الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأَحَبَّ أن يزولَ العدوُّ الأعلى بالعدوِّ الأدنى، بدلًا مِن قتالِ عدوَّيْنِ، أو قتال العدُوِّ الأعلى.
وفَرَحُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بما يَغِيظُ قريشًا دليلٌ على استحبابِ الفرحِ بما يَغيظُ ويُصيبُ العدوَّ المُحارِبَ، وقد اعتبَرَ اللَّهُ مِن مقاصدِ قتالِ العَدُوِّ: شفاءَ صدورِ المؤمنينَ، وذَهَابَ غَيْظِ قلوبِهم؛ كما تقدَّم عندَ قولِه تعالى:{وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 14 - 15].
وفي هذه الآياتِ: بيانٌ لحِكْمةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ في معرفةِ مَراتبِ الأعداءِ قُرْبًا وبُعْدًا مِن الحقِّ؛ فإنَّ الأعداءَ ليسوا على بابٍ واحدٍ في الشرِّ والعَدَاءِ، ولا يَتعامَلُ مع الأعداءِ على أنَّهم شيءٌ واحدٌ إلَّا وهو يتعاملُ مع الحُلَفاءِ على أنَّهم شيءٌ واحدٌ، فيُؤتَى مِن مَأْمَنِه، ويجتمِعُ أعداؤُهُ عليه فيَستأصِلُونَه؛ وهذا جهلٌ بالسياسةِ، وليس مِن الفِقْهِ في الدِّينِ.
رِهانُ أبي بَكْرٍ بِمَكَّةَ، والرِّهَانُ في إظهارِ الحقِّ:
وقد راهَنَ أبو بكرٍ بعضَ قريشٍ في غَلَبةِ الرُّومِ على فارسَ؛ كما تقدَّمَ في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ وابنِ مسعودٍ والبَرَاءِ ونِيَارٍ، وجاءتِ القصةُ مِن مُرْسَلِ قتادةَ (1)، وعِكْرِمةَ (2)، وابنِ شهَابٍ، وعبدِ اللَّهِ بنِ عُتْبةَ بنِ مسعودٍ (3)، وقد كان ذلك بمكةَ قبلَ تحريمِ الجَهالةِ والغَرَرِ والرِّبا، والنهيُ عن المُقامَرةِ ونزولُ آيتِها كان بالمدينةِ في غزوةِ بني النَّضِيرِ بعدَ أُحُدٍ، وقد اختلَفَ العلماءُ في دخولِ رِهَانِ أبي بكرٍ في النهي؛ فإنْ كان داخلًا فهو منسوخٌ، وإنْ لم يكنْ داخلًا في النهي، فهو داخلٌ في عمومِ ما استُثنِيَ؛ كما روى أحمدُ وأهلُ السُّننِ؛ مِن حديثِ أبي هريرةَ؛ قال: قال
(1)"تفسير الطبري"(18/ 454)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(9/ 3087).
(2)
"تفسير الطبري"(18/ 450).
(3)
"تفسير ابن أبي حاتم"(9/ 3087).
رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ فِي حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ)(1)؛ وذلك أنَّ غلَبةَ الرومِ على الفُرْسِ كان عامَ الحُدَيْبِيَةِ، وبه استحَقَّ أبو بكرٍ المالَ على رِهَانِه.
وقد قال بأنَّ فِعْلَ أبي بكرٍ داخلٌ في المنسوخِ جمهورُ العلماءِ؛ وذلك أنَّ الفقهاءَ يرَوْنَ منعَ الرِّهَانِ إذا كان المالُ مِن الجميعِ حتى فيما استُثنِيَ في الحديثِ، ما لم يدخُلْ محلِّلٌ، وجعَلُوا ما جاء به حديثُ أبي بكر أَوْلى بالمنعِ والقولِ بنَسْخِه، وأنَّ الحديثَ استثنى مِن السَّبَقِ المالَ المبذولَ مِن بعضِ المتسابِقِينَ لا مِن الجميعِ، وأمَّا مِن الجميعِ فلا يُجِيزُونَهُ إلَّا بمحلِّلٍ؛ ليتحوَّلَ مِن مالٍ بذَلَهُ الجميعُ إلى مالٍ بذَلَهُ بعضُهم؛ كما يأتي بيانُه.
وقال الحنفيَّةُ بجوازِ الرِّهَانِ بينَ المسلمِ والحَرْبيِّ؛ لإظهارِ الحُجَّةِ؛ وقوةِ الحقِّ.
