الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذِكرُ اللَّهِ تعالى للخيلِ والبِغَالِ والحَمِيرِ وتخصيصُها بالركوبِ: دليلٌ على أنَّ السابقَ منِ الأنعامِ لا يُركَبُ، وهي الغنمُ والبقرُ، وأمَّا الإبلُ، فتُركَبُ وتَحمِلُ الأثقالَ بلا خلافٍ، وإنَّما لم يَذكُرْها اللَّهُ تعالى فيما يُركَبُ؛ لأنَّ النِّعْمةَ فيها بما تشرِكُ فيه مع غيرِ المركوبِ أظهَرُ، وهي استعمالُ الجلودِ والصُّوفِ وحملُ الأثقالِ؛ فهو أكثرُ مِن الانتفاعِ مِن رُكوبِها، وأمَّا الخيلُ والبغالُ والحميرُ، فيُنتفَعُ منها بالركوبِ أكثَرَ.
لُحُومُ الخَيْلِ والحَمِرِ والبِغَالِ:
وقد استدَلَّ بعضُ الفقهاءِ بقولِهِ وتعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} على عدمِ جوازِ أكلِ لحومِ الخبلِ والبغالِ والحميرِ، ولا الانتفاعِ بجلودِها، وهذه الآيةُ ليستْ صريحةً في ذلك؛ لأنَّ ذِكْرَها في سياقِ الركوبِ هو كذِكْرِ الجَمَالِ في سياقِ حَمْلِ الأثقالِ: لا يعني أنَّه لا يجوزُ ركوبُها.
وقد اختلَفَ العلماءُ في لحومِ الخَيْلِ على قولَيْنِ:
وأكثرُ العلماءِ: على حِلِّ لحومِها.
خلافًا لأبي حنيفةَ وقولٍ لمالكٍ؛ فقد كرِهها، والمعتمَدُ في مذهبِه تحريمُها.
والصوابُ: حِلُّها؛ فقد أكَلَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُهُ؛ كما في "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رضي الله عنهما قالتْ: "نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا، فَأَكَلْنَاهُ"(1).
وقد رَوى الدارقطنيُّ؛ مِن حديثِ جابرٍ رضي الله عنه؛ قال: "سافَرْنا مَعَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فكنَّا نأكُلُ لحومَ الخَيلِ ونَشْرَبُ أَلْبَانَها"(2).
(1) أخرجه البخاري (5510)، ومسلم (1942).
(2)
أخرجه الدارقطني في "سننه"(4/ 288).
وقد استدَلَّ مَن قال بكراهةِ أكلِ لحومِها بدليلِ الخِطابِ في الآيةِ؛ حيثُ ذكَرَها اللَّهُ للركوبِ ولم يَذكُرْها للأكلِ، واللامُ في قولِهِ:{لِتَرْكَبُوهَا} للتعليلِ، فذكَر اللَّهُ عِلَّةَ خَلْقِهِ لها، والعِلةُ المنصوصةُ تُفيدُ الحصرَ.
وهذا الإطلاقُ فيه نظرٌ؛ وذلك لو صحَّ، لكان مانعًا مِن ركوبِ الإبلِ؛ فاللَّهُ ذكَرَها في الأكلِ والدِّفْءِ وحَمْلِ الأثقالِ، ولم يَذكُرْها في الركوبِ، وإنَّما المرادُ: أنَّ اللَّهَ يذكُرُ أظهَرَ النِّعَمِ في البهائم، وليس في ذلك حصرُها، ولو كانتِ الآيةً حاصرةً، لامتنَعَ لذلك جوازُ حَرْثِ الأرضِ بالبقرِ وغيرِه.
وأمَّا الاستدلالُ بحديثِ خالدِ بنِ الوليدِ؛ أنَّه قال: "نَهَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ، وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ"، فقد رواهُ أبو داودَ (1) وغيرُهُ، ولا يصحُّ؛ أعَلَّه البخاريُّ وغيرُهُ (2).
