الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الفتح
سورةُ الفتحِ مدنيَّةٌ، وبه قال ابنُ عبَّاسٍ ومجاهِدٌ (1)، وقد رَوى الزُّهْريُّ، عن عُرْوةَ بنِ الزُّبَيْرِ، عن المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ ومَرْوَانَ؛ قالا:"نزَلتْ سورةُ الفتحِ بينَ مكَّةَ والمدينةِ؛ كلُّها في شأنِ الحُدَيْبِيَةِ"(2)، وفي "صحيح مسلم"؛ مِن حديثِ أنسٍ؛ أنَّها نزَلتْ مُنصرَفَهُ مِن الحُدَيبِيَةِ، ثمَّ قال:(لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا)(3).
وقد حَكَى الإجماعَ على مدَنيَّتِها جماعةٌ؛ كالزَّجَّاجِ وابنِ الجَوْزِيِّ وغيرِهما (4)، وتضمَّنَتِ السُّورةُ البُشْرَى بالفتحِ المُبِينِ للمؤمنينَ، وذلك إشارةٌ إلى صُلْحِ الحُديبيَةِ وما يَعقُبُهُ مِن خيرٍ، وتضمَّنَت فضلَ أهلِ بَيْعَةِ الشجرةِ مِن الصحابةِ، ووجوبَ الإعدادِ، وخطرَ النِّفاقِ، وبيانَ أهلِ الأعذارِ عن الجهادِ، وفيها ذِكْرُ الصِّراعِ بينَ المؤمِنِينَ والمشرِكِين.
* * *
(1) ينظر: "معاني القرآن" للنحاس (6/ 491)، و"تفسير القرطبي"(19/ 294)، و"الدر المنثور"(13/ 454).
(2)
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(20/ 17) والحاكم في "المستدرك"(2/ 459)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 223).
(3)
أخرجه مسلم (1786).
(4)
"معاني القرآن وإعرابه" للزجاج (5/ 19)، و"زاد المسير"(4/ 125)، و"تفسير القرطبي"(19/ 294).
* قال اللَّهُ تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)} [الفتح: 16].
خَصَّ اللَّهُ الأعرابَ بالخِطَابِ في هذه الآيةِ عندَ قُرْبِ قتالِ المُسلِمنَ للمشرِكِينَ؛ وذلك لِمَا سلَفَ منهم مِن تَوَلِّ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ورغبةٍ بأنفُسِهم عن نفسِه، وأمَّا القومُ الذين وصَفَهُمُ اللَّهُ بأنَّهم أُولُو بأسٍ شديدٍ، فقيل: إنَّهم هَوَازِنُ، وقيل: إنَّهم ثقيفٌ، وقيل: إنَّهم بنو حَنِيفةَ، وقبل: إنَّهم الفُرْسُ والرُّومُ، وقيل: التُّرْكُ؛ وبكلِّ هذا قال بعضُ السلفِ، والأظهرُ: عمومُ ذلك لكلِّ قومٍ يُقاتِلُهم المُسلِمونَ على الكفرِ.
وتتضمَّنُ هذه الآيةُ وجوبَ الجهادِ عندَ استنفارِ الإمامِ؛ لظاهرِ قوله تعالى: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ} ، ثمَّ توعَّدهم إنْ تخلَّفوا:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)} ، وقد تقدَّم الكلامُ على حُكْمِ استنفارِ الإمام وإجابتِهِ عندَ قولِهِ تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)} [آل عمران: 155]، وقولِه تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38]، وقولِه تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)} [النساء: 71].
وفي قولِه تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} دليلٌ على دَيْمُومةِ الجهادِ ما وُجِدَ الإسلامُ والكفرُ؛ وهذه الآيةُ نظيرُ قولِ اللَّهِ تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} [البقرة: 193].
وقد تقدَّم الكلامُ على دَيْمُومةِ الجهادِ عندَ قولِه تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)} [الأنفال: 61]، وقولِهِ تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)} [المائدة: 35].
* * *
* قال اللَّهُ تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)} [الفتح: 17].
لمَّا بيَّن اللَّهُ حُكْمَ الجهادِ ووجوبَهُ عِندَ النفيرِ، بيَّن عُذْرَ أهلِ الأعذارِ وفصَّل الأمرَ بينَ القادِرِينَ وبينَ العاجِزِينَ؛ حتى لا يَتوهَّمَ أحدٌ أنَّه قادِرٌ وهو عاجِزٌ، ولا يَتوهَّمَ أحدٌ أنَّه عاجِزٌ وهو قادِرٌ.
وقد تقدَّم الكلامُ على أهلِ الأعذارِ الذين يجوزُ تخلُّفُهم عن الجهادِ عندَ قولِهِ تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91].
