الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأفضلُ الإطعامِ أن يكونَ للأشدِّ فقرًا؛ كما قال تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} ، والبائسُ: المُضطرُّ الذي طهَرَ بؤسُةُ مع فقرِه، وهو قدرٌ زائدٌ عن مجرَّدِ الفقرِ.
ويُستحَبُّ الأكلُ مِن الهَدْيِ كلِّه واجبِهِ ومستحَبِّهِ عندَ عامَّةِ السلفِ وجماهيرِ العلماءِ.
خلافًا للشافعيِّ؛ فقد ذهَبَ الى أنَّه لا يأكُلُ المُهدِي مِن لحمِ هَدْيِهِ الواجبِ؛ لأنَّه هَدْيٌ وجَبَ بالإحرامِ، فلم يَجُزِ الأكلُ منه؛ كدَمِ الكَفَّارةِ، وأجاز الأكلَ مِن هَدْيِ التطوُّع فقطْ.
وهذا يُخالِفُ ما ثبَتَ في السُّنَّةِ، فلم يُفرِّقِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بينَ الهَدْيِ الواجبِ والمستحَبِّ، ولا علَّمَ أصحابَهُ ذلك مع كثرةِ هَدْيِهم ودخولِ بعضِهِ في بعضٍ.
ولا يأكُلُ المُهدِي مِن جزاءِ صيدِهِ وفِدْيةِ أَذَاهُ.
وذهَبَ بعضُهم: إلى وجوبِ الأكلِ مِن الهَدْيِ والأُضْحِيَّةِ؛ لظاهرِ الأمرِ في الآيةِ، وهو قولٌ لأحمدَ.
والأظهَرُ: الاستحبابُ؛ لأنَّ اللَّهَ إنَّما أمَر بذلك؛ لأنَّ العربَ كانتْ تعتقِدُ حُرْمةَ الأكلِ مِن هَدْيِهم، فجاء الأمرُ رافعًا لِما توهَّموهُ مِن حظرٍ، لا موجِبًا لحُكْم، وفرقٌ بينَ أمرٍ جاء عندَ استواءِ الأمرَيْنِ بينَ حظرٍ وإباحةٍ، وبينَ أمرٍ جاء بعدَ حظرٍ، فالأمرُ وحدَهُ بعدَ الحظرِ لا يُفيدُ الوجوبَ إلَّا بغيرِهِ مِن عملٍ وقرينةٍ أُخرى.
نقسيمُ الهَدْيِ والأُضْحِيَّةِ:
وأخَذ بعضُ الفقهاءِ منِ قولِ اللَّهِ تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} نقسيمَ الهَدْيِ والأُضْحِيَّةِ إلى نِصْفَيْن: نصفٌ يَطعَمُهُ صاحبُ الهَدْيِ وأهلُ بيتِه، ونصفٌ للفقراءِ.
وذهَبَ جماعةٌ: إلى أنَّه يُقسَّمُ ثلاثةَ أقسامٍ؛ أخذًا مِن قولِهِ تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]؛ وبه قال ابنُ مسعودٍ وابنُ عمرَ، وإليه ذهَب أحمدُ والشافعيُّ.
والتقسيمُ ثلاثًا أصَحُّ، ولم يصحَّ عن أحدٍ مِن الصحابةِ تقسيمُ الهَدْيِ إلى نِصْفَيْنِ.
وقد روى نافعٌ، عن ابنِ عمرَ؛ قال:"الضَّحَايَا والهدايَا ثُلُثٌ لِأَهْلِك، وثُلُثٌ لك، وثُلُثٌ للمساكينِ"؛ رواهُ ابنُ حزمٍ (1).
وروى ابنُ أبي شَيْبةَ والطبراني، عن علقمة، عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه:"كَانَ يَبْعَثْ بِالْبُدْنِ مَعَ عَلْقَمَةَ، وَلَا يُمْسِكُ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ المُحْرِمُ، ثُمَّ يَأْمُرُهُ إِذَا بَلَغتْ مَحِلَّهَا أنْ يَتَصَدَّقَ ثُلُثًا، وَيَأْكُلَ ثُلُثًا، وَيَبْعَثَ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ عَنْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ثُلُثًا"(2).
وهي صحيحةٌ، ويُروى في ذلك مِن حديثِ ابن عبَّاسٍ في صفةِ أُضْحِيَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:(ويُطْعِمُ أَهْلَ بَيْتِهِ الثُّلُثَ، وَيُطْعِمُ فُقَرَاءَ جِيرَانِهِ الثُّلُثَ، وَيَتَصَدَّقُ عَلَى السُّؤَّالِ بالثُّلُثِ)(3).
ويُروى عندَ مُسدَّدٍ في "مسندِه"؛ مِن حديثِ إبراهيمَ مؤذِّنِ أهلِ المدينةِ، عن أبيهِ؛ قال: "شهِدتُّ أبا هُرَيرةَ رضي الله عنه بالمصلَّى قال لرجُلَيْنِ: ما عندَكما ما تُضحيِّانِ به؟ قالا: لا، فانطلَقَ بهما الى منزلِهِ وأخرَجَ شاتَهُ، قال تقبَّلَ اللَّهُ مِن أبي هُرَيْرةَ ومِن فلانٍ وفلانٍ، ثمَّ أخَذ كَبِدَها أو شيئًا منها، فأكَلُوا منها، ثمَّ حزَّأَها ثلاثةَ أجزاءٍ، فانقلَبَ الرجُلانِ بثلُثَيْها،
(1) أخرجه ابن حزم في "المحلَّى"(7/ 271).