ثمَّ إنَّ سورةَ النحلِ مكيَّةٌ بلا خلافٍ، وأحاديثُ إباحةِ لحومِ الخيلِ مدنيَّةٌ بلا خلافٍ، ثمَّ إنَّ الآياتِ المكيَّةَ يُرادُ منها ذِكْرُ وجوهِ الاعتبارِ وحِكَمِ اللَّهِ في خَلْقِه، وليس المرادُ بذلك تفاصيلَ التشريعِ وحدودَه؛ فذلك إنَّما يَكونُ في السُّوَرِ المدنيَّةِ، والمكيُّ بَغلِبُ فيه الاعتبارُ لا التشريعُ.
وعامَّةُ السلفِ على حِلِّ لحومِ الخيلِ، إلَّا ما رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ، وقد جاء حِلُّ أكلِها عن جماعةٍ؛ كعبدِ اللَّهِ بنِ الزُّبَيْرِ، وفَضَالَةَ بنِ عُبَيْدٍ، وأنسِ بنِ مالكٍ، وأسماءَ بنتِ أبي بكرٍ، وبه قال كبارُ التابعينَ: سُوَيْدُ بنُ غَفَلَةَ، وعَلْقمةُ، والأسْوَدُ، وعطاءٌ، وشُرَيْحٌ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، والحسنُ البصريُّ.
(1) أخرجه أبو داود (3790)، والنسائي (4332)، وابن ماجه (3198).
(2)
"شرح النووي على مسلم"(13/ 96).
وأمَّا الحميرُ، فالحميرُ على نوعَيْنِ: أهليَّةٌ ووحشيَّةٌ، والمقصودُ في الآيةِ الحُمُرُ الإنسيَّةُ؛ لأنَّ الوحشَّةَ لا تُركَبُ؛ لأنَّها تَنفِرُ مِن الناسِ، واللَّهُ ذكَرَ في الآيةِ نعمةَ الركوبِ، والحُمُرُ الأهليَّةُ يحرُمُ أكلُها، وقد حَكَى الإجماعَ على ذلك بعضُهم؛ كابنِ عبدِ البَرِّ (1)، وغيرِه، وقد ثبَتَ في "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ رضي الله عنهما؛ قال:"نهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ"(2).
ومِثلُه عندَهما مِن حديثِ أبي ثَعْلَبةَ (3).
وعلى ذلك عملُ الصحابةِ في تحريمِ أكلِ لحومِ الحُمُرِ الأهليَّةِ؛ كما قال أحمدُ: "خمسةَ عشَرَ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كرِهوها"(4).
وأمَّا حمارُ الوحشىِ، فحلالٌ أكلُهُ، وقد أكَلَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، كما في "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ أبي قَتَادَةَ رضي الله عنه؛ أنَّه صادَ حمارًا وحشيًّا وأتى بقطعةٍ منه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأكَلَ منه، وقال لأصحابِهِ صلى الله عليه وسلم:(هُوَ حلَالٌ؛ فكُلُوهُ)(5).
وأمَّا حمارُ الوحشِ الذي يَسَتأهِلُ، فيَبقى على أصلِهِ في حِلِّه، وحمارُ الأهلِ إذا توحَّشَ يَبقى على أصلِه في تحريمِه؛ كما قال الشافعيُّ؛ لأنَّ خُلُقَ الحُمُرِ الأهليَّةِ يُبابِنُ خُلُقَ الحُمُرِ الوحشيَّةِ مُبايَنَةَ يَعرِفُها أهلُ الخِبْرةِ بها.
وأمَّا البِغالُ: فهي ما تولَّدَ من أصلَيْنِ محرَّمٍ ومباحٍ، أو مِن مباحَيْنِ، فإنْ تولَّدَ مِن مباحَيْنِ؛ كأنْ تكونَ أمُّهُ فرسًا وأبوه حمارَ وَحْشٍ، فهو
(1)"التمهيد"(10/ 123).
(2)
أخرجه البخاري (4219)، ومسلم (1941).
(3)
أخرجه البخاري (5527)، ومسلم (1936).
(4)
"المغني"(13/ 317).
(5)
أخرجه البخاري (1823)، ومسلم (1196).
