الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المنزَّلِ بينَ أيدِينا يأخُذُ الحُكْمَ الذي تضمَّنَهُ الخبَرُ في قولِه: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} .
وهذه الآيةُ نظيرُ قولِهِ تعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 12 - 16].
الطهارةُ عندَ القراءةِ ومَسِّ المُصْحَفِ:
لا يختلِفُ العلماءُ في مشروعيَّةِ التطهُّرِ عندَ ذِكْرِ اللَّهِ، وأعظَمُ الذِّكرِ كلامُ اللَّهِ، ومِثْلُ ذِكْرِ اللَّهِ مَسُّ كتابِه، وكذلك فإنَّ قراءةَ القرآنِ بلا طهارةٍ مِن الحدَثِ الأصغرِ ولا مسٍّ للمُصْحَفِ جائزةٌ عندَ السلفِ، ولا يَكادونَ يختلِفونَ إلَّا في كراهتِها، وقد رَوَى سعيدُ بنُ جُبَيْرِ، عن ابنِ عبَّاسٍ وابنِ عمرَ؛ قال: كانا يَقْرَأَانِ أجزاءَهما مِن القرآنِ بعدَما يخْرُجانِ مِن الخلاءِ قبلَ أنْ يَتوضَّأَ (1).
وصحَّ مِثلُهُ عن قتادةَ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ؛ أنَّ أبا هريرةَ كان يخرُجُ مِن المَخرَجِ ثمَّ يحدُرُ السُّورةَ (2).
وبمِثلِهِ كان يُرخِّصُ ابنُ مسعودٍ (3) وأصحابُهُ كعَلْقَمةَ والأسودِ (4) وعبدِ الرحمنِ بنِ يَزيدَ (5)، وكذلك جاء عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ (6).
أخرَجَه ابنُ أبي شيبةَ عنهم.
وأمَّا صاحبُ الحدَثِ الأكبرِ، فأكثرُهُمْ على أنَّه لا يَقْرَأُ القرآنَ؛
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1102).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1103).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1106).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1101).
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1100).
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1101).
وهو قولُ عمرَ وعليٍّ وابنِ مسعودٍ، وصحَّ عن ابنِ عبَّاسٍ جوازُ ذلك، ورخَّص عِكْرِمةُ له بقراءةِ الآية والآيتَيْنِ.
وأمرُ الحائضِ أخفُّ وأيسَرُ مِن الجُنُبِ؛ لأنَّه يطولُ عليها حيضُها، وليس بيدِها رفعُهُ، بخلافِ الجُنُبِ؛ فإنَّه يَملِكُ رفعَ جنابتِه؛ فشُدِّدَ في أمرِه، فيجوزُ للحائض أنْ تَقْرَأَ القرآنَ؛ حتى لا تنساهُ، وتذكُرَ وِرْدَها، وتُحصِّنَ نقسَها في ذِكْرِها ليومِها وليلتِها.
ويختلِف العلماءُ في وجوبِ التطهُّرِ عندَ مسِّ المصحفِ؛ سواءٌ قصدَ القراءةَ أو غيرَ القراءةِ؛ وذلك لاختلافِهم في المعنى الذي تحتمِلُهُ هذه الآيةُ: هل يتعدَّى إلى مسِّ المُصْحَفِ الذي بأيدي الناسِ، أو هو خبرٌ عمَّا في اللَّوْحِ لا يَقتضي حُكْمًا؟ :
القولُ الأولُ: أنَّ الآيةَ تَحتمِلُ معنى المصحفِ؛ وعليه نصَّ الشافعيُّ، فقال: وهذا المعنى تحتمِلُهُ الآيةُ (1).
وهو الذي عليه جمهورُ العلماءِ وعامَّتُهم؛ أنَّه يجبُ التطهُّرُ عندَ مسِّ المصحفِ، وألَّا يَمَسَّ القرآنَ إلَّا طاهرٌ، وهذ مرويٌّ عن الأئمَّةِ الأربعةِ، وقد شدَّد في ذلك مالكٌ، وقال:"إنَّه لا يُمَسُّ ولو بحائلٍ كعِلَاقةٍ ووِسَادةٍ وقُمَاشٍ"(2).
وعلى هذا الصحابةُ وفقهاءُ الحجازِ كالفقهاءِ السَّبْعةِ وغيرِهم:
فقد جاء عن سَلْمانَ الفارسيِّ أنَّه قضى حاجتَهُ، فقيل له: لو توضَّأتَ؛ لعلَّنا نسألُك عن آيٍ مِن القرآنِ؟ فقال: سَلُونِي؛ فإنِّي لا أمَسُّهُ، وإنَّه لا يمَسُّهُ إلَّا المطهَّرونَ، قال: فسألْناه، فقرَأَ علينا قبلَ أن يوضَّأَ،
(1) أخرجه البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(1/ 185).
(2)
"موطأ مالك"(1/ 199)، و"تفسير القرطبي"(20/ 224).