(2)
أخرجه سعيد بن أبي عروبة في "المناسك"(45).
(3)
أورده ابن قدامة فى "المغني"(13/ 380)، وقال:"رواه الحافظ أبو موسى الأصفهاني في "الوظائف"، وقال: حديث حسن".
ودخَلَ بيتَ أبي هريرةَ رضي الله عنه الثُلثُ" (1)؛ وفيه جهالةٌ.
وكان السلفُ يُفْتُونَ بذلك في العقيقةِ أيضًا؛ كما روى عبدُ القُدُّوسِ، عن عطاء ومجاهدٍ؛ أنَّهما قالا:"كانوا يقولونَ في العقيقةِ: ثُلُثٌ للجيرانِ، وثُلُثٌ للمساكينِ، وثُلُثٌ لأهلِ البيتِ"؛ أخرَجَه أبو طاهرٍ السِّلَفِيُّ في "المشيخةِ البغداديَّةِ"(2).
واختُلِفَ في القَدْرِ الذي تُقسَّمُ عليه الأُضْحِيَّةُ والهَدْيُ: هل تُقسَّمُ أثلاثًا أم ثلاثًا؟ فلا يَلزَمُ مِن كلِّ تثليتٍ أن يكونَ أثلاثًا، كما لا يَلزَمُ مِن التشطيرِ تَساوِي القَدْرِ في الاثنَيْنِ، ولا يَظهَرُ أنَّ السلفَ يتكلَّفونَ الوزنَ، والأظهَرُ: أنَ تقسيمَ الهَدْيِ والأُضْحِيَّةِ يكونُ بحسَب الحالِ؛ فإنْ تقارَبَتْ حالُ المُضحِّي والمُهدِي مِن حالِ غيرِهِ الذي يُهدِيهِ أو يتصدَّقُ عليه، فإنَّه يُقسِّمُها أثلاثًا، وإن كانتِ الحاجةُ في إحدى الجهاتِ أشَدَّ، فإنَّه يُقسِّمُها ثلاثًا لا أثلاثًا، ويَزيدُ في الجهةِ المحتاجةِ.
ولا حَدَّ لقَدْرِ كلِّ قِسْمٍ يَلزَمُ معه تَساوِيها؛ وذلك أنَّه قد تكونُ الحاجةُ إلى الإطعام أشَدَّ مِن الأكلِ، والحاجةُ إلى الأكلِ أشَدَّ مِن الإطعامِ، فيَزِيدُ في هذا، وينقُصُ مِن هذا؛ وذلك لِما جاء عندَ التِّرْمِذِيِّ مِن حديثِ بُريدةَ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(كُلُوا مَا بَدَا لَكُمْ، وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا)(3)، وأصلُه في مسلمٍ (4)، وجاء في "الصحيحَيْنِ"، مِن حديثِ عائشةَ بلفظِ:(فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتصَدَّقُوا)(5)، وعندَهما مِن حديثِ جابرٍ، وفيه:(كُلُوا وَتَزَوَّدُوا)(6)، وعندَهما مِن حديثِ سَلَمةَ بنِ
(1)"المطالب العالية"(2300).
(2)
الجزء الثاني والثلاثون من "المشيخة البغدادية"(6).
(3)
أخرجه الترمذي (1510).
(4)
أخرجه مسلم (977) و (1977).
(5)
أخرجه البخاري (5570)، ومسلم (1971).
(6)
أخرجه البخاري (1719)، ومسلم (1972).
الأكوعِ، وفيه:(كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا)(1)، وهو كما قال مالكٌ:"لا حَدَّ فيما يأكُلُ ويتصدَّقُ ويُطعِمُ الفقراءَ والأغنياءَ؛ إنْ شاءَ نِيئًا، وإن شاءَ مطبوخًا"(2).
وظاهرُ عملِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: التوسعةُ في الأُضْحِيَّةِ مِن المأكولِ والمتصدَّقِ به والمُهْدَى منه، وقد روى مسلمٌ في "صحيحِه"، عن ثوبانَ؛ قال: ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِيَّتَهُ، ثُمَّ قَالَ:(يَا ثَوْبَانُ، أَصْلِحْ لَحْمَ هَذِهِ)، فَلَمْ أَزَلْ أُطْعِمُهُ مِنْهَا حَتَّى قَدِمَ المَدِينَةَ (3).
وأمَّا ما جاء في حديثِ عائشةَ، عندَ أبي داودَ؛ مِن طريقِ مالكٍ -وهو في "موطَّئِه"(4) - عن عبدِ اللَّهِ بنِ أبي بكرٍ، عن عَمْرةَ، عن عائشةَ، وفيه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(ادَّخِرُوا الثُّلُثَ، وَتَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ)(5)، فالأظهَرُ: أنَّه تصحيفٌ، واللفظُ:(ادَّخِرُوا لِثَلَاثٍ)؛ يعني: لثلاثةِ أيامٍ، وليس (الثُّلُثَ)؛ لمناسبةِ السياقِ، والحديثُ في مسلمٍ؛ مِن طريقِ مالكٍ؛ قال صلى الله عليه وسلم:(ادَّخِرُوا ثَلَاثًا، ثُمَّ تَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ)(6).