مباحٌ، لأنَّ أصلَيْهِ مباحانِ، وأمَّا إنْ تولَّدَ مِن أصلَيْنِ أحدُهما مباحٌ والآخَرُ محرَّمٌ؛ كالحمارِ الأهليِّ والفرسِ، فقد حكَى الاتِّفاقَ غيرُ واحدٍ على تحريمِ أكلِه، وقد رَوَى أبو داودَ؛ مِن حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ رضي الله عنهما؛ قال:"ذَبَحْنَا يَوْمَ خَيْبَرَ الْخَيْلَ، وَالْبِغَالَ، وَالْحَمِيرَ، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ البِغَالِ وَالْحَمِيِرِ، وَلَمْ يَنْهَنَا عَنِ الْخَيْلِ"(1).
وقد سُئِلَ قتادةُ عن البغالِ؟ فقال: وهل هي إلَّا حمارٌ؟ (2).
وعلى هذا عامَّة السلفِ، وعن مالكٍ قولانِ: الكراهةُ المغلَّظةُ، والتحريمُ، ومحقِّقو أصحابِهِ يقولونَ بالتحريمِ.
وقد اختلَفَ الفقهاءُ في الحيوانِ المتولِّدِ مِن أصلَيْنِ محرَّمٍ ومباحٍ كالغلِ:
فمنهم: مَن يغلِّبُ التحريمَ مطلقًا؛ وهم الجمهورُ.
ومنهم: مَن يجعلُهُ يَتْبَعُ أُمَّه مطلقًا؛ وهو قولُ أهلِ الرأي مِن الحنفيَّةِ، ويختلفُ قولُهم بحسَب خِلافِهم في الأمِّ؛ فالبغلُ الذي أمُّه أَتَانٌ يحرُمُ أكلُ لحمِه؛ لأنَّه تَبَعٌ لأمِّه، والذي أمُّه فرسٌ فيَختلِفونَ فيه على خلافِهم في أكلِ الخيلِ؛ فهو مكروهٌ عندَ أبي حنيفةَ، ومباحٌ عندَ صاحبَيْهِ أبي يوسُفَ ومحمدِ بنِ الحسَنِ.
والأظهَر: أنَّه يغلِبُ عليه التحريمُ؛ وهذا عامٌّ في كلِّ مَن كان منه التولُّدُ مِن أصلَيْنِ مختلفَيْن مِثلُ السِّمْعِ الذي يكونُ متولِّدَا بَيْنَ الذِّئْبِ وَالضَّبُعِ، والعِسْبَارِ المتولِّدِ بينَ الضِّبْعَانِ والذِّئْبةِ.
* * *
(1) أخرجه أحمد (3/ 356)، وأبو داود (3789).
(2)
"المغني"(13/ 319).
* قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)} [النحل: 14].
تقدَّم الكلامُ على صيدِ البحرِ ومَيْتَتِهِ عندَ قولِهِ تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173]، وقولِهِ تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)} [المائدة: 96].
وفي الآيةِ: دليلٌ على حِلِّ حِلْيَةِ البحرِ وطهارةِ عَيْنِها، والإطلاقُ في قولِه:{حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} دليلٌ على جوازِ حِلْيَةِ البحرِ للرِّجَالِ والنِّسَاءِ، إلَّا أنَّه لمَّا كان التحلِّي مِن عادةِ النِّسَاءِ، غلَبَ عليهنَّ؛ كما قال تعالى:{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف: 18]، والمرادُ المرأةُ، ولكنْ لو تحلَّى الرجُلُ بحِلْيةِ البحرِ بالتختُّمِ بخاتَم اللؤلؤِ وغيرِه مِن الجواهرِ، جازَ ذلك بلا مُشابَهةٍ لصِفَةِ لُبْسِ النِّساءِ، وإنَّما ذكَرَ اللَّهُ اللُّبسَ ولم يخصِّصْ رجالًا ولا نساءً؛ لأنَّ حِلْيةَ البحرِ ليستْ ذهبًا ولا فِضَّةً ولا حريرًا؛ وهي محرَّمةٌ على الرِّجالِ بلا خلافٍ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:(إنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي)(1).
ويُستثنى مِن ذلك تحليةُ السيفِ؛ باعتبارِ أنَّها ليستْ ملبوسةً؛ بل مستعمَلةً وكلُّ ما يَستعملُهُ الرجُلُ مِن الذهبِ والفضةِ ولا يكونُ مبوسًا كالقلمِ والدَّوَاةِ والمِفْتاحِ، فالأصلُ فيه الحِلُّ، والأرجحُ حِلُّ استعمالِ الذهبِ والفضةِ مِن ذلك للرِّجالِ.