أخرَجَهُ ابنُ أبي شَيْبة والدارقطنيُّ والبيهقيُّ؛ مِن حديثِ عبدِ الرحمنِ بنِ يزيدَ، عنه (1)؛ وهو صحيحٌ.
ورَوَى مالكٌ في "الموطَّأِ"؛ مِن حديثِ مُصْعَبِ بنِ سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ؛ أنَّه قال: "كُنْتُ أُمْسِكُ المُصْحَفَ عَلَى سَعْدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ، فَاحْتَكَكْتُ، فَقَالَ سَعْدٌ: لَعَلَّكَ مَسِسْتَ ذَكَرَكَ؟ ! قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: قُمْ، فَتَوَضَّأْ، فَقُمْتُ فتَوَضَّأتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ"(2).
وهو صحيحٌ.
ورُوِيَ في قصةِ إسلامِ عمرَ رضي الله عنه أنَّه قال حِينَ دخَلَ على أُختِه: فَإِذَا بِصَحِيفَةٍ وَسَطَ الْبَابِ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الصَّحِيفَة هَاهُنَا؟ فَقَالَتْ لِي: دَعْنَا عَنْكَ يَا بْنَ الْخَطَّابِ؛ فَإِنَّكَ لا تَغتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، ولا تَتَطَهَّرُ؛ وَهَذَا لا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ".
أخرَجَهُ الحاكمُ والبَزَّارُ، ثمَّ قال البزَّارُ:"وهذا الحديثُ لا نَعلَمُ رواهُ عن أسامةَ بنِ زيدٍ، عن أبيهِ، عن جدِّه، عن عمرَ، إلَّا إسحاقُ بنُ إبراهيمَ الحُنَيْنِيُّ، ولا نَعلَمُ يُروى في قصةِ إسلامِ عمرَ إسنادٌ أحسَنُ مِنِ هذا الإسنادِ"(3).
قلتُ: وإسحاقُ وأسامةُ ضعيفانِ في الحديثِ.
وقد رواهُ الدارقطنيُّ وغيرُهُ؛ مِن حديثِ القاسمِ بنِ عثمانَ، عن أنسٍ، والقاسمُ ليس بالقويِّ (4).
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1100)، والدارقطني في "سننه"(1/ 124)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 90).
(2)
أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 42).
(3)
أخرجه البزار في "مسنده"(البحر الزخار)(279)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 59).
(4)
أخرجه الدارقطني في "سننه"(1/ 123)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 59)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 88).
ورواهُ محمدُ بنُ عثمانَ بنِ أبي شيبةَ في "تاريخِه"، وعنه أبو نُعَيْمٍ؛ مِن حديثِ إسحاقَ بنِ عبدِ اللَّهِ، عن أَبَانَ بنِ صالحٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ به؛ وإسحاقُ متروكُ الحديثِ (1).
وقد رَوَى عبدُ الرحمنِ بنُ أبي الزِّنادِ، عن أبيه، عمَّن أدرَكَ مِن فقهاءِ أهلِ المدينةِ الذين يُنتهَى إلى قولِهم؛ أنَّهم كانوا يقولونَ:"لا يَمَسُّ القرآنَ إلَّا طاهرٌ"(2).
القول الثاني: قالوا بعدمِ احتمالِ الآيةِ لمعنى مسِّ المُصْحَفِ، وجوَّزُوا مسَّه بلا طهارةٍ؛ ورُوِيَ هذا عن أبي حنيفةَ وداودَ الظاهريِّ، وهو مرويٌّ عن الحَكَمِ وحمَّادٍ.
القولُ الثالثُ: جوازُ مسِّ حَواشِي المُصْحَفِ لا مسِّ حروفِه؛ وهو قولٌ لأبي حنيفةَ.
والأظهَرُ: أنَّ القرآنَ لا يُمَسُّ إلَّا عن طهارةٍ؛ تعظيمًا له، وإنْ لم تَحتمِلِ الآيةُ هذا المعنى، فيَحتمِلُهُ عملُ الصحابةِ والتابعينَ؛ فبه يقولُ سَلْمانُ الفارسيُّ وسعدٌ، ولا مُخالِفَ لهما مِن الصحابةِ، وإنْ لم يُقطَعْ بإثمِ مَنْ مَسَّهُ بغيرِ طهارةٍ؛ لعدمِ وجودِ النصِّ الصريحِ في ذلك، وإنَّما يُكتفى بالأمرِ بالطهارةِ؛ تعظيمًا للقرآنِ وتطهيرًا له، والسلفُ كانوا يَأْمُرونَ بأشياءَ ولا ينُصُّونَ على نوعِ الأمرِ وشِدَّتِه؛ لأنَّهم يُريدونَ الامتثالَ، حتى توسَّعَ الفقهاءُ في النظرِ، فأخَذُوا يُفصِّلونَ في مُجمَلِ ألفاظِهم وأوامرِهم وما يَنهَوْنَ عنه؛ حتى يُنسَبَ للواحدِ منهم أكثَرُ مِن رأي والقولُ عنه واحدٌ، وسندُهُ إليه واحدٌ، وحكايةُ الأمرِ لشيءٍ على سبيلِ الإجمالِ لا يُنافي الرُّفْقَ وتحريرَ الفقهِ، وقد يكونُ جملةً تعظيمًا للشريعةِ، وكثيرًا ما
(1)"حلية الأولياء"(1/ 40)، و"دلائل النبوة" لأبي نعيم (ص 241).