وفقهُ مالكٍ يُخالِفُ ذِكْرَ الثُّلُثِ، وهذا مِن قرائنِ تحريفِها، وإنْ كانتْ في نُسَخٍ عتيقةٍ؛ فهذا يقعُ مِثلُهُ في كتُب السُّنَّةِ؛ وقد تكلَّم عليه الأئمةُ النُّقَّاد.
ومِن الفقهاءِ: مَن أوجَبَ التصدُّقَ مِن لحمِ الأُضْحِيَّةِ إنْ كانتْ تطوُّعًا، ولو قليلًا بما يُطلَقُ علبه اسمُ الصدَقةِ؛ وهو قولٌ في مذهبِ
(1) أخرجه البخاري (5569)، ومسلم (1974).
(2)
ينظر: "الكافي في فقه أهل المدينة" لابن عبد البر (1/ 424)، و"اختلاف الأئمة العلماء" لابن هبيرة (1/ 339).
(3)
أخرجه مسلم (1975).
(4)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 484).
(5)
أخرجه أبو داود (2812).
(6)
أخرجه مسلم (1971).
أحمدَ، وهو الصحيحُ مِن مذهبِ الشافعيَّةِ وقولُ جمهورِهم المتقدِّمينَ، والأفضلُ عندَهم: التصدُّقُ بأكثرِها.
* * *
* قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} [الحج: 29].
يُشرَعُ يومَ النَّحْرِ أنْ يأخُذَ الحاجُّ بأسبابِ التحلُّلِ، وأوَّلُها رميُ جمرةِ العَقَبةِ، وبها يتخلَّلُ تحلُّلَهُ الأولَ على الأرجحِ، ويُستحَبُّ أن يأتيَ بأعمالِ النحرِ؛ كما فعَلَها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مرتَّبةً، فيَبدأْ بجَمْرةِ العَقَبةِ، ثمَّ يَنحَرُ هَدْيَه، ثمَّ يَحلِقُ، ثُمَّ يطوفُ بالبيت؛ وذلك أنَّ اللَّه تعالى يقولُ:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196].
ولو قدَّم أو أخَّر شيئًا على شيءٍ مِن أعمالِ يومِ النحرِ، جاز له ذلك؛ وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فعَلَ هذه الأعمالَ ولم يُلزِمْ بها، بل خَفَّفَ لمَن اجتهَدَ وقد قَدَّمَ بينَها وأَخَّرَ، كما ثبَت في "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو؛ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ قَالَ:(اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ)، فَجَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ:(ارْمِ وَلَا حَرَجَ)، فَمَا سُئِلَ يَومَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدَّمَ وَلَا أُخِّرَ، إِلَّا قَالَ:(افْعَلْ وَلَا حَرَجَ)(1).
والتَّفَثُ في قولِه: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} هي أعمالُ النحرِ؛ مِن الرَّمْيِ، والحَلْقِ، ولُبْسِ المَخِيطِ، وقَصِّ الأظفارِ والشاربِ، وجاء عن ابنِ عبَّاسٍ وابنِ عمرَ أنَّها جميعُ أعمالِ المناسكِ (2).
(1) أخرجه البخاري (1736)، ومسلم (1306).
(2)
"تفسير الطبري"(16/ 526).
وقولُه تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} هو الذَّبْحُ يومَ النحرِ.
وفي هذه الآيةِ: دليلٌ على مشروعيَّةِ نحرِ الهَدْيِ في جميعِ الأَنْسَاكِ: الإفرادِ والقِرَانِ والتمتُّعِ، فقد جعَلَهُ اللَّهُ عملًا مِن أعمالِ يومِ النحرِ ولم يُخصِّصْ، وقد كان الصحابةُ يُهدُونَ في كلِّ أَنْسَاكِهم وإنْ لم يكنْ واجبًا عليهم، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَسُوقُ هَدْيَهُ معه حتى في العمرةِ كما في الحُدَيْبِيَةِ، بل قد كان يَبعثُ بهَدْيِهِ إلى مَكَّةَ ليُذبَحَ يومَ النحرِ، وهو في المدينةِ حلالٌ.
وفي قولِه تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ؛ يعني: طوافَ الحجِّ، وهو طوافُ الإفاضةِ، وهو ركنُ الحجِّ بالإجماعِ، والطوافُ آخِرُ أعمالِ يومِ النحرِ.
وفي الآيةِ: دليلٌ على أنَّ الحجَّ يصحُّ بطوافِ الإفاضةِ؛ لأنَّه آخِرُ الأركانِ وبه يتحلَّلُ، وأمَّا غيرُهُ، فواجِباتٌ أو مستحبَّاتٌ؛ لا تُسقِطُ الحجَّ ولا تُبطِلُه، ولكنَّها تَنْقُصُه.
وتشرَعُ المبادَرَةُ بإنجازِهِ؛ كما فعَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ فقد طاف ضُحًى.
* * *
حُرُماتُ اللَّهِ كثيرةٌ، والمرادُ هنا حُرُماتُه في الحجِّ، وهي شعائرُ دِينِهِ التي أمَرَ بإقامتِها، فامتثالُ أمرِهِ في النُّسُكِ بفعلِ المأمورِ واجتنابِ
المحظورِ مِن محظوراتِ الحجِّ: ذلك مِن تعظيمِ حُرُماتِهِ وشعائرِه.