(1) أخرجه أحمد (1/ 115)، وأبو داود (4057)، والنسائي (5144) وابن ماجه (3595).
ويحرُمُ على الرِّجالِ والنِّساءِ الأكلُ في صحائفِ الذَّهَب والفِضَّةِ، والأكلُ في آنيتِهما؛ سواءٌ كانتِ الأواني والصحائفُ مِن ذهبٍ خالصٍ أو مَطليَّةً بالذهبِ؛ فالحُكْمُ لِما ظهَرَ منها.
ولس في الحليِّ المستعملِ والمُعَارِ زكاةٌ؛ كما تقدَّمَ بيانُهُ عندَ قولِهِ تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)} [التوبة: 34].
وتقدَّمَ الكلامُ على ركوبِ البحرِ وأحوالِه، وحُكْمِ الغزو فيه وفضلِه، عندَ قولِهِ تعالى:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس: 22].
* * *
* قال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)} [النحل: 66].
في هذه الآيةِ: حِلُّ الألبانِ مِن بهيمةِ الأنعام، وما أحَلَّ اللَّهُ لحمَهُ فإنَّ لبنَةُ حلالٌ؛ وذلك لأنَّ اللحمَ أصلٌ واللبنَ فرعٌ، وضرر اللحومِ أشَدُّ مِن ضررِ الألبانِ؛ وذلك لأنَّ اللبنَ يتحوَّلُ مِن طعامٍ تحوُّلًا خفيفًا، بخلافِ اللحمِ؛ فإنَّ طعامَ البهيمة يتحوَّل إلى لحم في بَدَنِها في وقتٍ أطوَلَ مِن اللبنِ، فما حَلَّ لحمُهاِ مِن البهائمِ، فإنَّ لبنَها حلالٌ مِن بابِ أَولى كالخيلِ، وما حَرُمَ لحمُها، فلبنُها حرامٌ؛ كلبنِ الحمارِ.
وأمَّا الاستدلالُ بالقرينةِ على أنَّ اللَّهَ ذكرَ الأنعامَ، وهي البهائمُ مِن الغنمِ والبقرِ والإبلِ، فذلك دليلُ خِطَابٍ على تحريمِ لَبَنِ غيرِها:
ففي هذا نظرٌ؛ لأنَّ الآيةَ مكيَّةٌ، ولم تأتِ لبيانِ محرَّماتِ الأطعمةِ؛
وإنَّما جاءتْ في سياقِ الاعتبارِ وذِكْرِ مِنَنِ اللَّهِ ونِعَمِهِ على عباده الموجِبةِ لِشُكْرِهِ وتوحيدِه.
وكلامُ أئمَّةِ المذاهبِ الأربعةِ مُشعِرٌ بتحريمِ لبنِ الحميرِ، وفي كلام الحنفيَّةِ والشافعيَّةِ وجهانِ، والصحيحُ المنعُ، وهذا الذي صوَّبَهُ النوويُّ وابنُ الهُمَامِ.
ورُوِيَ عن بعضِ السلفِ؛ كعطاء والزُّهْريِّ وطاوسٍ: جوازُ التداوِي بلَبنِ الأَتَانِ، والأظهَرُ منعُهُ؛ فما حَرُمَ أكلُهُ وشربُهُ لا يَحِلُّ التداوِي به.
وما يحرمُ أكلُ لحمِهِ يحرُمُ أكلُ وشربُ شيءٍ منه، وذلك كبَيْضِ ما حَرُمَ مِن الطيورِ، فهو حرامٌ كذلك؛ لحُرْمةِ أصلِهِ.
* * *
* قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75].
في هذه الآيةِ: سَلْبُ قدرةِ المملوكِ، وأنَّه لا يَملِكُ شيئًا، ولكنَّ العلماءَ يتَّفقونَ على أنَّ العبدَ يملِكُ بُضْعَ زوجتِهِ، ويتَّفِقُونَ على أنَّه لا يَملِكُ بالميراثِ، وأنَّه لا يَملِكُ إلَّا ما ملَّكَهُ سيِّدُه؛ كما حكَى الاتِّفاقَ الماورديُّ (1) مِن الشافعيَّةِ وغيرُه.
