الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والثابتُ عن الصحابةِ جوازُ ذلك؛ فقد جاء عن عُمَرَ مِن وجهَيْنِ: الجُمُعةُ لا تَمْنَعُ مِن سَفَرٍ (1).
وهو عنه صحيحٌ.
ومِثلُ هذا الحُكْمِ لا يَخفى على عُمَرَ؛ فهي مسألةٌ ظاهرةٌ يُبتلَى بها ويحتاجُ إليها الناسُ، وما تَعُمُّ به البَلْوَى لا يَخفى على مِثْلِ الخُلَفاء، فعملُهم وقولُهم أصلٌ في هذه الأبوابِ حُكْمًا، وله أثرٌ في إعلالِ ما يُروى مرفوعًا.
ولا يصحُّ في النهي عن السفرِ يوم الجُمُعةِ حديثٌ؛ قبلَ أذانِ صلاةِ الجمعةِ ولا بعدَ الجمعةِ.
وقد رَوى أبو داودَ في "المراسيلِ"، عن الزُّهريِّ أنَّه أراد أن يُسافرَ يومَ الجُمُعة ضَحْوةً، فقيل له في ذلك، فقال: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سافَرَ يومَ الجُمعةِ (2).
وهذا الذي عليه جمهور العلماءِ.
العَدَدُ الذي تَنعقِدُ به الجُمُعةُ:
ولا يثبُتُ عددٌ محدَّدٌ في أهلِ قريةٍ حتى تجبَ الجُمُعةُ عليهم؛ فكلُّ جماعةٍ في قريةٍ يجبُ عليهم صلاةُ الجُمُعةِ، والأحاديثُ الواردةُ في حدٍّ مُلزِمٍ للوجوبِ لا يصحُّ منها شيءٌ، وقد روى الدارقطنيُّ، وغيرُهُ عن جابرٍ مرفوعًا:(مَضَتِ السُّنَّة: أَنَّ فِي كُلِّ ثَلَاثَةٍ إِمَامًا، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ جُمُعَةً، وَأَضْحَى، وَفِطْرًا؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَمَاعَةٌ)(3)، ولا يصحُّ، ورَوى
(1) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(5536)، وابن أبي شيبة في "مصنفه"(5106).
(2)
أخرجه أبو داود في "المراسيل"(310)، وابن أبي شيبة في "مصنفه"(5113).
(3)
أخرجه الدارقطني في "مصنفه"(3/ 3)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 177).
الطبرانيُّ تحديدَها بخَمْسِينَ مِن حديثِ أبي أُمامةَ (1)، ولا يصحُّ، ورَوَى ابنُ عديٍّ تحديدَها بثلاثةٍ مِن حديثِ أمِّ عبدِ اللَّهِ الدَّوْسِيَّةِ (2)، ولا يصحُّ.
ومَن نظَر في السُّنَّة وتأمَّلَ الأثرَ عن الأصحابِ، وجَد أنَّه لا يصحُّ في تعيينِ عددٍ للجُمُعةِ حديثٌ، ولم يكنِ الصحابةُ يُقيِّدونَها به مع الحاجةِ إلى الحُكْمِ وأهميَّتِهِ لأهلِ القُرَى والأمصارِ؛ فأمرُهُ ممَّا تتعلَّقُ به صحةُ الصلاةِ وفسادُها، ولمَّا لم يَرِدْ مِن وجهٍ قويٍّ، وليس فيه شيءٌ مِن أقوالِ الصحابةِ وبيانِهم وتشديدِهم فيه، دلَّ على نُكْرانِ الواردِ فيه ممَّا حمَله بعضُ الضُّعَفاءِ والمتروكينَ، وتعدُّدُ مَخارجِها لا يُقوِّيها.
وفي البابِ: ما يُعارِضُها مِن السُّنَّة المرفوعةِ؛ وهو حديثُ جابرٍ في خروجِ الصحابةِ للتجارةِ والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطُبُ، فبَقِيَ عندَهُ اثنا عشَرَ رجلًا، والحديثُ في "الصحيحَيْنِ"(3).