وبَيَّنَ اللَّهُ في قولِه: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أنَّه سبحانَهُ جعَلَ الأصلَ في البهائمِ الحِلَّ، وجعَلَ المُستثنَى قليبلًا مَتْلُوًّا، وأضمَرَ الحلالَ لكثرتِه، وسمَّى الحرامَ لقِلَّتِه.
وقولُه تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} ، في هذه الآيةِ: بيانُ أنَّ المَقصَدَ الأعظَمَ مِن الحجِّ هو إقامةُ توحيدِ اللَّهِ ونبذُ الشِّرْكِ؛ حيثُ ذكَرَ اللَّهُ اجتنابَ الأوثانِ وأمَر بالحنيفيَّةِ مِلَّةِ إبراهبمَ بأحكامِ المناسكِ؛ ليُشعِرَ أنَّها المرادةُ، وقد كان الجاهليُّونَ لا يُقِيمُونَ شعيرةً مِن المناسكِ إلَّا خلَطُوها بشِرْكٍ وكفرٍ.
وفي الآيةِ: تعظيمُ شهادةِ الزُّورِ وقَرْنُها بالشِّرْكِ، وهو الافتراءُ بقولِ الباطلِ مع زَعْمِ رؤيتِه، وهو مِن المُوبِقاتِ، وأعظَمُ أنواعِهِ ما كان فيه شركٌ وتبديلٌ لدِينِ اللَّهِ، ثمَّ ما كان فيه أَكلٌ لأموالِ الناسِ بالباطلِ، ويأتي كلامٌ يسيرٌ عليه عندَ قولِهِ تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)} [الفرقان: 72].
قولُهُ تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} : المرادُ بشعائرِ اللَّه هنا كلُّ المناسكِ، وأَخَصُّها بالذَّكرِ: الهَدْيُ؛ وذلك لأنَّه قال بعدَ ذلك: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ؛ وبهذا قال ابنُ عبَّاسٍ وعطاءٌ والضحَّاكُ (1)، وتعظيمُ شعيرةِ الهَديِ باختيارِ الطيِّبِ السَّمِينِ.
وقد كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يتحرَّى الطَّيِّبَ فيُضحَّي به؛ كما جاء عن أنسٍ: "أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ"(2).
(1)"تفسير الطبري"(16/ 540 و 544)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2492).
(2)
أخرجه البخاري (5565)، ومسلم (1966).
وذِكْرُ أنسٍ لهذا الوصفِ دليلٌ على أنَّهما قُصِدَا تلمُّسًا للطَّيِّبِ مِن الغنمِ، ولو لم يكنِ الوصفُ مؤثِّرًا، ما ذكَرَهُ في سياقِ عبادةٍ.
وقد ذكَرَ بعضُهم الإجماعَ على استحسانِ لونِ الأُضْحِيَّةِ كالنوويِّ (1)؛ ففي "السُّنَنِ"؛ مِن حديثِ أبي سعيدٍ: "أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بِكَبْشٍ أَقْرَنَ فَحِيلٍ، يَأُكُلُ فِي سَوَادٍ، وَيَمْشِي فِي سَوَادِ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ"(2).
وقد قال أبو أمامةَ بنُ سهلٍ: "كُنَّا نُسَمِّنُ الأُضحِيَّةَ بِالمَدِيَنَةِ، وَكَانَ المُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ"؛ رواهُ البخاريُّ (3).
وفي قولِه: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} إباحةُ الانتفاعِ بالهَدْيِ قبلَ نحرِه، وذلك بركوبِه، والحَمْلِ عليه، والانتفاعِ بصُوفِهِ ووَبَرِهِ وشَعَرِه، وفي "الصحيحَيْنِ"، عن أنسٍ؛ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ لَهُ:(ارْكَبْهَا)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا بَدَنَةٌ؟ ! قَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ:(ارْكَبْهَا وَيْلَكَ، أَوْ وَيْحَكَ! )(4).
وفي الحجِّ مناسكُ وشعائرُ عظيمةٌ، نعظيمُها وامتثالُ التعبُّدِ بها بما جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: مِن تعظيمِ شعائرِ اللَّهِ؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ)(5)؛ يعني: عنه؛ فكلُّ أعمالِ المناسكِ مِن شعائرِ اللَّهِ؛ كالصَّفا والمروةِ؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، ومِن شعائرِ اللَّهِ: الأشهُرُ الحرُمُ، والقلائدُ، وقاصدو البيتِ الحرامِ،
(1)"شرح النووي على مسلم"(13/ 120).
(2)
أخرجه أبو داود (2796)، والترمذي (1496)، والنسائي (4390)، وابن ماجه (3128).
(3)
أخرجه البخاري معلقًا قبل حديث (5553).
(4)
أخرجه البخاري (2754)، ومسلم (1323).
(5)
أخرجه مسلم (1297).
والهَدْيُ؛ كما قال تعالى: {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2]، وكذلك فى البُدْنِ والهَدْيِ كما يأتي؛ في قولِهِ تعالى:{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36]
وقد تقدَّمَ الكلامُ على تلك الشعائرِ في مواضعِها.
* * *
* قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)} [الحج: 34].
إراقةُ الدِّماءِ بذَبْحِ ونَحْرِ بهائمِ الأنعامِ شريعةٌ لكلِّ الأُممِ، وفيه يَظهرُ فيهم التوحيدُ، وبه يُفارِقونَ المشرِكِين، فقد ذكَرَ اللَّهُ نَحْرَ الهَدْيِ وذِكْرَ اسم اللَّهِ عليه، وبيَّنَ أنَّ الغايةَ منه إقامةُ شعيرةِ الوحيدِ؛ كما قال تعالى:{فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} ، فأمَرَ بذِكرِ اسمِهِ وحدَه، لا كما يذكُرُهُ الجاهليُّونَ على هَدْيِهم مِن ذِكْرِ آلهتِهم.