* * *
* قال اللَّهُ تعالى: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)} [الفتح: 19 - 20].
في هذه الآيةِ: مِنَّةُ اللَّهِ على المؤمِنِينَ في حِلِّ الغنائمِ لهم والأنفالِ وما أصابُوهُ مِن المشرِكِين، وقد سمَّاهُ اللَّهُ حلالًا طيِّبًا؛ كما قال تعالى في الأنفالِ:{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 69].
وقد تقدَّم الكلامُ على الغنائمِ بأنواعِها في صَدْرِ سورةِ الأنفالِ، وفي قولِه تعالى منها:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [41]، وفي البقرةِ عندَ قولِهِ تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [216]، وقولِهِ تعالى في آلِ عِمْرانَ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [161].
* * *
ذكَرَ اللَّهُ ما فعَلَتْهُ قريشٌ مِن أمرٍ عظيمٍ، وهو صدُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومَنْ معه مِن المُسلِمِينَ مِن الدخولِ إلى حَرَمِ اللَّهِ، ومَنَعُوهم مِن إيصالِ هَدْيِهم أنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ فيُنحَرَ يومَ النحرِ للَّهِ، فجعَلَ اللَّهُ ذلك أمرًا عظيمًا، وعملًا خطيرًا، وقد توعَّدَهم اللَّهُ بالعذابِ؛ كما قال تعالى:{وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)} [الأنفال: 34].
وقد تقدَّم الكلامُ عن مسألةِ الصدِّ عن المسجدِ الحرامِ وما فعَلَتْهُ قريشٌ عندَ قولِهِ تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].
* * *
* قولُه تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح: 25].
كان في مَكَةَ مُسلِمونَ يكتُمُونَ إسلامَهُمْ؛ منَعَهُمْ مِن الهِجْرةِ والخروجِ العُذْرُ؛ فبيَّن اللَّهُ أنَّه لم يُسلطِ المؤمنينَ على الكافرينَ في مكةَ فيَستبيحُوهُمْ قتلًا وتشريدًا بسببِ طائفةٍ مؤمنِةِ تكتُمُ إيمانَها خوفًا ورهبةً، وبيَّن اللَّهُ أن هؤلاءِ المؤمِنِينَ مُخْتَفُونَ؛ {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} ، وأنَّكم لو أَصَبْتُموهم، أصبتُموهم بغيرِ عِلْمٍ.
وفي هذا تعظيمُ دمِ المسلمِ وبيانُ شديدِ حُرْمَتِه، فأخَّر اللَّهُ قتالَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم للمشرِكِينَ؛ حتى تتحَقَّقَ مِن ذلك مصالحُ؛ منها خلاصُ المُسلِمِينَ بأنفُسِهم فيَلْحَقُونَ بالمؤمنينَ، وكذلك مَن كان في ريبٍ مِن المشرِكِينَ وتردُّدٍ، وكتَب اللَّهُ عليه الرحمةَ: أنْ يَلحَقَ بالمؤمنِين.
وفد بيَّن اللَّهُ تعالى أنَّه إنَّما أخَّر الأمرَ بالقَتالِ لأجلِ ذلك، فقال:{لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)} ؛ يعني: لو تَمَايَزوا وخرَجَ المؤمنونَ عن الكافرينَ، لاستحَقُّوا القتالَ والنَّكَالَ والعذابَ بأَيدِي المؤمنِين.
وقد صحَّ عن قتادةَ؛ أنَّه قال: "هذا حيِنَ رُدَّ محمدٌ وأصحابُهُ أنْ يدخُلُوا مكةَ، فكان بها رجالٌ مؤمنونَ ونساءٌ مؤمناتٌ، فكَرِهَ اللَّهُ أنْ يُؤْذَوْا أو يُوطَؤوا بغيرِ عِلْمٍ، فتُصيبَكم منهم مَعَرَّةٌ بغيرِ عِلْمٍ"(1).
وقد رُويَ أنَّ عددَ أولئك المؤمنينَ المُختلِطينَ بالمشرِكينَ ومَن قصَدَ اللَّهُ بالرحمةِ قليلٌ؛ حتى قيل: إنَّهم تسعةُ نَفَرِ؛ كما رَوَى الطبرانيُّ؛ مِن حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عوفٍ؛ قال: "سمعتُ جُنَيْدَ بنَ سَبُعٍ يقولُ: قاتَلْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أولَ النهارِ كافرًا، وقاتَلْتُ معه آخِرَ النهارَ مسلِمًا، وفينا نزَلَتْ:{وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} ، قال: كنَّا تسعةَ نَفَرٍ: سبعةَ
(1)"تفسير الطبري"(21/ 305).