وبعضُ العلماءِ عمَّمَ وقال بجوازِ المسابَقَةِ في إظهارِ الحُجَّةِ التي بها يحرَّضُ الناسُ على الحقِّ، ويُدفَعُ الشرُّ، وتُفتَحُ القلوبُ للإسلامِ، وبها يَعتزُّ ويرتفعُ، وأيَّدَ هذا القولَ ابنُ تيميَّةَ وابنُ القيِّمِ، وعلى هذا حُمِلَ حديثُ مصارَعَةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لرُكَانَةَ.
ومِن أسبابِ الخلافِ: أنَّ العلةَ الجامعةَ للثَّلَاثِ التي استثناها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِن الرِّهانِ المحرَّمِ: الجامعُ بينَها إظهارُ القوةِ وإعدادُ العُدَّةِ للجهادِ بالسِّنَانِ واللِّسَانِ؛ سواءٌ كان برمي السِّهامِ، وهو قولُه:"نَصْلٍ"؛ يعني: سهمًا، أو كان بسباقِ الخيلِ، وَهو قولُه:"حَافِرٍ"، أو بسباقِ الإبلِ، وهو قولُه:"خُفٍّ"، أو كان ذلك بالمُناظَرَاتِ والحُجَجِ؛ فمَنْ رأى
(1) أخرجه أحمد (2/ 474)، وأبو داود (2574)، والترمذي (1700)، والنسائي (3585)، وابن ماجه (2878).
عمومَ هذه العلةِ، أدخَلَ فيها ما في حُكْمِها ممَّا يُظهِرُ قوةَ الإسلامِ وعِزَّتَهُ، فأجازُوا الرِّهَانَ في مسائلِ العلمِ، والرهانَ على المباحَثَاتِ والمناظَرَاتِ، وخاصَّةً ما كان بينَ المُسلِمينَ وغيرِهم مِن رؤوسِ المِلَلِ الكُفْرِيَّةِ؛ كرُهْبانِ النصارى وأحبارِ اليهودِ.
والجمهورُ القائلونَ بالمنعِ يختلِفونَ في الحيوانِ الذي يجوزُ فيه أخذُ السَّبَقِ، وهو (العِوَضُ)، واختلافُهُمْ دليلٌ على عدمِ استقرارِ علةِ الترخيصِ الواردِ في الحديثِ عندَهم:
فالأظهرُ عندَ الشافعيَّةِ جوازُ السَّبَقِ بأنْ يكونَ في الخيلِ، والإبلِ، والفِيلِ، والبغلِ، والحمارِ، ويَرى المالكيَّةُ: أنَّه مقصورٌ على الخيلِ والإبلِ، ويَرى الحنفيَّةُ: جوازَ السَّبَقِ على الأرجُلِ بلا رُكُوبٍ.
والأظهرُ: عمومُ العلةِ في كلِّ قوةٍ يكونُ في مِثْلِها إعدادٌ وظهورٌ للحقِّ؛ فإنَّ الاقتصارَ على نصِّ الحديثِ يَقصُرُهُ على رمي السِّهامِ، ويَمنَعُ من الرمي بالسلاحِ والرصاصِ اليومَ؛ وهو أشَدُّ وأعظَمُ نِكايةً في العدوِّ؛ ولا يشُكُّ عاقلٌ في هذا.
وقد تصارَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مع رُكَانَةَ على شاةٍ يَغْرَمُها المغلوبُ، ورُويَتْ تلك القصةُ بأسانيدَ، منها المتصِلُ، ومنها المُرسَلُ، يدُلُّ على أنَّ لها أصلًا، ولم يُنكَرِ الفعلُ الواردُ فيها مِن نُقَّادِ المتونِ، وأمَّا ما رَوى أبو داودَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أرجَعَ المالَ لِرُكَانةَ ولم يأخُذْهُ، فهو مخرَّجٌ في "مَراسيلِه"(1).
وجهادُ اللِّسَانِ أَمْضَى مِن جهادِ السِّنَانِ لِمَنْ قدَرَ عليه وسدَّدَه اللَّهُ، وقد سمَّى اللَّهُ جهادَ اللِّسَانِ جهادًا كبيرًا؛ فقال:{وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان 52]، وسمَّاهُ حقَّ الجهادِ:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78]، وهذا كان بِمَكَّةَ، ولم يُسَمِّ اللَّهُ جهادَ السِّنانِ
(1)"المراسيل" لأبي داود (308).