الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد قال ابنُ عبَّاسٍ في قولِه تعالى: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} : لا تقولوا خِلافَ الكتابِ والسُّنَّة (1).
تعظيمُ أقوالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه:
ولا يجوزُ لأحدٍ إذا سَمِعَ حديثَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يقدِّمَ عليه قولَ أحدٍ مِن الناسِ، وقولُه تعالى:{لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} نزَلَ في أبي بكرِ وعمرَ مع أنَّهما أفضلُ الأمَّةِ بعدَ نبيِّها، فجرَى عليهم التشديدُ مع مَقَامِهم وفَضلِهم؛ فكيف بغيرِهم؟ ! وقد ثبَتَ في البخاريِّ؛ مِن حديثِ ابنِ أبي مُلَيْكَةَ؛ قال: كَادَ الخَيِّرَانِ أَنْ يَهلِكَا: أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما؛ رَفَعَا أَصوَاتَهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ عَلَيهِ رَكْبُ بنِيِ تَمِيمٍ، فَأشَارَ أَحَدُهُمَا بِالأَقْرَعِ بن حَابِسٍ أخِي بنِي مُجَاشعٍ، وَأَشَارَ الآخَرُ بِرَجُلٍ آخَرَ -قَالَ نافِعٌ: لَا أَحْفَظُ اسْمَهُ- فَقَالَ أَبُو بَكْر لِعُمَرَ: مَا أرَدتَّ إِلَّا خِلَافِي، قَالَ: مَا أرَدتُّ خِلَافَكَ، فَارْتَفَعَت أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الآيةَ، قَالَ ابْنُ الزُّبَيرِ: فَمَا كَانَ عُمَرُ يُسْمِعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ حَتَّى يَسْتَفهِمَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ؛ يَعْنِي: أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه (2).
ومِن تعظيمِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: تعظيمُ قولِ أصحابِه، خاصَّةً خلفاءَهُ؛ لأنَّهم أعلَمُ الناسِ بمُرادِهِ صلى الله عليه وسلم؛ فأقوالُهم وأفعالُهم تخصِّصُ أقوالَهُ وتوجِّهُها؛ لأنَّهم يَعْلَمونَ منه ما لا يَعلَمُهُ غيرُهم، ولفضلِهم وديانتِهم لا يُمكِنُ أنْ يتعمَّدُوا عِصْيَانَه، ولا يجوزُ لأحدٍ أنْ يترُكَ قولَ الخُلَفاءِ الراشدينَ بحُجَّةِ
(1)"تفسير الطبري"(21/ 335)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(10/ 3302).
(2)
أخرجه البخاري (4845)
أنَّهم ليسوا معصومينَ؛ فإنَّه لا يقولُ مسلمٌ بعِصْمَتِهم، ولكنَّهم أعلَمُ الناسِ برسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ولا يقدِّمُ أحدٌ فَهْمَهُ على فهمِهم، إلَّا مَن لم يَعرِفْ قَدْرَهم.
وقد كان مالكُ بنُ أنسٍ يَنهى عن تقديمِ أقوالِ فقهاءِ التابِعِينَ -مع فضلِهم- على أقوالِ الخلفاءِ الراشِدِينَ كعُمَرَ؛ بل يَدْعو إلى استتابةِ مَن يفعلُ ذلك؛ كما روى ابنُ حزمِ عن الهَيْثَمِ بنِ جَمِيلٍ؛ قال: قلتُ لمالكِ بنِ أنسٍ: با أبا عبدِ اللَّهِ، إنَّ عندَنا قومًا وضَعُوا كتبًا يقولُ أحدُهم: ثنا فلانٌ، عن فلانٍ، عن عمرَ بنِ الخطَّابِ بكذا وكذا، وفلانٌ عن إبراهيمَ بكذا، ويأخُذُ بقولِ إبراهيمَ؟
قال مالكٌ: وصحَّ عندَهم قولُ عمرَ؟
قلتُ: إنَّما هي روايةٌ؛ كما صحَّ عندَهم قولُ إبراهيمَ.
فقال مالكٌ: هؤلاءِ يُستتابُونَ، واللَّهُ أعلَمُ (1).
وهذا في فقيهٍ تابعيٍّ متأخِّرٍ، ويَعُدُّهُ بعضُهم مِن أتباعِ التابعينَ، مع تقدُّمِ زمانِهِ وجلالةِ قَدْرهِ في الفقهِ؛ فتقديمُ قولِ غيرِه ممَّن كان بعدَهُ مِن بابِ أولى أنْ يُزجَرَ فاعلُه.
وأقوالُ الصحابةِ عمومًا مقدَّمةٌ على أقوالِ التابعينَ، وأقوالُ التابعينَ مقدَّمةٌ على أقوالِ أتباعِهم؛ وذلك أنَّه كلَّما قَرُبَ العهدُ مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كان القولُ أقرَبَ إلى الصوابِ، وأسلَمَ مِن الهَوَى.
والأصلُ في أقوالِ الصحابةِ: أنَّ مُستنَدَها الرفعُ؛ إمَّا مِن قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أو فعلِهِ أو تقريرِهِ، أو ما سكَتَ عنه ولم يُبيِّنْ فيه شيئًا، وانِ اختلَفَتْ أقوالُ الصحابةِ فيما بينَهُمْ، فاختلافُهم دليلٌ على معنًى مرفوعٍ، وهو أنَّ المسألةَ مِن مسائلِ السَّعَةِ، لا مِن مسائلِ التشديدِ.
(1)"الإحكام، في أصول الأحكام"(6/ 120 - 121).