(2)
أخرجه البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(1/ 185).
يكونُ تفصيلُ الأوامرِ تهوينًا في نفوسِ الناسِ فيترُكُونَها زهدًا فيها؛ لأنَّهم يُرِيدونَ فِعْلَ الواجبِ وتَرْكَ المحرَّمِ والاقتصارَ عليه.
وإطلاقُ الأمرِ والنهي مِن غيرِ تمييزٍ لمرتبةِ المأمورِ به والمنهيِّ عنه: مِن الأساليبِ النبويَّةِ والصحابيَّةِ، ولو كان مستقِرًّا عندَ عامَّةِ الصحابةِ مرتبةُ المقصودِ مِن السياقِ، إلَّا أنَّه ليس مستقِرًّا عندَ كثيرٍ مِن التابعينَ ولا عندَ أكثَرِ أتباعِهم، وما كان الصحابةُ يَتكلَّفونَ التمييزَ في ذلك.
وقد جاء في السُّنَّةِ الأمرُ بالتطهُّرِ عندَ مسِّ المُصْحَفِ؛ كما رَوى مالكٌ في "موطَّئِه"، عن عبدِ اللَّهِ بنِ أبي بكرِ بنِ محمدِ بنِ عمرو بنِ حَزْمٍ؛ أن في الكتابِ الذي كتَبَهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لعمرِو بن حزمٍ:(أَنْ لا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ)(1).
ورَوَى أبو داودَ في "المراسيلِ"؛ مِن حديثِ الزُّهْريِّ؛ قال: قرأتُ في صحيفةٍ عندَ أبي بكرِ بنِ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حزمٍ؛ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (وَلَا يَمسُّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ)(2).
وكتابُ النيِّ صلى الله عليه وسلم لعمرِو بنِ حزمٍ ثابتٌ في أصلِه؛ وإنَّما الخلافُ في ثبوتِ بعضِ نصوصِهِ وحروفِه، وصحَّحَ أصلَ الكتابِ ابنُ مَعِينٍ (3) وأحمدُ (4) والشافعيُّ (5) ويعقوبُ بنُ سفيانَ (6).
وقد رَوَى الدارقطنيُّ؛ مِن حديثِ سالمٍ، عن ابنِ عمرَ مرفوعًا:(لَا يَمسُّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ)(7).
(1) أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 199).
(2)
"المراسيل" لأبي داود (94).
(3)
"تاريخ ابن معين"، رواية الدوري (647).
(4)
"مسائل الإمام أحمد"، رواية البغوي (38 و 73)، و"الكامل في ضعفاء الرجال" لابن عدي (3/ 275).
(5)
"الرسالة"(1/ 422 - 423).
(6)
"المعرفة والتاريخ"(2/ 216).
(7)
أخرجه الدارقطني في "سننه"(1/ 121).
وقد احتَجَّ أحمدُ بحديثِ ابنِ عمرَ هذا؛ كما قالهُ الأثرمُ (1).
وأمَّا ما رواهُ الشيخانِ، عن ابنِ عمرَ:"أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالقُرآنِ اِلَى أرْضِ العَدُوِّ"(2)، فذلك مخافةَ أن يَنالَه العدوُّ.
وقد كان بعضُ السلفِ يرخِّص في تحويلِ المصحفِ من موضعِ إلى موضعٍ بلا طهارةٍ، ولم يَجعَلوهُ كالمسِّ الطويلِ؛ كما صحَّ عن ابنِ سيرِينَ فيما رواهُ هشامٌ عنه، أنَّه لم يكنْ يَرَى بأسا أنْ يحوِّلَ الرجلُ المصحفَ وهو غيرُ طاهرٍ (3).
وجوَّز مِثلَ هذا بعضُ الفقهاءِ من الشافعيَّةِ.
وكتُبُ التفسيرِ ليستْ قرآنًا، فيجوزُ مسُّها بلا طهارةٍ، ومِن بابِ أَوْلى كتُبُ الفقهِ، والمراسلاتُ التي تتضمَّنُ قرآنًا؛ فقد رَوَى البخاريُّ ومسلمٌ؛ أنَّ في كتابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى هِرَقْلَ آيةً مِن القرآنِ الكريمِ، وهي قولُه تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64](4).
* * *
(1) ينظر: "التلخيص الحبير"(1/ 131)، و"نيل الأوطار"(1/ 259).
(2)
أخرجه البخاري (2990)، ومسلم (1869).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(7426).
(4)
أخرجه البخاري (7)، ومسلم (1773)؛ من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنه.