدْرَ الثُّلُثِ منه؛ كما في "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّه قال:(أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ عليه السلام، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، ويَصُومُ يَوْمًا، وَيُفطِرُ يَوْمًا)(2).

وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم ينامُ أولَ الليلِ حتى ينتصِفَ، وقد جاء ذلك في أحاديثَ كثِيرةٍ، ومنها: ما رواهُ ابن عبَّاسٍ في مَبِيتِه عندَ خالتِه ميمونةَ، وفيه قال:"نَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ -أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيِلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ- ثُمَّ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَلَسَ، فَمَسَحَ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ العَشْرَ آيَاتٍ خَوَاتِيمَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ معَلَّقَةٍ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا، فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي"(3).

وفيهما: أنَّه كان يقومُ إذا سَمِعَ الصارخَ، كما روى مسروقٌ قال: سألتُ عائشةَ رضي الله عنها: أيُّ العملِ كان أَحَبَّ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قالتِ: الدَّائِمُ، قال: قلتْ: فأيَّ حينٍ كان يقومُ؟ قالت: "كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ"(4)، والمرادُ بذلك هو صِياحُ الدِّيكِ.

وأولُ ما يَصرُخُ الدِّيكُ نصفُ الليلِ غالبًا، وربَّما قبلَهُ بقليلٍ، وقد رَوى أحمدُ، وأبو داودَ، عن زيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنِيِّ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:

(1) أخرجه البخاري (5063)، ومسلم (1401)؛ من حديث أنسٍ رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (1131)، ومسلم (189/ 1159).

(3)

أخرجه البخاري (1198)، ومسلم (763).

(4)

أخرجه البخاري (1132)، ومسلم (741).

ص: 2187

(لَا تَسُبُّوا الدِّيكَ؛ فَاِنَّهُ يُوقِظُ لِلصَّلَاةِ)(1).

ويُستحَبُّ أنْ يكونَ الوِتْرُ آخِرَ الليلِ، وإنْ أوتَرَ أيَّ وقتٍ منه، فلا حرَجَ؛ كما رَوى مسروقٌ؛ قال: قلتُ لعائشةَ: متى كان يُوتِرُ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالتْ: "كُلَّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلَ؛ أَوْتَرَ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَوَسَطَهُ، وَآخِرَهُ، وَلَكِنِ انْتَهَى وِتْرُهُ حِينَ مَاتَ إِلَى السَّحَرِ"(2).

* * *

* قال اللَّه تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10].

أمَر اللَّهُ نبيَّه بقيام الليلِ في صَدْرِ السورةِ؛ تثبيتًا له عندَ الشدائدِ وما يَلْقاهُ مِن قومِه مِن شِدَّةٍ؛ فإنَّ أعظَمَ الحبالِ مع الخالقِ يَنسِجُها العبدُ بالعبوديَّةِ للَّهِ تُثبِّتُهُ وتُقوِّيهِ وتُنجِيهِ ويَكفِيهِ بها اللَّهُ، ثمَّ أمَرَ اللَّهُ نبيَّه بالصبرِ على ما يراهُ ويسمعُهُ ويجدُهُ منهم مِن الأذى.

وقولُه: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} : أمَر اللَّه نبيَّه بمُفارَقةِ المشرِكِينَ، والبُعْدِ عنهم، وعدمِ مقابلةِ أذاهم بمِثْلِه، وقد قال بعضُ السلفِ كقتادةَ:"إنَّ هذه الآيةَ منسوخةٌ يسورةِ براءةَ؛ حيثُ أمَر اللَّهُ بقتالِهم"(3)، ومَن كانتْ حالُه كحالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حالَ نزولِها، فحُكمُهُ كحُكْمِه، وإنَّما قال قتادةُ بالنَّسْخِ؛ لأنَّ حالَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم تغيَّرتْ، فتغيَّرَ الحُكْمُ تَبَعًا لذلك، ولم يَرفَعِ اللَّهُ حُكْمَ الهَجْرِ الجميلِ بذاتِهِ عندَ الحاجةِ إليه، وقد تقدَّم الكلامُ

(1) أخرجه أحمد (5/ 192)، وأبو داود (5101)، والنسائي في "السنن الكبرى"(10715).

(2)

أخرجه البخاري (996)، ومسلم (745)، وأبو داود (1435)؛ واللفظ له.

(3)

"تفسير الطبري"(23/ 380).

ص: 2188

على مسألةِ الهَجْر وأحوالِهِ عندَ قولِهِ تعالى: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41].

* * *

* قال اللَّه تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20].

كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم ومَنْ معه مِن أصحابِه يقومونَ تارةً ثُلُثَي الليلِ، وتارةً نِصْفَه، وتارةً ثُلُثَه؛ وذلك لمَّا أمَر اللَّهُ له ابتداءً، وقد لَقِيَ الصحابةُ مِن ذلك شِدَّةَ ومشقَّةً، فخفَّف اللَّهُ عنهم في ذلك، وجعَلَ قَدْرَ ما يقومونَهُ بحسَبِ ما تيسَّرَ لهم مِن غيرِ أمرٍ، وقد رَوَى سعدُ بن هشامٍ؛ قال: انْطَلَقْنَا إِلَى عَائِشَةَ، فَاسْتَأْذَنَّا عَلَيْهَا، فَدَخَلْنَا، قُلْتُ: أَنِبِئنِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ:"أَلَسْتَ تَقْرَأ هَذِهِ السُّورَةَ {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1]؟ "، قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ:"فَإِنَّ اللَّهَ افتَرَضَ القيامَ فِي أَوَّلِ هَذ السُّورَةِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا، حَتَّى انْتَفَحَتْ أَقدَامُهُمْ، وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا اثنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ عز وجل التَّخفِيفَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ"(1).

والتخفيفُ ظاهرٌ في الآيةِ في قولِه تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ

(1) أخرجه مسلم (746)، والنسائي في "السنن الكبرى"(11563)؛ واللفظ له.

ص: 2189

عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}، فذكَر القرآنَ؛ لأنَّه هو أطولُ ما بصلاةِ الليلِ، وتُسمَّى الصلاةُ قرآنًا؛ كما في قولِهِ تعالى:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، ويُسمَّى القرآنُ صلاة كذلك؛ كما في قولِه تعالى:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]؛ يعني: قراءتَك.

ودَلَّ على وجوبِ قيامِ الليلِ أولَ الأمرِ قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} ، والمرادُ بالإحصاءِ: الطاقةُ، ثمَّ رفَع الحرَجَ بالتوبةِ على التارِكِ.

وقد بيَّن اللَّهُ سببَ عُذْرِهِ لعِبادِهِ بذلك في قولِهِ: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ؛ وذلك لأنَّ مِن الناسِ مَنْ يكونُ مريضًا أو يحتاجُ إلى نشاطٍ في نهارِه ليتكسَّبَ ويطلُبَ الرِّزْقَ، وطولُ قيامِهِ الليلَ يُزاحِمُ نشاطَهُ في النهارِ.

وإسقاطُ اللَّهِ لنافلةِ الليلِ لا يُسقِطُ فريضةَ الصلاةِ، وحتى لا يُظَنَّ ذلك قال تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ؛ يعني: الفريضةَ.

ثمَّ رغَّب اللَّهُ في تقديمِ العملِ الصالحِ وعدمِ التكاسُلِ عنه، فهو قرضٌ يكونُ وفاؤُهُ يومَ القيامةِ بعظيمِ الأجرِ والثوابِ؛ كما قال:{وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

* * *

ص: 2190