الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويدخُلُ في حُكْمِ النجوى حديثُ الإنسانِ بلُغَةٍ لا يَفهَمُها إلَّا هو ومن يتحدَّثُ معه عندَ مَن يَسمَعُها ولا يَفهَمُ المرادَ، ويَعلَمُ تكلُّفَهُمْ بقصدِ عدمِ إفهامِه ما يقولونَ؛ كمَن يتكلَّمُ بالفارسيَّةِ والإنجليزيَّةِ عندَ مَن لا يَعرِفُ إلَّا العربيَّةَ، وهم يَعرِفونَ جميعًا الكلامَ بالعربيَّةِ مِثلَه؛ ولكنَّهم تَكلَّفُوا تَرْكَها، لعدمِ فهمِهِ لمرادِهم.
* * *
* قال اللَّهُ تعالى؛ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)} [المجادلة: 11].
هذه الآية في آدابِ المَجالِس، وفيها حثٌّ على حِفْظِ حقِّ الداخِلينَ بالجلوسِ، وفضلُ التوسعةِ لهم وإيوائِهم؛ ففي ذلك من المودَّةِ والمحَبَّةِ والرحمةِ ما يُؤلَّفُ به بين القلوبِ، وعلى هذا كان يَحرِصُ السلفُ، وقد قال سعيدُ بنُ العاصِ:"لجليسي عليَّ ثلاثُ خِصالٍ: إذا دَنَا رَحَّبْتُ به، وإذا جلَسَ وَسَّعْتُ له، وإذا حدَّث أَقْبَلْتُ عليه"(1).
ما يُستحَبُّ للداخِلِ إلى المَجالِسِ:
ويُستحَبُّ للداخِلِ أحكامٌ؛ منها: الاستئذانُ، وبَذْلُ السلامِ، على ما تقدَّم في سُورةِ النورِ وغيرِها، ومنها: أن يَجلِسَ حيثُ يَنتْهي به المَجلسُ، وهكذا كان يَفْعَلُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُهُ؛ فقد رَوَى أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ وغيرُهُم عن جابرِ بنِ سَمرَةَ؛ قال:"كُنَّا إِذَا أَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، جَلَسَ أَحَدُنَا حَيْثُ يَنْتَهِي"(2).
(1)"تاريخ دمشق"(21/ 137)، و"تهذيب الكمال"(10/ 507).
(2)
أخرجه أحمد (5/ 91)، وأبو داود (4825)، والترمذي (2725)، والنسائي في "السنن الكبرى"(5868).
وقد رَوَى الطبرانيُّ؛ مِن حديثِ شَيْبةَ بنِ عثمانَ مرفوعًا، قال:(إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى المَجْلِسِ، فَإِنْ وُسِّعَ لَهُ، فَلْيَجْلِسْ؛ وَإِلا فَلينظرْ إِلَى أَوْسَعِ مَكَانٍ يَرَى، فَلْيَجْلِسْ)(1).
ولا يقومُ بالتفريقِ بينَ اثنَيْنِ ليَجلِسَ بينَهما؛ فقد يكونُ بينَهما حديثٌ أو مودَّةٌ أو مصلحةٌ، فيَقطَعُ ذلك؛ فيَحمِلانِ في نَفْسَيْهما عليه! ففي "المسنَدِ"، و"السُّننِ"؛ من حديثِ عمرِو بن شُعَيْبٍ، عن أبيهِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:(لَا يَحِلُّ لِرَجلٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إلَّا بإذْنِهِمَا)(2).
ويُستحَبُّ للداخِلِ: ألَّا يُضيِّقَ على جالسٍ فيُزاحِمَهُ وفي المكانِ سَعةٌ، ولا أن يَجلِسَ في مَجلِسِ مَنْ قام عنه ليَجلِس مكانَه! فربَّما قام حياءً فيَجلِسُ مكانَه كِبْرًا، ما لم يَتيقَّنْ أنَّه يَفرَحُ بإجابةِ دَعْوَتِهِ لمكانِه؛ لأنَّه يُحِبُّ إكرامَهُ ويدخُلُ السرورُ عليه بذلك، ورَوَى أحمدُ وأبو داود، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي عَمْرَةَ الأنصاريِّ؛ قال: أُخبِرَ أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ بِحِنَازةٍ، فَعَادَ تَخَلَّفَ حَتَّى إِذَا أَخَذَ النَّاسُ مَجَالِسَهُمْ، ثمَّ جَاءَ، فَلَمَّا رَآهُ الْقَوْمُ، تَشَذَّبُوا عَنْهُ، فَقَامَ بَعضُهمْ لِيَجْلِسَ فِي مَجْلِسِهِ، فَقَالَ: لَا؛ إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ خَيْرَ المَجَالِسِ أَوْسَعُهَا)، ثُمَّ تَنَحَّى وَجَلَس فِي مَجلسٍ وَاسِعٍ (3).
وأمَّا إقامةُ أحدٍ للجلوسِ مكانَهُ، فهذا لا يجوزُ بصريح السُّنَّة؛ فقد صحَّ عن ابنِ عمرَ؛ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:(لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَقْعَدِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ؛ وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا)(4).
وإنْ قام مِن مَجلسِه قريبًا، فعاد إليه، فهو أحَقُّ به، ما لم يكنْ ذلك من المَجالسِ العامَّةِ والمَرَافِقِ والمَيَادِينِ، التي لا يتوطَّنُ الإنسانُ فيها
(1) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(7197).
(2)
أخرجه أحمد (2/ 213)، وأبو داود (4845)، والترمذي (2752).
(3)
أخرجه أحمد (3/ 18)، وأبو داود (4820).
(4)
أخرجه البخاري (6269)، ومسلم (2177).
موضعًا خاصًّا، وقد رَوَى مسلمٌ، عن أبي هريرةَ؛ أنَّ رسولَ اللَّهِ قَالَ:(إِذَا قَامَ أحَدُكُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ)(1).
ومِن السلفِ: مَن حمَلَ الآيةَ على صفوفِ الجهادِ ومَجالسِها، فحمَلَ التفسُّحَ على النَّفيرِ في قولِه:{تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} ، ويُروى هذا عن ابنِ عبَّاسٍ وغيرِه (2).
وقولُه تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} ؛ يعني؛ الإجابةَ لكلِّ داعٍ يدعو إلى خيرٍ وهدًى، فيجبُ أن يُجابَ.
* * *
لمَّا أكثَرَ الناسُ المسائِلَ على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وأثقلُوا عليه في الجليلِ والدقيقِ، أراد اللَّه أن يُخفِّفَ عن نبيِّه صلى الله عليه وسلم ذلك، فأمَر مَنْ أراد أن يَسألَ نبيَّه أن يُقدِّمَ بينَ يَدَيْ نَجْوَاهُ صدقةً لفقراءِ المُسلِمِينَ يُنفِقُها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عليهم؛ لأنَّه لا تَحِلُّ له الصدقةُ ولا لآلِه، ولم تُقدَّرِ الصدقةُ بقَدْرٍ معيَّنٍ؛ وإنَّما بما يَقدِرُ عليه السائلُ ثمَّ لمَّا شَقَّ عليهم ذلك، نسَخَهُ اللَّه بقولِه:{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} ، وقد تحقَّقَ المراد بنزولِ هذه الآيةِ ولو نُسِخَتْ، فأدرَكَ الناسُ إثقالَهُمْ على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بما أنزَلَ اللَّه في ذلك ونسَخَهُ.
(1) أخرجه مسلم (2179).
(2)
"تفسير الطبري"(22/ 478)، و"تفسير ابن كثير"(8/ 48).