والأصلُ في أقوالِ التابعينَ: أنَّ مُستنَدَها الوقفُ على الصحابةِ؛ إمَّا عن واحدٍ أو عن جماعةٍ؛ ولهذا يقولُ أحمدُ بنُ حنبلٍ: "لا يكادُ يجيءُ عن التابعينَ شيءٌ إلَّا يُوجَدُ فيه عن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم"(1).
إنَّما عُظِّمَتِ القرونُ المفضَّلةُ الأُولى؛ لقُرْبِها مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فعُظِّمَ الزمانُ بتعظيمِه.
وقولُه تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} ، فيه: أنَّ مِن أعظَمِ ما يُحبِطُ الأعمالَ: عدمَ تعظيمِ سُنَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ بالإعراضِ عنها عندَ سماعِها، أو رفعِ الصوتِ عندَها، أو تقديمِ أقوالِ الرِّجالِ عليها.
وفي الآيةِ: دليلٌ على أنَّ السيِّئاتِ تُحبِطُ قَدْرًا مِن الحسناتِ، وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك.
* * *
* قال اللَّهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)} [الحجرات: 6].
أمَرَ اللَّهُ بالتثبُّتِ في روايةِ الأخبارِ والأقوالِ، وكلَّما كان أثرُ الخبرِ عظيمًا على الناسِ، كان التثبُّتِ فيه أعظَمَ وأوجَبَ، وأوجَبُ الأقوالِ أنْ يُتثبَّتَ فيها: هي الأقوالُ المنقولةُ عن اللَّهِ ورسولِه؛ وذلك أنَّ أعظَمَ الكذب هو الكذبُ على اللَّهِ؛ قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)} [النساء: 50]، وقال تعالى:{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)} [يونس: 69]، ووصَفَ اللَّهُ مَن افتَرَى عليه الكذبَ بعدم الإيمانِ؛ كما قال تعالى:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)} [النحل: 105].
(1)"العدة في أصول الفقه"(2/ 582).
ولا يجوزُ نقلُ الكلامِ عن اللَّهِ وعن نبيِّه والنَّفْسُ تشُكُّ في كذبِهِ وعدمِ صحَّتِه؛ ولذا يقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ ليْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ)(1)، ويُروى عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنَّه قال:(مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبَينِ)(2)، فأخَذَ حُكْمَ الكذبِ، مع كونِه ناقلًا لا مفترِيًا.
إذا كان الكلامُ يتَّصلُ بغيرِ اللَّهِ ورسولِه، فأعظَمُهُ: أشَدُّهُ موضعًا؛ كالذي يتعلَّقُ بأعراضِ الناسِ كالقَذْفِ، وما يتعلَّقُ بأماناتِهم وأموالِهم، وما تُؤكَلُ به حقوقُهم.
وكلَّما كان الأثرُ عظيمًا، وجَبَ التثبُّتُ فيه، ولو لم يكنْ بالنقلِ عن شخصٍ بعينِه؛ كالكلامِ الذي يتعلَّقُ بخوفِ الناسِ وأمْنِهم؛ فقد جعَلَ اللَّهُ نَقْلَ مِثلِ هذا الكلامِ بلا تثبُّتٍ مِن صفاتِ المُنافِقينَ:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
ونقلُ الكلامِ لا يُعفي ناقِلَه، ولو لم يكنْ قائلَه؛ فالناقلُ شريكٌ في حكايةِ الأقوالِ بلا تثبُّتٍ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:(كَفَى بِالمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ)(3).
وبمقدارِ الجَهَالةِ على الناسِ في نقلِ الأقوالِ عنهم يكونُ عِظَمُ الإثمِ؛ قال تعالى: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} .
* * *
(1) أخرجه البخاري (1291)، ومسلم (4)؛ من حديث المغيرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أحمد (4/ 250)، والترمذي (3662)، وابن ماجه (41)؛ من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه.
(3)
أخرجه أبو داود (4992)، والنسائي في "السنن الكبرى"(11845)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
هذه الآيةُ في قتالِ أهلِ البَغْي، وكلُّ قتالٍ بغيرِ حقٍّ بين المُسلِمينَ فهو مِن قتالِ البَغْي، وقد يكونُ البَغْيُ مِن جهةٍ واحدةٍ، وقد يكونُ مِن الجهتَيْنِ بتساوِيهِما بَالعُدْوانِ بعضِهما على بعضٍ.
واللَّهُ أمَرَ بالإصلاحِ بين المُقتتِلِينَ مِن المُسلِمينَ، وهذه الآيةُ نزَلَتْ في قتالٍ بين الأنصارِ؛ حيثُ اقتتَلَتِ الأَوْسُ والخَزْرَجُ؛ كما في "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه؛ قال: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَرَكِبَ حِمَارًا، فَانْطَلَقَ المُسْلِمُونَ يَمْشُونَ مَعَهُ، وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ، فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِلَيْكَ عَنِّي، وَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِكَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ، فَغَضِبَ لِعبدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَشَتَمَهُ، فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالأَيْدِي وَالنِّعَالِ، فَبَلَغَنَا أَنَّهَا أُنْزِلَتْ:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (1).
وفي هذه الآيةِ: دليلٌ على فضلِ الصُّلْحِ بينَ المُسلِمينَ، وأنَّ البغيَ والظُّلْمَ والقتلَ بغيرِ حقٍّ مع كونِهِ كبيرةً ومُوبِقًا، فإنَّه لا يُخرِجُ صاحِبَهُ مِن الإيمانِ، وفي البخاريِّ؛ مِن حديثِ أبي بَكْرَةَ؛ أنَّه قال: رَأيْتُ
(1) أخرجه البخاري (2691)، ومسلم (1799).