الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واختلَفُوا فيما إذا جعلَ زوجتَهُ كأُختِه، فقال: أنتِ عليَّ كظَهْرِ أُختي أو عمَّتي أو خالتي، وغيرِها مِن المَحَارِمِ.
والذي عليه جمهورُ العلماءِ؛ أنَّ ذلك كلَّه ظِهارٌ؛ وهو الصوابُ؛ لأنَّ الشريعةَ إنَّما حرَّمَتِ الظِّهارَ الملفوظَ في زمانِهم لِعلَّتِه، لا لمجرَّدِ ألفاظِه؛ فلا فرقَ بين ظَهْرِ الأمِّ وبطنِها؛ بل لو قال: فَرْجُها، لكان أغلَظَ مِن بطنِها، لأنَّ العلةَ فيه أظهَرُ وأصرَحُ، وكذلك أيضًا فالعلةُ في جميعِ المَحَارِمِ سواءٌ كانتِ ابنتهُ أو أختَهُ أو عمَّتَهُ أو خالتَهُ.
ولا يصحُّ مُظاهَرةُ المرأةِ لزوجِها، كأنْ تقولَ:(أنتَ عليَّ كأبي وأخي)؛ باتِّفاقِ الأئمَّةِ الأربعةِ؛ لأنَّ الظِّهارَ يُرادُ منه المفارَقةُ والطلاقُ، والعصمةُ بيدِ الرجُلِ لا بيدِ المرأةِ.
وليس في مُظاهَرتِها كفارة ظِهارٍ ولا يمينٍ، على الصحيحِ.
ومِن العلماءِ: مَن جعَلَ ظِهارَها مِن زوجِها يمينًا عليها يجبُ عليها فيها الكفارةُ، وقد أوجبَ الكفارةَ عليها كفارةَ يمينٍ: الأوزاعيُّ (1).
كفارةُ الظِّهارِ:
قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} : في العَودِ المذكورِ في الآيةِ خلافٌ عندَ السلفِ ومَنْ بعدَهم مِن الفقهاءِ، على أقوالٍ:
منهم مَن قال: إنَّ المرادَ بالعَوْدِ هو العودةُ إلى المُظاهَرةِ بعدَ تحريمِها، فحمَلُوا العَوْدَ على الظِّهارِ؛ وهذا رُوِيَ عن مجاهِدٍ (2) وطاوسٍ (3)، وروايةٌ عن أبي حنيفةَ، ولازمُ هذا القولِ: أنَّ كفارةَ الظِّهارِ تجبُ بمجرَّدِ المُظاهَرةِ ولو رَغِبَ الزوجُ في مُفارَقةِ زوجِته بلا رجعةٍ.
(1) ينظر: "الاستذكار"(17/ 127)، و"تفسير القرطبي"(20/ 289).
(2)
"تفسير البغوى"(8/ 51).
(3)
"الدر المنثور"(14/ 309).
ومنهم مَن قال: إنَّ العَودَ هو تَكْرارُ الظِّهارِ أكثَرَ مِن مرةٍ، فجعَلُوا التَّكْرارَ عَوْدًا؛ وهذا قولُ داودَ (1)؛ وفيه نظرٌ؛ لأنَّ التَّكرارَ إنَّما هو تأكيدٌ لا عَوْدٌ.
ومنهم مَن قال: إنَّ المرادَ بالعَوْدِ هو العودةُ إلى الزوجةِ والرغبةُ في إبقائِها في عِصْمَتِهِ وعدمِ مُفارَقتِها؛ وهذا الأرجحُ، وهو قولُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ، وبه قال جماعةٌ مِن السلفِ؛ كأبي العاليةِ وسعيدِ بنِ جُبَيْرِ والحسنِ وقتادةَ (2)، ولازمُهُ: أنَّ الزوجَ إنْ ظاهَرَ وأَمضى ظِهَارَهُ وفارَقَها، فلا شيءَ عليه.
ولكنَّ منهم: مَن قيَّد العَودَ بالوطءِ كمالكٍ، ومنهم: مَن وسَّعَهُ وجعَلَهُ إرادةَ الوطءِ والإبقاءَ بالعِصْمةِ ولو مِن غيرِ وطءٍ، والأخيرُ أظهَرُ؛ وهو قولٌ لأبي حنيفةَ وأحمدَ، وظاهرُ كلامِ الشافعيِّ.
وأمَّا الظِّهارُ المؤقَّتُ؛ كأنْ يقولَ: أنتِ عليَّ كأُمِّي شهرًا كاملًا، فيُعتبَرُ فيه التوقيتُ في قولِ جمهورِ العلماءِ؛ فمَن فارَقَ زوجتَهُ مدةَ توقيتِه، فظِهارُهُ يَنتهي بتوقيتِهِ، وتسقُطُ عنه الكفارةُ؛ وهو مذهب الحنفيَّةِ والحنابلةِ والشافعيةِ في القولِ الأظهَرِ، ولا يكونُ المُظاهِرُ عائدًا إلَّا بالوطءِ في المُدَّةِ.