وقولُه تعالى: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} : فيه مشروعيَّةَ التسميةِ عندَ الذبح والنحرِ، وقد تقدَّمَ تفصيلُ ذلك عندَ قولِ اللَّهِ تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] وقولِهِ تعالى: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]، وقولِهِ تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)} [الأنعام: 118]، وقولِهِ:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121].
* * *
بعدَما ذكَرَ اللَّهُ بهيمةَ الأنعامِ على سبيل الإجمالِ، لم يُسَمِّ اللَّهُ هنا إلَّا، البُدْنَ منها، ويتَّفِقُ العلماءُ على أنَّ الإبلَ مِن البُدْنِ في الآيةِ، وإنَّما اختلَفُوا في دخولِ البقرِ فيها؛ وذلك أنَّ البُدْنَ في لغةِ العربِ هو ما ضَخُمَ مِن الأشياءِ:
وقد ذهَبَ ابنُ عمرَ وعطاءٌ وابنُ المسيَّبِ والحسنُ أنَّ البقرَ داخلٌ في البُدْنِ في الآيةِ (1).
وقد قال مجاهدٌ: ليس البُدْنُ إلَّا الإبلَ (2)؛ وذلك لنَفَاسَتِها وفضلِها، ومِن هذا أخَذَ العلماءُ فضلَ البُدْنِ في الهَدْيِ على غيرِها؛ وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا حَجَّ في حجةِ الوداعِ، ساقَ مِئَةً مِن الإبلِ، ونحَر بيدِهِ ثلاثًا وستينَ، ولم يَنحَرْ بقرةً ولا شاةً بيدِه، وإن كان صلى الله عليه وسلم أَهدى عن نسائِهِ بالبَقَرِ؛ كما في "الصحيحَيْنِ"(3).
ولا يختلِفُ العلماءُ: أنَّ البَدَنَةَ والبَقَرةَ تُجزِئُ عن سبعةٍ، ولا يَختلِفونَ أنَّ البقرةَ لا تَزِيدُ في إجزائِها عن ذلك، ولكنَّهم اختلَفوا في البَدَنةِ، وفد ثبَتَ أنَّ البدَنةَ تُجزِئُ عن سبعةٍ؛ كما في حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ؛ قال:"نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ". أخرَجَه مسلمٌ (4).
(1)"تفسير ابن كثير"(5/ 425).
(2)
"تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2493)
(3)
أخرجه البخاري (294)، ومسلم (1211).
(4)
أخرجه مسلم (1318).
ومنهم: مَن جعَلَ البدَنةَ عن عَشَرةٍ؛ وبه قال إِسحاقُ؛ وذلك لِما رواهُ أحمدُ وأهلُ "السنن"، عن ابنِ عبَّاسٍ؛ أنَّه قال:"كنا مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَ الأَضْحَى، فَاشْتَرَكْنَا فِي البَقَرَةِ سَبْعَةً، وَفِي البَعِيرِ عَشَرَةً"(1).
والشاةُ لا بجوزُ الاشتراكُ في تملُّكِها لِمَنْ أراد أن يُضحِّيَ بها، مع جوازِ أن يُشرِكَ غيرَهُ في الأجرِ بها، مِن أهلِ بيتِهِ وغيرِهم، كما فعَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأمَّا الاشتراكُ في مِلْكِ البقرةِ والبعيرِ، فيجوزُ لمَن أراد أن يُضحِّيَ أو يُهدِيَ هَدْيًا واجبًا أن يُشرِكَ غيرَهُ فيها الى سبعهِ أشخاصٍ؛ لِما تقدَّمَ، ولم يكنِ الصحابةُ يتشارَكونَ في مِلْكِ الهَدْيِ والأُضْحِيَّةِ إلَّا في الإبلِ والبقرِ، ولم يثبُتْ عنهم ذلك في الغنمِ.
وأمَّا ما رواهُ أحمدُ؛ مِن حديثِ أبي الأشَدِّ، عن أبيه، عن جدِّه؛ قال:"كنْتُ سَابعَ سَبْعَةٍ مَعَ رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ: فَأَمَرَنَا نَجمَعُ لِكُلِّ رَجُلِ مِنَّا دِرْهَمًا، فَاشْتَرَيْنَا أُضْحِيَّةً بِسبْعَةِ الدَّرَاهِمِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ أَغْلَيْنَا بِهَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَفْضَلَ الضَّحَايَا أَغْلَاهَا وَأَسْمَنُهَا)، فأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ رَجلٌ بِرِجْلٍ، وَرَجُلٌ بِرِجْلٍ، وَرَجُلٌ بِيَدٍ، وَرَجُلٌ بِيَدٍ، وَرَجُلٌ بِقَرْنٍ، وَرَجُلٌ بِقَرْنٍ، وَذَبَحَهَا السَّابعُ، وَكَبَّرْنَا عَلَيْهَا جَمِيعًا"(2)، فلا يصحَّ؛ وذلك أنَّ في سندِهِ جهالةً، ولو صحَّ، فليس في الحديثِ أنَّ الأُضْحِيَّةَ مِن الغنمِ.