وأمَّا ما رواهُ أحمدُ والترمذيُّ، مِن حديثِ عبدِ الرحمنِ بنِ عبدِ اللَّهِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ؛ أنَّه قال: جَمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ أَرْبَعُونَ، فَكُنْتُ فِي آخِرِ مَنْ أَتَاهُ، قَالَ. "إِنَّكُمْ مَنْصُورُونَ، وَمُصِيبُونَ، وَمَفْتُوحٌ لَكُمْ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ، وَلْيَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ، وَلْيَنْهَ عنِ المُنْكَرِ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) (4).
فليس صريحًا أنَّ الجَمْعَ لصلاةِ الجُمُعةِ، وليس فيه استحبابُ العددِ ولا اشتراطُه؛ وإنَّما إخبارٌ عنه.
وقد تكلَّم بعضُ الحُفَّاظِ في سماعِ عبدِ الرحمنِ مِن أبيه ابنِ مسعودٍ.
(1) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(7952).
(2)
أخرجه ابن عدي في "الكامل"(2/ 204)، والدارقطني في "سننه"(2/ 9)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 179).
(3)
أخرجه البخاري (936)، ومسلم (863).
(4)
أخرجه أحمد (1/ 436)، والترمذي (2257).
ومِثلُهُ ما رواهُ أبو داودَ وابنُ ماجَهْ؛ مِن حديثِ محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ أبي أُمامةَ بنِ سهلٍ، عن أبيهِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ كعبِ بنِ مالكٍ، وَكَانَ قَائِدَ أَبِيهِ بَعْدَمَا ذَهَبَ بَصَرُهُ، عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ؛ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، تَرَحَّمَ لِأَسْعَدَ بنِ زُرَارَةَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ، تَرَحَّمْتَ لِأَسْعَدَ بنِ زُرَارَةَ؟ قَالَ:"لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِنَا فِي هَزمِ النَّبِيتِ مِنْ حَرَّةِ بنِي بَيَاضَةَ فِي نَقِيعٍ يُقَالُ لَهُ: نَقِيعُ الْخَضِمَاتِ"، قُلْتُ: كَمْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "أَرْبَعُونَ"(1).
فإنَّما هو إخبارٌ عن الحالِ، لا بيانٌ للحُكمِ ولا التشريعِ.
ومحمدُ بنُ إسحاقَ تفرَّدَ به عن محمدِ بنِ أبي أُمامةَ، وهو صدوقٌ صرَّح بسماعِهِ عندَ الدارقطنيِّ وغيرِه (2)، ويَمِيلُ أحمدُ إلى ثبوتِ هذا الحديثِ (3).
قولُه تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} : لا يجوزُ البيعُ بعدَ أذانِ الجُمُعةِ وقعودِ الخطيبِ، ولا خلافَ في ذلك، وإنَّما الخلافُ في بُطْلانِ البيعِ وصِحَّتِه.
وقد كان السلفُ يَزجُرونَ مَن يَبِيعُ بعدَ أذانِ خُطْبةِ الجُمُعةِ، بل منهم مَن يُعزِّرُه، وقد ذكَر سُحْنون في "نوازلِهِ" أنَّ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ يأمُرُ إذا فُرغَ مِن صلاةِ الجُمُعةِ مَن يخرُجُ، فمَن وجَدَ لم يحضُرِ الجُمُعةَ، ربَطَهُ بعُمُدِ المسجدِ (4).
(1) أخرجه أبو داود (1069)، وابن ماجه (1082).
(2)
ينظر: "صحيح ابن خزيمة"(1724)، و"صحيح ابن حبان"(7013)، و"المعجم الكبير للطبراني"(900)، و"سنن الدارقطني"(2/ 5)، و"المستدرك" للحاكم (1/ 281).
(3)
ينظر "العلل ومعرفة الرجال" لأحمد، رواية ابنه عبد اللَّه (2/ 520)، و"مسائل الإمام أحمد"، رواية ابنه عبد اللَّه (ص 120).
(4)
ينظر: "البيان والتحصيل"(17/ 158).