وذهَبَ المالكيَّةُ وبعضُ الشافعيَّةِ في غيرِ الأظهَرِ: إلى أنَّ الظِّهارَ لا يصحُّ فيه التوقيتُ، فإنْ قيَّدَهُ بوقتٍ، تأبَّدَ كالطلاقِ، ويَصيرُ مظاهِرًا أبدًا؛ لوجود سببِ الكفارةِ.
ومنهم: مَن جعَلَ الظِّهارَ المؤقَّتَ لَغْوًا، فلم يُرتِّبْ عليه شيئًا، وهو قولٌ لبعضِ الشافعيَّةِ؛ وفيه نظرٌ.
(1)"تفسير القرطبي"(20/ 294 - 295).
(2)
ينظر: "تفسير ابن كثير"(8/ 39 - 40).
وحُمِلَتِ اللامُ في قولِه: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} على معنى (في)؛ وذلك نحوُ قولهِ تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]؛ يعني: "فيه"، وقوله:{لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187]؛ يعني: في وقتها.
وكفارةُ الظِّهارِ كما في الآيةِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} ، والكفارةُ على الترتيبِ المذكورِ بلا خلافٍ.
ولا يجوزُ له قُرْبُ زوجتِهِ بجِمَاعٍ قبلَ تكفيرِه؛ وذلك لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} ، وصحَّ عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّ المَسَّ الجِمَاعُ (1)، وبه قال عطاءٌ والزُّهريُّ وقتادةُ ومُقاتِلُ بن حَيَّانَ (2)، وهو قولُ أحمدَ والشافعيِّ.
وذهبَ جمهورُ العلماءِ: إلى أنَّ المسَّ هو المباشَرةُ ولو دُونَ الفَرْجِ، وهو قولُ مالكٍ وأبي حنيفةَ والشافعيِّ في قولٍ له، وقد قال الزُّهْريُّ:"ليس له أنْ يُقبِّلَها ولا يَمَسَّها حتى يُكفِّرَ"(3).
وقد جعَلَ مالكٌ النظرَ إلها بتلذُّذٍ في حُكْمِ المسِّ.
ومَن مَسَّ امرأتَهُ بعدَ ظِهارهِ منها وقَبلَ كفَّارته، فلا يُسقِطُ مسُّهُ وجوبَ الكفارةِ عليه، وهو بفعلِهِ ذلك آثِمٌ يجب عليه التوبةُ، وقد رَوَى أهلُ السُّننِ؛ مِن حديثِ عِكْرِمةَ، عن ابنِ عبَّاسٍ؛ أنَّ رجلًا قال: يا رَسولَ اللَّهِ، إِنِّي ظَاهَرتُ مِنِ امْرَأَتِي، فَوَقَعْتُ قَبلَ أَنْ أَكَفِّرَ؟ قَالَ:(وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ؟ )، قَالَ: رَأَيْتُ خَلخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ،
(1)"تفسير الطبري"(22/ 461).
(2)
"تفسير ابن كثير"(8/ 40).
(3)
"تفسير ابن كثير"(8/ 40).
فَقَالَ: (لَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ عز وجل (1).
والصوابُ إرسالُهُ عن عِكْرِمةَ (2).
وذهَبَ بعضُهم: إلى أنَّ على مَنْ مَسَّ قبلَ الكفارةِ كفارتَيْنِ.
والصحيحُ: أنَّ عليه كفَّارةً واحدةً؛ وهو قولُ الأئمَّةِ الأربعةِ، وقد روَى سليمانُ بنُ يَسَارٍ، عن سلَمةَ بنِ صَخْرٍ البَياضِيِّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فِي المُظَاهِرِ يوَاقِعُ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ، قَالَ:(كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ)(3).
* * *
كان اليهودُ إن مَرَّ بهم مسلِمٌ تناجَوْا؛ حتى يظُنَّ المسلِمُ أنَّهم يَقصِدُونَهُ ويَأتمِرونَ عليه لِيَحْزَنَ ويَخشى، وقد كانوا يُحَيُّونَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بغيرِ تحيَّةِ الإسلامِ، فيقولونَ:(السَّامُ عليكَ)؛ ليُوهِمُوهُ بأنَّهم يُسلِّمونَ عليه، وهم يدْعُونَ عليه بالموتِ.
وفي "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ عائشةَ رضي الله عنها؛ أنَّ اليَهُودَ دَخَلُوا عَلَى
(1) أخرجه الترمذي (1199)، والنسائي (3457)، وابن ماجه (2065).
(2)
أخرجه أبو داود (2221، 2222)، والنسائي (3458، 3459).
(3)
أخرجه الترمذي (1198)، وابن ماجه (2064).