ويجوزُ أن يشترِكَ اثنانِ في مِلْكِ شاةٍ يُريدانِ أن يُضَحِّيَا عن شخصٍ واحدِ غيرِهما؛ لأنَّه مِن التبرُّعِ، وبابُه واسعٌ، وذلك كما لو قامَا بدفعِ قيمتِها إلى المُضحَّى عنه؛ ليَشترِيَها ثمَّ يَذْبَحَها.
(1) أخرجه أحمد (1/ 275)، والترمذي (1501)، والنسائي (4392)، وابن ماجه (3131).
(2)
أخرجه أحمد (3/ 424).
وقولُه تعالى: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} ؛ يعني: الأجرَ في الآخِرةِ، والنفعَ في الدُّنيا مِن اللبنِ والركوبِ.
وقولُه تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} فيه مشروعيَّةُ نحرِ الإبلِ قائمةً معقولةً، وفي "الصحيحَيْنِ"، عن ابنِ عمرَ:"أنَّه أَتَى عَلَى رَجُلِ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا، قَالَ: ابْعَثْها قِيامًا مُقَيَّدَةً؛ سُنُّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم"(1).
وبهذا كان يعملُ الصحابةُ كما عندَ أبي داودَ؛ مِن حديثِ جابرٍ (2)، وقد قال ابنُ عبَّاسٍ:"إذا أَردتَّ أن تنحَرَ البدَنةَ، فأَقِمْها على ثلاثِ قوائمَ معقولةً، ثمَّ قلْ: باسمِ اللَّه واللَّهُ أكبرُ، اللَّهُمَّ منك ولك"(3).
وقولُه تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} وجَبَتْ جُنُوبُها؛ يعني: سقَطَتْ، ثمَّ أمَرَ بالأكلِ منها، والفاءُ هنا للتعقيبِ، مع أنَّها لا تُؤكَلُ نِيئَةً؛ ولكنْ للإشعار بالإسراع بذلك، كما فعَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بهَدْيِهِ فنحَرَ ثلاثًا وستينَ ببدِه، ثمَّ جُزِرَت وقُطِّعَتْ وطُبِخَتْ، وأكَلَ مِن جميعِها، وهو ما زال في ضُحَا يوم النحرِ.
وفيه: مشروعيَّةُ الإطعامِ مِن الهَدْي، والتماسُ الفقيرِ، وهو المُعتَرُّ، والتماسُ المتعفِّفِ الذي يُظهِرُ القناعةَ وهو محتاجٌ، وهو القانعُ، وفي هذه الآيةِ تأكيدٌ على تتبُّعِ أحوالِ الناسِ في مِثْلِ هذا اليومِ، ومِثلِ هذا المكانِ، والتماسِ المحتاجِ منهم.
وقد اختلَفَ العلماءُ في صفةِ تقسيم الهَدْيِ، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك عندَ قولِهِ تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]؛ مِن هذه السورةِ.
* * *
(1) أخرجه البخاري (1713)، ومسلم (1320).
(2)
أخرجه أبو داود (1767).
(3)
"تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2494).
* قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)} [الحج: 37].
بيَّنَ اللَّهُ أنَّ ما يفعلُهُ المُسلِمونَ في يومِ النحرِ مِن طاعتِهِ؛ بسَوْقِ الهَدْي، واستسمانِ الأضاحيِّ، واختبارِ طيِّبِها: أنَّ هذا نفعٌ لأنفُسِهم، وتقويمٌ لقلوبِهم على تَقوَى اللَّهِ، وليس ذلك مِن نفعِ اللَّهِ في شيءٍ، فما يصلُ الى اللَّهِ تَقْوَاهُم، لا لحومُهُمْ وهَدْيُهم، فيأجُرُهم على ما يَعلمُ مِن صِدْقِهم وما عمِلُوهُ مِن عملٍ صالحٍ.
وقيل: إنَّ الجاهليِّينَ كانوا يَنحَرُونَ هَدْبَهم ويَنْصِحُونَ بدماءِ الهَدْيِ البيتَ لإظهارِ التقرُّبِ إلى اللَّهِ؛ فبيَّنَ اللَّهُ أنَّه أرادَ ظهورَ التقوى في قلوبِكم، لا أنْ تتكلَّفوا ذلك في بيتِه، فلن يصلَ ذلك إلى اللَّهِ كما يتوهَّمُهُ الجاهليُّونَ؛ لأنَّه بِدْعةٌ وضلالةٌ.
* * *
في هذه الآيةِ: إشعارٌ للنبيِّ بالقتالِ لمَّا أخرَجَهُ قومُهُ مِن مَكَّةَ ظُلْمًا وبغيًا، وهذه الآيةُ أولُ ما نزَلَ مِن آياتِ القتالِ، قال ابنُ عبَّاسٍ: "لمَّا خرَجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن مَكَّةَ، قال أبو بكرِ: أَخرَجُوا نبيَّهم، إنَّا للَّهِ وإنَّا إليه راجِعونَ، لَيَهْلِكَنَّ القومُ! فنزَلَتْ:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}
الآيةَ، قال أبو بكرٍ: فعَلِمتُ أنَّه سيكونُ قتالٌ؛ قال ابنُ عبَّاسِ وهي أولُ آيةِ نزَلت في القتالِ" (1).
وبهذا قال عروةُ؛ أنَّها أولُ آيةٍ نزَلَت في الجهادِ (2).
قد قال ابنُ زَيْدٍ: "أذِنَ لهم في قتالِهم، بعدَما عفا عنهم عَشْرَ سنينَ"(3).
وإنَّما تأخَّر تشريعُ الجهادِ تلك المدةَ؛ لأنَّ الصحابةَ كالوا في زمنِ صَعْفٍ وقلةِ عددٍ، وكان الكافرونَ في موضعِ قوةٍ وبأسٍ، واللَّهُ لا يأمُرُ الناسَ بشيءٍ إلَّا وهو مُقترِنٌ بأسابٍ كونيَّةٍ ظاهرةٍ، ما لم يَجعَلِ اللَّهُ مِن ذلك إعجازَا لنبيٍّ مِن أنبيائِه، واللَّهُ لا يُرِيدُ ذلك في كل أفعالِ الأنبياءِ؛ حتى لا يُصابَ أتباعُ الأنبياءِ بالوَهْنِ والضَّعْفِ مِن بعدِ موتِ أنبيائِهم، ولكنَّ اللَّهَ جعَلَ نصرَ الأنبياءِ مِن جنسِ نصرِ الصحابةِ؛ فذلك أَدْعَى لثَباتِهم وقوَّتِهم وشدةِ عزائمِهم بعدَ استخلافِهِ لهم بعدَهم.
ويُؤخَذ مِن تأخُّرِ نزولِ الآيةِ مع شِدَّةِ البأسِ والعذاب على الصحابةِ: أنَّه يجبُ على الناسِ عندَ تسلُّطِ عدوِّ ظالِمِ عليهم ألَّا يَغلِبَ عليهم حظُّ أنفُسِهم بالتشفِّي والانتقامِ على النظرِ إلى عاقبةِ الدِّينِ؛ فإنَّ للنفوسِ إقبالًا، على الانتصارِ لنفسِها والانتقامِ مِن عدوِّها ولو هلَكَت.
والواجبُ: النظرُ الى عاقبةِ الحقِّ، ومدى قُدْرةِ العدوِّ على استئصالِهِ باستئصالِهم؛ فإنَّهم -وإن كانوا قد باعوا أنفُسَهم اللَّه- يجبُ أن يَعلَموا أنَّ اللَّهَ استوْدَعَهُمْ حِفْظَ دِينِه، فهم باعوا أنفُسَهم ولم يَبِيعُوا دِينَهُ
(1) أخرجه أحمد (1/ 216)، والترمذي (3171)، والنسائي (3085)، والطبري في "تفسيره"(16/ 574)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(8/ 2496).
(2)
"تفسير ابن أبى حاتم"(8/ 2496).
(3)
"تفسير الطبري"(16/ 575)، "تفسير ابن أيي حاتم"(8/ 2496).
ولا يَملِكونَ ذلك، بل يجبُ عليهم حِفظُهُ والتمكينُ له، وأن يتجرَّدُوا مِن الجُبْنِ فلا يتظاهَروا بالحِكْمةِ، وأن يتجرَّدوا مِن التهوُّرِ والعَجَلةِ والانتقامِ للنَّفْسِ فلا يتظاهَروا بالشجاعةِ، وقد يقَعُ في النفوسِ الصادقةِ حبٌّ عظيمٌ للحقَّ فتستعجِلُ الانتصارَ له، بل يجبُ عليها التجرُّدُ والوقوفُ عندَ أوامرِ اللَّهِ وحدودِه، والنظرُ إلى العواقبِ بتجرُّدٍ، كما تجرَّدَ الصحابةُ عندَما وجَدُو مِن أنفسِهم حبًّا للحقِّ عظيمًا، فاستأذَنُوا للانتقامِ مِن عدوِّهم مِن أولِ يومٍ بمَكَّةَ؛ كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء: 77] ويُروى أنَّه لمَّا بايَعَ أهلُ يَثْرِبَ ليلةَ العَقَبةِ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وكانوا نيِّفًا وثمانينَ، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، ألَا نَمِيلُ على أهلِ الوادي -يَعْنُونَ أهلَ مِنًى- لياليَ مِنًى فنَقتُلَهم؟ فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(إِنِّي لَمْ أُومَرْ بِهَذَا)(1).
وقولُه تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} ، بيَّنَ اللَّهُ فيه: أنَّ المقصودَ بأولئك المظلومينَ الذين يُقاتَلونَ هم الذين أُخرِجوا مِن ديارِهم، وهي مَكَّةُ، بغيرِ حقٍّ، إلَّا أنَّهم وحَّدوا اللَّهَ وعَبَدُوهُ بلا شريكٍ.
وقولُه تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} ، فيه: أنَّ اللَّهَ يَدفَعُ المشرِكِينَ بالمؤمِنينَ ليُقيمَ دِيَنَهُ ويُعْلِيَ ذِكْرَه، وفي هذا: بيانٌ للمَقصَدِ مِن الجهادِ، وهو إعلاءُ كلمةِ اللَّهِ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:(مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيِلِ اللَّهِ)(2).
وتدُلُّ هذه الآبةُ على أنَّه يجوزُ القتالُ لدَفْعِ الإنسانِ عن أرضِهِ، وأنَّه
(1)"تفسير ابن كثير"(5/ 434)، و"سيرة ابن هشام"(1/ 448).
(2)
أخرجه البخاري (3810)، ومسلم (1904).
في سبيلِ اللَّهِ، وقد بيَّنَّا ذلك عندَ قولِ اللَّهِ تعالى:{وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة: 246]، وقولِ اللَّهِ تعالى:{وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75].
