الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة العنكبوت
سورةُ العنكبوتِ مكيَّةٌ، وإنَّما الكلامُ على مدَنِيَّةِ أوَّلِها، وهي إحدى عَشْرَةَ آيةً مِن أولِها، فقال جماعةً بأنَّها نزَلَت في المدينةِ؛ وذلك لأنَّ اللَّهَ افتتَحَ السورةَ بخِطابِ المؤمنِين، وحذَّر مِن النِّفَاقِ في الحاديةَ عشْرَةَ، فقال:{وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 11]، والنِّفاقُ ظهَرَ في المدينةِ، والناسُ في مكةَ: إمَّا مؤمنونَ، وإمَّا كفارٌ ظاهِرون، ثمَّ بعدَ ذلك بدَأ الخِطابُ بحالِ الكافرينَ:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12]؛ فهذا وما بعدَه نزَل بمَكَّةَ عندَ الأكثرِ (1).
ويَظهرُ في آياتِها ما تُعرَفُ به السُّوَرُ المكيَّةُ مِن خِطَابِ الكافرِين، وذِكْرِ الآياتِ وإعجازِ القرآنِ، والعِبَرِ والأمرِ بالاعتبارِ والمعجِزاتِ، وقَصَصِ بعضِ الأنبياءِ مع أُممِهم، والوعيدِ في الآخرةِ للمُعانِدِين.
* * *
* قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8].
أمَر اللَّهُ بالإحسانِ إلى الوالدَيْنِ، ونَهَى عن طاعتِهما في الشِّرْكِ، ولم يذكُرْ جميعَ المعاصي، مع أنَّه لا طاعةَ لأيِّ مخلوقٍ في معصيةِ
(1) ينظر: "تفسير ابن عطية"(4/ 305)، و"زاد المسير"(3/ 398)، و"تفسير القرطبي"(16/ 333).
الخالقِ ولو كان والدًا، وذلك لأنَّ الخِطابَ كان للمُسلِمينَ في أولِ الأمرِ، وكان آباؤُهُمْ يُريدونَهُمْ على الشِّرْكِ، لا على مجرَّدِ المعاصي.
وقد قرَنَ اللَّهُ بِرَّ الوالدينِ بتوحيدِهِ وعبادتِهِ لعظَمتِه؛ كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، وقال تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقره: 83]، وقال تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]، وقال تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151]، وتقدَّم الكلامُ في بِرِّ الوالدَينِ وفضلِهِ فيما سبَقَ مِن الآياتِ.
* * *
* قال تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت: 29].
ذكَرَ اللَّهُ فاحشةَ قومِ لُوطٍ، وكرَّر ذِكرَها في القرآنِ؛ لبشاعتِها وقُبْحِها وسُوئِها ومنافَرَتِها للفطرة؛ حيثُ عاقَبَ عليها عقابًا لم يُعاقِبْ أُمَّةً مِثلَه، وقد تقدَّم الكلامُ على جُرْمِهم وما فعَلُوه، ومراحلِ تدرُّجِهم في الفاحشةِ، وكيف وصَلُوا إلى نهايتِها، عندَ قولِهِ تعالى:{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80].
* * *
* قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].
أمَرَ اللَّهُ بتلاوةِ القرآنِ، وقرَنَ ذلك بالأمرِ بالصلاةِ؛ للدَّلَالةِ على أنَّ العبادةَ مع العِلْمِ متلازِمانِ لا ينفكُّ واحدٌ عن الآخَرِ، وأنَّ مَن اجتمَعَ عِلمُهُ بالقرآنِ بعبادتِه، اكتمَلَتْ فيه أركانُ الثباتِ على الحقِّ؛ وذلك لأنَّ العِلْمَ والعبادةَ كالقَدَمَيْنِ لا يُقامُ إلَّا عليهما؛ فالعلمُ يُزِيلُ الشُّبُهاتِ، والعبادةُ تُزِيلُ الشَّهَواتِ؛ كما في قوله:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ، وقد تقدَّم الكلامُ على حُكْمِ الصلاةِ وفرضِ صلاةِ الجماعةِ في مواضِعَ مِن هذا الكتابِ.
* * *
* قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48].
امتَنَّ اللَّهُ على نبيِّه بالقرآنِ وإعجازِهِ بفصاحتِهِ وبيانِه، مع جعلِهِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُمِّيًّا حتى لا يُتَّهَمَ أنَّه قرَأَ ما يَتْلُوهُ مِن أُممٍ سابقةٍ، وليس كاتبًا حتى لا يُتَّهَمَ أنَّه كتَبَهُ لهم مِن تِلْقاءِ نفسِه، وكانت كفارُ قريشٍ تعرِفُ أُمِّيَّةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه نشَأَ بينَهم.
وقولُه: {وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} فيه فضلُ استعمالِ اليمينِ في الكتابةِ وكلِّ شريفٍ ومكرَّمٍ، والتعاملِ بالأخذِ والعطاءِ؛ كما تقدَّمَتِ الإشارةُ إلى ذلك عندَ قولِهِ تعالى:{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [الإسراء: 71]، وقولِه تعالى:{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى} [طه: 17]؛ فقد كان موسى يُمسِكُ عصًا بيمينِه.