وقد اختلَفَ العلماءُ في العبدِ فيما إذا وقَعَ في يدِهِ شيءٌ مِن المالِ ملَّكَه له سيِّدُه: هل له تمامُ التصرُّفِ فيه ببيعٍ وشراءٍ أو لا؟ على قولَيْنِ، هما قولانِ عن الشافعيِّ:
قال مالكٌ: إنَّ العبدَ يَملِكُ المالَ بتمليكِ سيِّدِه؛ حتى يجوزُ له أن يَشترِيَ ويتصرَّفَ في المالِ كيف يشاءُ؛ وهذا قولُ الشافعيِّ القديمُ.
(1)"الحاوي الكبير"(5/ 265).
وأمَّا الجديدُ: فإنَّه يقولُ بأنَّه لا يَملِكُ التصرُّفَ فيما ملَّكَهُ سيِّدُهُ؛ لا ببيعٍ ولا شراءٍ، إلَّا بإذنِ سيِّدِهِ؛ وهذا قولُ أبي حنيفةَ.
* * *
قدَّمَ اللَّهُ الانتفاعَ باللِّباسِ كما سبَقَ على الانتفاعِ بصناعةِ البيوتِ مِن جلودِ الأنعامِ وشعَرِها؛ لأنَّ سَتْرَ البدَنِ أولى مِن الاستظلالِ بالبيوتِ، ولو خُيِّرَ الإنسانُ بينَ لِبَاسٍ يستُرُ بدَنَهُ بلا دارٍ، أو دارٍ تُؤْوِيهِ عاريًا، لاختارَ ما يستُرُ بدَنَه، لأنَّه لا يستطيعُ الانتفاعَ والضَّرْبَ في الأرضِ مع التعرِّي، وهذا يدُلُّ على عَظَمةِ سَترِ الأبدانِ ونِعْمةِ اللَّهِ فيها، وكلا السَّتْريْنِ نعمةٌ: سَتْرُ البدنِ باللِّباسِ، وسَترُ الأشخاصِ بالبيوتِ والسَّكَنِ فيها؛ ولكنَّ النِّعَمَ مَراتبُ.
* * *
* قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90].
قرَنَ اللَّهُ العدلَ والإحسانَ وإيتاءَ ذي القُرْبى بالنَّهْي عن الفاحشةِ والبغي؛ لأنَّه إذا حضَرَ العدلُ، غابَ البغيُ والفواحشُ، وهناك تلازُمٌ بينَ صِلَةِ الرَّحِمِ والإفسادِ في الأرصِ؛ أنَّ النفوسَ بينَها صِلَةٌ ومجبولةٌ على الحياءِ بعضِها مِن بعضٍ، فيَحتشِمونَ ويتهيَّبونَ مِن قومِهم، وإنْ أحَبَّ
السُّوءَ، ترَكَهُ لأجلِ أهلِهِ وقومِه، فإذا تقطَّعَتِ الأرحامُ، ظهَرَ الفسادُ؛ كما قال تعالى:{أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22].
وقد تقدَّم الكلامُ على القَرَابةِ وفضلِ صِلَةِ الرحِمِ ومَرَاتبِهم في أوَّلِ سورةِ النِّساءِ، وتقدَّم الكلامُ على قَرَابهِ العمِّ والخالِ وتفاضُلِهما عندَ قولِهِ تعالى:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)} [الأنعام: 84]، وتقدَّم كلامٌ على فضلِ الإحسانِ إلى القَرَابةِ بالصَّدَقةِ والهَدِيَّةِ وقضاءِ الحاجة في مَوَاضِعَ.
* * *
* قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)} [النحل: 91].
أمَرَ اللَّهُ بالوفاءِ بالعهدِ وأداءِ الأماناتِ، ونَهَى عن نَقْضِ الأيمانِ، وأوجَبَ مراقَبةَ اللَّهِ واستحضارَ عَظَمَتِهِ؛ لأنَّه هو الذي عَظَّمَها، وقد تقدَّم الكلامُ في صدرِ سورةِ المائدةِ على العهودِ والمواثيقِ.
* * *
تقدَّم الكلامُ مفصَّلًا عن كفَّارةِ الأيْمانِ، وحُكْمِ اليمينِ الغَمُوسِ،