وفي قولِه تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} بيانُ أنَّ نَصْرَ اللَّهِ يكونُ بمِقْدارِ نصرِ دِينِه؛ لأنَّ نصرَهُ يكونُ بعَوْنِهِ وكفايتِه، وكفايةُ اللَّهِ تكونُ بمِقْدارِ عبوديَّتِهِ سبحانَه، وقد تقدَّم الكلامُ على الأسبابِ الشرعيَّةِ والكونيَّةِ للنصرِ عندَ قولِهِ تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: 77].
وقولُه تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} أمرٌ للأخذِ بأسبابِ النصرِ، فاللَّهُ قادرٌ على إحداثِ إعجازٍ بنصرِهم بلا قتالٍ ولا عملٍ، ولكنَّه يُرِيدُ مِن المُسلِمينَ الأخذَ بالأسبابِ التي يَنتصِرونَ بها؛ حتى لا تتواكَلَ نفوسُهم عن العملِ للَّهِ ولدِينِه، فإنَّ مَن يتحقَّقُ له النصرُ بلا سببٍ ولا تعبٍ، بماذا يَسْتحِقُّ الجنةَ؟ ! ولو كان كلُّ مُتَّبِعٍ للإسلامِ والرسالةِ المحمديَّةِ ينتصِرُ بلا سببٍ يأخُذُ به، ولا محنةٍ وشِدَّةٍ تمُرُّ عليه، وتُسيِّرُهُ الأقدارُ بلا اختيارٍ، لأقبَلَ على الإسلام كلُّ أحدٍ؛ لِمَا يَرَوْنَهُ مِن عاجلِ الدُّنيا والتمكينِ فيها، واللَّهُ لا يُريدُ لدِينِهِ إلَّا مقبِلًا بصدقٍ وإخلاصٍ يُرِيدُ اللَّهَ والدارَ الآخِرةَ.
* * *
* قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 41].
بيَّنَ اللَّهُ حالَ الذين يُمكِّنُهُمُ اللَّهُ في الأرضِ مِن القيامِ بأمرِهِ وإظهارِ
دِينِه، والعباداتُ تجبُ على الإنسانِ بمقدارِ تمكُّنِهِ في الأرضِ؛ فمِن العباداتِ ما يتعلَّقُ بالفردِ، ومنها ما يتعلَّقُ بالجماعةِ، وكلَّما ضَعُفَ تمكينُ الإنسانِ، تقلَّصَتِ الواجباتُ عليه، حتى لا يجبَ عليه إلَّا ما يَصِحُّ به إسلامُه، وإذا زاد تمكينُة، زاد تكليفُهُ، ومَن لم يَعرِفْ مقدارَ تمكينِه، اضطرَبَ في محرفةِ تكليفِه؛ فإمَّا أن يستعجلَ أحكامًا لا تجبُ عليه؛ فيُضِرَّ بنفسِهِ وبدِينِه، وإمَّا أن يَتراخى في الإتيانِ بما يجبُ عليه؛ فيُقصَّرَ في حقِّ اللَّهِ عليه.
وكثيرٌ مِن الناسِ يَعرِفونَ مقاديرَ التكليفِ، ولكنَّهم لا يَعرِفونَ مقاديرَ التمكينِ؛ فيُخطِئونَ في تقديمِ الدَّينِ أو تأخيرِه، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُعلِّمُ أصحابَهُ الأمرَيْنِ؛ حتى يستقيمَ دِينُ العبدِ ودِينُ الدَّوْلةِ.
وأوَّلُ ما يَبدأُ التمكينُ: مِن الأفرادِ، ثمَّ يكونُ في الجماعاتِ، ثمَّ يكونُ في الدولِ، ومَن لم يُفرِّقْ بينَ تمكينِ الأفرادِ وتمكينِ الجماعاتِ وتمكينِ الدُّوَلِ، وجعَلَ واحدةً في منزِلةِ الأُخرى، أَخَلَّ باستقرارِ الشريعةِ، فلا يَلزَمُ مِن تمكيِن الفردِ تمكينُ الجماعةِ، ولا مِن تمكينِ الجماعةِ تمكينُ الدولةِ، ولكنَّه يَلزَمُ مِن تمكينِ الجماعةِ تمكينُ الفردِ، ومِن تمكينِ الدولةِ تمكينُ الجماعةِ والفردِ.
وقد بَيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك كلَّه.
وقد يقعُ في المؤمنِ مِن الغَيْرةِ والحميَّةِ للَّهِ ولدِينِه ما يجعلُهُ يتعجَّلُ حُكْمًا قبلَ تمكينِ، فلا يجدُ الحُكْمُ أرضَ تمكينٍ فيسقُطُ وينهارُ؛ فإنَّ التمكينَ للتكليفِ كالأرضِ المستويةِ لقواعدِ الكُرْسِيِّ، فاستقرارُ التكليفِ ودوامُهُ باستواءِ التمكينِ، ومَن أقامَ تكليفًا على غيرِ تمكينٍ، تكلَّفَ في تثبيتِهِ تكلُّفًا يشُقُّ عليه مشقةً شديدةً، وغالبًا أنَّه لا يدومُ إلَّا مع مخالفةِ أمرِ اللَّهِ، فيَعْصِي اللَّهَ في الدفعِ عمَّا استعجَلَ إقامتَهُ مِن حيثُ يُرِيدُ أن